جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

أحدّثكم من معرض أبوظبى الدولى للكتاب «١-٥»

رغم كل شىء.. كيف يستطيع هذا الوطن أن يسكنك وتستكين به فلا يبارح شرايينك! أى سحر ينفثه فيعيدك طفلًا صغيرًا يتعلق فى ذيل نغمة من موسيقاه، حرف من كتابه، لون من أطيافه، فتملأ الدموع مقلتيك حنينًا وشوقًا وفخرًا أنك تنتمى إليه، أى حظ أن تكون مصريًا وأنت زائر لبلد تطأ قدماك أرضه فى زيارة سريعة عابرة.. فتجد أن أهله قد احتفوا بك فقط لأنك مصرى.. وتكون اللحظات الأولى لإشراقة شمس أول نهار فى غربتك المؤقتة مشبعة بدفء الهوى المصرى. فيتجسد النيل نهرًا دفاقًا متدفقًا وتستند إلى أهرامات ومسلات ومعابد ومسحة حزن شجى تلون قسمات فلاحة مصرية تمسح بطرف طرحتها دمعة فرح مباغت، وتتمتم من خلف ابتسامة متوارية: اللهم اجعله خيرًا. 

يتداخل الزمان والمكان وتتحول القاعة المكيفة فى مركز المعرض فى مدينة أبوظبى إلى بساط أخضر، قطعة من دلتا الوادى، ساحة من ميادين التحرير والدقى والعباسية والسويس والإسماعيلية، رصيف انتظار محطة سكك حديد مصر، تتكثف رائحة البن فى شارع الألفى.. ويتحول حفل تسليم جائزة الشيخ زايد للكتاب الذى تم تنظيمه بأناقة ورقى تناسب رهافة وبساطة أهل الإمارات إلى فرح مصرى. 

ويتم الإعلان عن تكريم دار العين المصرية لحصولها على الجائزة فى فرع النشر والتقنيات الثقافية، وتصعد السيدة فاطمة البودى منصة التكريم فى فستان من الدانتيل الأبيض، يخطف العيون، ويصير الأبيض ملكًا للتتويج، الأبيض يليق بالفرحة بالزهو، الأبيض لون المستقلين الواثقين المتفوقين المتفائلين محبى الحياة والقادرين على الاستمتاع بكل الهبات الربانية ومصدر الطاقة الإيجابية لكل من حولهم.

يطول التصفيق الذى يقوده الحضور من المصريين تقديرًا لجهود صاحبة ومديرة الدار التى وصل العديد من رواياتها إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، وآخرها هذا العام مع رواية الوجع والغربة «أيام الشمس المشرقة» للكاتبة الراسخة: ميرال الطحاوى.

وتكتمل البهجة بتكريم الموسيقار الكبير عمر خيرت واختياره شخصية العام الثقافية للجائزة فى دورتها السابعة عشرة، وهنا يصير التصفيق لحنًا يعكس صدى موسيقى الفنان صاحب البصمة والحضور المتوهج، والذى رسخ فى ثقافتنا العربية فكرة الاستماع للموسيقى الخالصة، وجعل من حضور حفلاته فى دار الأوبرا أو المهرجانات الموسيقية طقسًا، تكون فيها الموسيقى وحدها دون الكلمات كعبة نتوجه إليها.

لا يكتفى القائمون على المعرض برئاسة الرجل الدءوب والذى يُكن محبة عظيمة لمصر وتقديرًا للمصريين الدكتور على بن تميم بحفل التكريم. بل يتم تخصيص ندوة ليلتقى الموسيقار الكبير مع جمهوره وجهًا لوجه فى ندوة تديرها الإعلامية الكبيرة هالة سرحان، ليقدم لنا معزوفة بالكلمات عن سيرة حياته والإرث العائلى الكبير الذى ثبت جذوره فى عالم الموسيقى من والده المعمارى الشهير على خيرت، الذى أكن له تقديرًا، خاصة وهو الرجل الذى صمم المسجد الأقرب لروحى وسكنى، وهو مسجد صلاح الدين بالمنيل عام ١٩٥٩، وعمه الموسيقار الرائد أبوبكر خيرت، مؤسس الكونسرفتوار، وعن دعم وتشجيع عبدالوهاب له وصداقته مع عزت أبوعوف ودور الفنانة فاتن حمامة فى تقديمه للجمهور من خلال تقديم خلفيات موسيقية لصوتها وهى تؤدى بعض الأدعية فى برنامج إذاعى سجلته لشهر رمضان، ومن بعدها تعاونها معه فى فيلم «ليلة القبض على فاطمة»، ومسلسل «ضمير أبلة حكمت»، لينطلق فى عالم الشهرة والجماهيرية، ومع تدفق الذكريات يتجدد ألق هالة سرحان وهى تحاوره بأسئلتها المشاغبة عن الحب فى حياته، وتحاول أن تفتح خزانة الأسرار لكن الرجل يناور قليلًا، وإن كان يعترف ببساطة بأن حظه فى الحب قليل، فلم يجد من تتحمل غرامه الدائم بالموسيقى. 

ويكون مسك ختام هذه الأمسية عندما يقوم عمر خيرت بالعزف على البيانو.. فيتحول كل الحضور للإحاطة به وترتفع الموبايلات لتسجل هذه اللحظات الساحرة.

ويسرى فى المكان سحر مصرى قادم من أعماق الوجود، حيث تبث إيزيس موسيقاها فى كل خطوة تخطوها، وهى تبحث عن جسد مليكها أوزوريس، يحدوها الأمل دائمًا فى تحقيق المستحيل وبعث الراقد فى العدم، فيطيب الهواء ويحل الصمت المهيب سوى نغمات تصدر من أصابع الوريث حورس رب التوافق والنظام..

يتوافد كل حضور المعرض إلى نقطة النور، وترتفع الأكف تصفق على نغمات موسيقى «عم أحمد» و«ضمير أبلة حكمت»، تقشعر الأبدان وتتجمع الدموع فى العيون.. هل نحن ملوك الشجن؟ نعم، نحن من لم يكتف بالحنين وجعلناه تحنانًا.. وهذه روح مصر الخالدة، هذا سر قوتها، أصابع تعزف بالألحان، بالكلمات، بالألوان، ليس لدينا سوى أرواحنا المسكونة بالخلود حتى وإن أحاطنا العدم.. 

شكرًا لعمر خيرت، شكرًا لكل من يردنا لجذورنا ونسترد معه أرواحنا.. 

شكرًا لمعرض أبوظبى الدولى للكتاب.. القصص لا تنتهى، وما زالت للمعرض حكايات.