جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

خريطة جديدة.. كيف تقرأ إسرائيل التغيرات السياسية فى الشرق الأوسط؟

عودة سوريا للجامعة
عودة سوريا للجامعة العربية

تغييرات كبيرة وانعطافات سياسية حادة شهدها الشرق الأوسط خلال الأشهر الأخيرة، على رأسها استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وعودة سوريا للجامعة العربية، والتقارب التركى مع السعودية ومصر، والميل نحو التهدئة فى اليمن، وغيرها من التغيرات التى تخلق مرحلة جديدة فى خريطة العلاقات بين دول المنطقة. 

وفى مواجهة ذلك، يراقب الإسرائيليون بحذر خريطة المصالح التى تتغير فى الشرق الأوسط، وسط مساعى الدول الكبرى بالمنطقة إلى تهدئة التوترات فيما بينها، وإحلال الدبلوماسية محل الصراعات، ما ينذر بتحديات جديدة تضع تل أبيب أمام حسابات جديدة للمكاسب والخسائر، وهو ما نستعرضه فى السطور التالية.

تحديات بعد عودة سوريا للجامعة العربية والتقارب السعودى الإيرانى 

تغييرات كثيرة بدأت فى السنوات الأخيرة، لكن نتائجها ظهرت خلال الأشهر الماضية، على رأسها عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وما نتج عن ذلك من ظهور الرئيس السورى بشار الأسد لأول مرة فى قمة جدة بالمملكة العربية السعودية قبل أسبوعين، وقبلها كان استئناف العلاقات بين السعودية وإيران، وتهدئة التوتر مع قطر، والتحركات لإنهاء الحرب فى اليمن، بل ومحاولات التهدئة والتقارب بين إيران من ناحية، ومصر والأردن من ناحية أخرى، وكذلك بين تركيا من ناحية، والسعودية ومصر من ناحية أخرى.

المشهد الأول اللافت للانتباه كان بين السعودية وتركيا وإيران كل على حدة؛ إذ تتحرك الرياض باستراتيجية جديدة فى المنطقة، تستهدف من خلالها بناء تحالفات جديدة، واتباع سياسة «أبق أصدقاءك وأعداءك بالقرب منك». 

فقبل استئناف علاقاتها مع إيران، قامت السعودية بمحاولة ترميم علاقتها مع تركيا، عندما استأنفت علاقاتها مع الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، الذى خاض معركة دبلوماسية ضدها بسبب مقتل الصحفى جمال خاشقجى، بل إن الرياض ساعدت «أردوغان» بمليارات الدولارات لمواجهة الأزمة الاقتصادية فى أنقرة.

المشهد الثانى هو عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وهو التحرك الذى بدأ تدريجيًا منذ عام ٢٠١٨، عندما استأنفت الإمارات علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا، وهو التوقيت الذى يمكن اعتباره الحدث الأول فى إنهاء المقاطعة العربية لدمشق، لكن فى حينه كانت أغلب الدول العربية، وعلى رأسها السعودية وقطر، تعارض تلك الخطوة.

وفى حينه، حذرت الولايات المتحدة أبوظبى من التقارب مع دمشق، وكان «قانون قيصر»، الذى أصدره الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، ويفرض عقوبات ليس فقط على سوريا، بل على كل دولة أو كيان يقوم بصفقات تجارية مع النظام السورى، قد دخل حيز التنفيذ وعرّض منظومة العلاقات بين حلفاء الولايات المتحدة وبين الإدارة الأمريكية للخطر، والآن، ورغم أن العقوبات لا تزال مفروضة على سوريا فإن الدول العربية قررت التطبيع معها.

وفى الحقيقة لا يمكن فصل المشهدين الأول والثانى عن بعضهما، فالتطبيع مع سوريا يرتبط بشكل وثيق باستئناف السعودية علاقاتها مع إيران، ومن ناحية أخرى فإن هذه التحركات تمثل إنجازًا سياسيًا لإيران، ومن الممكن مع الوقت أن يمنح شرعية دولية لطهران وتحركاتها فى المنطقة، مما يلقى بظلاله على إسرائيل.

المشهد الثالث المثير أيضًا للانتباه هو صراع النفوذ بين كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين فى المنطقة، وما تم رصده مؤخرًا هو أن الولايات المتحدة أصبحت أقل التزامًا تجاه الشرق الأوسط، وأقل اهتمامًا به، مما دفع دول المنطقة إلى إنهاء صراعاتها بنفسها، وأيضًا دفع المحور السنى إلى تسوية الخلافات مع إيران، بدليل استئناف العلاقات بين الرياض وطهران، وتنويع مصادر الدعم، أو بصيغة أخرى «التقرب من روسيا والصين».

ويختلف شكل التدخل الصينى فى المنطقة كليًا عن التدخل الأمريكى، فبينما واشنطن تقدم دعمًا أمنيًا وتتدخل سياسيًا واقتصاديًا، فإن التحركات الصينية هى تحركات اقتصادية، تستخدم لاحقًا فى التدخل السياسى، ومثال ذلك هو رعايتها اتفاق استئناف العلاقات بين السعودية وإيران، بينما لا تقدم الدعم الأمنى والعسكرى.

تسلُّل الصين إلى المنطقة كقوة اقتصادية صاعدة يمس إسرائيل عن طريقين، الأول هو تراجع الدور الأمريكى فى المنطقة، وبالتالى ضعف مكانة إسرائيل بها، والثانى هو أن الولايات المتحدة تعتبر الصين عدوتها رقم واحد، لذا فإن العلاقات الإسرائيلية الصينية ستكون محل معارضة من قبل واشنطن.

ومن المبكر أيضًا الحديث عن الانسحاب الكامل للولايات المتحدة من الشرق الأوسط، فلا تزال دول المنطقة تطلب ضمانات أمنية من واشنطن، فيما تشترى السعودية من شركة بوينج الأمريكية طائرات بعشرات مليارات الدولارات. 

والحقيقة أن لإسرائيل نصيبًا أيضًا من التحركات فى المنطقة، منذ أن وقعت اتفاقات إبراهيم مع ٤ دول عربية فى عام ٢٠٢٠، وتحاول حاليًا توسيع تلك الاتفاقات، كما أنها أعادت ترميم علاقتها مع تركيا فى الأشهر الأخيرة، بعد قطيعة طويلة.

مخاوف من انهيار التحالف ضد إيران وحلفائها بالمنطقة

بعد سنوات من القتال على جبهات مختلفة، يبدو أن دول المنطقة قررت أخيرًا إنهاء الصراعات العسكرية وإحلال الدبلوماسية بدلًا منها، ويمكن قراءة تلك التحركات والمشاهد السابقة بأنها تأتى بغرض التهدئة والتسوية، فلا يمكن اعتبارها مصالحات عميقة، بل هى أقرب لتسوية ظاهرية للتوترات. 

وكما أشار الباحث فى معهد دراسات الأمن القومى الإسرائيلى يوئيل جوزنكسى، فى دراسته المنشورة فى مايو الجارى، إلى أن عددًا من الدوافع يقف خلف تحركات التسوية فى المنطقة، حيث تريد الدول تهدئة الصراعات للاهتمام بالقضايا الداخلية والاقتصاد، الذى تأثر بوباء كورونا، والحرب فى أوكرانيا، ومن ناحية أخرى فإن هذه الدول تبعد نفسها بقدر الإمكان عن أى مواجهة عسكرية إقليمية يمكن أن تُلحق الضرر بها.

وتعنى التغييرات السابقة فى الشرق الأوسط الكثير لإسرائيل على كل الأصعدة، فمن الناحية العسكرية فإن تحسن العلاقات العربية مع إيران يمكن أن يضيق على إسرائيل خطواتها وأنشطتها العسكرية ضد وكلاء إيران فى المنطقة فى سوريا ولبنان والعراق.

وكذلك فإن عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية يمكن أيضًا أن تجعل للدول العربية رد فعل حيال الهجمات العسكرية الإسرائيلية على المواقع الإيرانية فى سوريا، ومن ناحية أخرى، فإن سوريا ذات السيادة والعضو من جديد فى الجامعة العربية، والتى توشك على استئناف علاقاتها مع تركيا، وتحظى بدعم روسى كبير، يمكنها أن تجنّد منظومة علاقاتها الجديدة لكبح الهجمات الإسرائيلية فى أراضيها.

من الناحية الدبلوماسية أيضًا، وبالنسبة لإسرائيل، فإن الفكرة التى كانت تروج لها وتستخدمها كذريعة لاتفاقات التطبيع، وهى تدشين ائتلاف عربى معادٍ لإيران، تنهار، والمفهوم التقليدى بأن على الدول أن تختار بين أن تكون مع الولايات المتحدة أو مع إيران لم يعد قائمًا، فالآن تجرى الدول العربية تسويات مع إيران، ولا تزال فى الوقت نفسه حليفة للولايات المتحدة، وإيران، ورغم المحاولات الإسرائيلية لعزلها، أصبحت دولة تهدف الدول العربية إلى التسوية معها، ولكن مع حقيقة أن السعودية باستراتيجيتها الجديدة لا يوجد ما يمنعها من إنشاء علاقات مع إيران، والتطبيع مع إسرائيل فى الوقت نفسه.

وعلى جانب آخر، فإن الوضع الجديد سمح أيضًا لإسرائيل بالتحرك فى اتجاهات أخرى، فهى تفتتح ممثليات لها فى الدول المحيطة بإيران، مثل أذربيجان والبحرين والإمارات وتركمانستان، ما يعنى أنها تستعد للمواجهة من خلال دول أخرى.

أما من الناحية الاقتصادية، فإن التدخل الصينى فى المنطقة يؤثر على مكانة الولايات المتحدة بها، وبالتالى مكانة إسرائيل، لكن الأخيرة استفادت منه فى الوقت نفسه، إذ تحاول تطوير علاقتها بالصين بشكل حذر دون إغضاب الولايات المتحدة، وفى الوقت نفسه تعمل على الدفع قدمًا بمشاريع اقتصادية مع الولايات المتحدة والهند والإمارات.