جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

تونة وسمعة.. فرّقهما الفن وجمعهما القدر

فاتن حمامة وإسماعيل
فاتن حمامة وإسماعيل ياسين

هل تتخيل أن هذين الاسمين كانا النجمين الأعلى أجرًا فى الخمسينيات، كلٌ فى جنسه.. ففاتن كانت قد اعتلت القمة بالفعل منذ نهاية الأربعينيات، حيث مثّل وجه فاتن الطفولى حالة آسرة فى السينما المصرية وأصبحت محط أنظار كل المخرجين والمنتجين.. حتى قيل فى وقتها إن فاتن تختار الأدوار وما يتبقى منها تمثله الأخريات.. وعلى مسار آخر كان نجم إسماعيل ياسين يتلالأ فى سماء الفن المصرى دون أن يزاحمه فى منطقته الآمنة أى فنان آخر، ولم يكن هناك أدل على مكانته من كم الأفلام التى تُباع باسمه وتُكتب له خصيصًا.. إسماعيل ياسين فى الجيش والأسطول ومستشفى المجانين وضع أى شىء بعد اسم إسماعيل ياسين وسوف ينجح الفيلم بالتأكيد.

لكن هل تعرف أن فاتن وإسماعيل لم يلتقيا مطلقًا أمام الشاشة على الرغم من أن العديد من نجمات المرحلة كن يسعين إلى وجود سُمعة على أفيش أفلامهن لضمان بيعه، راجع مثلًا أفيش فيلم «الستات ميعرفوش يكدبوا» لشادية وشكرى سرحان، وكان الاسم الأكبر هو اسم إسماعيل.. الذى يقوم بدور صديق البطل والبطلة.

لكن فاتن ظلت فى مسار موازٍ لمسار سُمعة دون أن يلتقيا.. وإن كان من باب التأريخ قد التقيا فى فيلم أربعيناتى، غير معروف ولا متاح حتى.. يدعى «خلود» كان حينها دور إسماعيل صغيرًا وثانويًا تمامًا قبل أن يعلو نجمه.

لكن أتت الستينيات بكل ما حملته من توترات لكى تخلق نقطة تلاقٍ من العدم بين سمعة وفاتن، حيث عانى كل منهما معاناة من نوع خاص به.. ففاتن واجهت ضغوطًا لم يُستدل على رواية واحدة صريحة عنها وكثرت فيها الأقاويل، لكن النتيجة كانت أن هاجرت فاتن من مصر تمامًا سنة ١٩٦٤ وخاصمت معشوقتها الكاميرا وكأنها لم تكن يومًا نجمة مصر الأولى.

فى الناحية الأخرى كان سُمعة قد دخل مرحلة التجاهل والتيه الكبرى التى لازمته حتى الممات وبدأ مرحلة انتكاسة عصر إسماعيل ياسين الذى كان كالشهاب الصاعد ثم هوى دون أى سابقة إنذار، وكأنه أيضًا لم يكن منذ قليل متربعًا على عرش الكوميديا والإيرادات بلا منازع.

ثم تكتمل نقطة التلاقى الأبدى بين سيرتى الاثنين «فاتن وسُمعة»، عندما ذهب إسماعيل إلى عالمه الآخر سنة ١٩٧٢ فى نفس الأيام التى تحتفل فيها فاتن بعيد ميلادها.. وهى تماثل مثل تلك الأيام حيث مات إسماعيل يوم ٢٤ مايو فى حين ولدت فاتن ٢٧ مايو.

وهنا فى «ريحة الورق» نستطيع أن نتلمس دلالات التلاقى بين سيرتيهما عبر ورق المجلات والصحف فى تلك الفترة، فترة الأزمة، للاثنين وكيف أرّخت الصحافة أزمتى نجمى القمة قبل عقد من الزمن.

عودة فاتن حمامة قضية أمن قومى

كان خروج فاتن من المشهد الفنى منتصف الستينيات بمثابة الصدمة الكبيرة لمجتمع السينما التى كانت تسيطر على جزء كبير من كعكته.. فلم يكن بالهين أن تتوارى فاتن حمامة عن الأضواء وهى فى عز عنفوانها الفنى والإنسانى.. لكن فاتن، صاحبة الشخصية الفولاذية، فعلتها وقررت أن تتحوّل إلى سيدة منزل بسيطة تعيش فى شقة صغيرة فى باريس تنتظر زيارات متقطعة من زوجها عمر الشريف خلال مروره العابر أثناء تصوير أحد الأفلام.. وإن كان بُعدها المكانى فى أوروبا لم يبعدها عن كاميرات الصحف والمجلات التى كانت تتلقف أى خبر أو صورة لنجمة مصرية اختارت البُعد عن الأضواء، لكن الأضواء أبت ذلك.

المهم أن قضية عودة فاتن تحوّلت إلى قضية أمن قومى بلا مبالغة.. وإن كنت لا تصدق تعال نُقلّب فى أوراق بعض مجلات تلك الفترة.. فى البداية تقرير انفراد نشرته «آخر ساعة» فى عدد ١٣ مارس ١٩٦٨ بعنوان تمهيدى:

فاتن تعود والسبب فريد الأطرش

يسرد كاتب التقرير، الذى لم تذكر المجلة اسمه، بعض المحاولات المضنية التى قام بها الكثيرون قبل محاولة الأطرش الناجحة.. حيث يقول المحرر إن محاولة فريد سبقتها محاولات عديدة من جانب رمسيس نجيب وعبدالحليم حافظ وجمال الليثى وكثير من السينمائيين فى القاهرة وبيروت، وفى كل مرة كانت فاتن تتهرب منه وتصر على أسلوب حياتها الجديد حتى حدث شىء خلخل موقف فاتن كله، عندما قابلت أم كلثوم فى كواليس حفلتها الأشهر على مسرح الأوليمبيا، ودار بينهما، الست وفاتن، حديث طويل عن إقامتها الدائمة فى باريس وابتعادها عن الأضواء وعلاقتها بعمر الشريف.. وهنا ظهرت وجهة نظر أم كلثوم الفلاحة القوية التى لا تقبل الضعف أبدًا وقالت لها: من غير المعقول أن تضحى فاتن بكل شىء وتغترب عن وطنها وتعتزل فنها من أجل حياة غير مستقرة ولا سعيدة مع عمر الشريف.

فاتن بعد مقابلة الست لم تعد كـ«فاتن» قبل المقابلة، واعترفت فاتن لأول مرة بأنها بدأت تشعر بأن قرارها لم يكن صحيحًا مائة فى المائة، خصوصًا أنها لم تعد ترى عمر الشريف إلا نادرًا خلال مروره بالصدفة على باريس أثناء تصويره أحد أفلامه الهوليوودية.. وانتزعت أم كلثوم وعدًا من فاتن فى استراحة حفلها الشهير أن تُعيد النظر فى قرارها.

بعد مقابلة أم كلثوم الفارقة فى قرار فاتن استغل المخرج هنرى بركات الأمر، وقرر أن يجرى اتصالاته بفاتن لتقوم ببطولة فيلمه الجديد «الحب الكبير» الذى يصوره فى بيروت كاملًا، ونحن نعرف ما كانت تمر به مصر سنة ١٩٦٨.. لكن كيف يُقنع بركات «فاتن حمامة» بالعودة مستغلًا تأثرها بمقابلة الست.. لم يكن الحل بعيدًا عن فريد الأطرش بطل الفيلم وآخر فنان وقفت أمامه فاتن قبل انزوائها وخروجها عن مصر، بركات كان يعرف ما يكنّه أهل الفن عمومًا، وفاتن خصوصًا، لفريد الأطرش الذى كان يمتلك شخصية ودودة وكريمة ومحبة للآخرين بشكل يجعل الاختلاف عليه من المستحيلات.

وبدأ فريد يُعد العُدة للإجهاز على فاتن وانتزاعها من عزلتها، وكان حينها يطمئن على قلبه العليل فى إنجلترا.. وما إن طمأنه الأطباء حتى ركب فريد أول طائرة إلى باريس، كما تقول «آخر ساعة»: «وبعد ساعات كان يقف أمام شقة فاتن حمامة ويدق الجرس وحينما فتحت له الباب لم تصدق المفاجأة، لكن فريد باغتها بجملة هزت أركانها، حيث قال لها: لقد جئت لكى أعود بك إلى وطنك وإلى فنك.. وقد اتخذت قرارًا بألا أعود إلى العمل أمام الكاميرا من جديد إلا معك فما رأيك؟».

بالطبع، تأثرت فاتن ونزلت الدموع من عينيها وهزت رأسها وحاولت أن تؤجل إبداء رأيها كعادتها، لكن فريد أصر على موقفه الذى ضعفت فاتن أمام نبله ووجدت نفسها تمسك الورقة والقلم وتوقع على عقد العودة إلى الشاشة فى قصة «الحب الكبير»، وقد كان.. صورت فاتن الفيلم وعُرض ونجح، لكن بقى الأمر ناقصًا، لأن فاتن لم تعد إلى القاهرة بعد، حيث تم تصوير الفيلم بالكامل فى بيروت.. ما زالت القاهرة ينقصها شىء مهم بغياب فاتن، إلى أن صدرت «الكواكب» يوم ١٧ فبراير ١٩٧٠ بغلاف رائع يعبر عن أهمية فاتن فى حياة المصريين، الغلاف لم يكن غير صورة آسرة لفاتن تنظر إلى الكاميرا وعليها عنوان واحد فقط: 

فاتن في القاهرة

لم يُرد صناع المجلة حينها أن يزاحم أى عنوان من موضوعات هذا العدد، وهى كثيرة وثرية بالمناسبة، الحدث الأبرز الذى ينتظره الجميع منذ سنوات وهو رؤية فاتن على أرض مطار القاهرة.. وأفردت المجلة فى هذا العدد ثلاث صفحات كاملة لاستقبال الجماهير فاتن حمامة فى المطار ضم رمسيس نجيب وحلمى حليم وهنرى بركات، ورصدت كاميرا مصور «الكواكب»، فاروق عبدالحميد، حالة الحفاوة غير الطبيعية التى قوبلت بها فاتن من الصغير والكبير، حتى الأطفال انتظروها بالورود واستغل صحفى «الكواكب» حينها، سيد فرغلى، الأمر فى إجراء حوار قصير لكنه ثرى مع فاتن ليسألها عما يجول بخاطر الناس حينها.. سألها أولًا عن طبيعة الزيارة فقالت إنها زيارة قصيرة لمدة عشرة أيام فقط تعود بعدها إلى لندن حيث يقيم ابنها طارق عمر الشريف.

ثم سألها فرغلى السؤال الذى يهرب الجميع من سؤاله: متى غادرت القاهرة؟ 

ردت فاتن: فى يوليو ١٩٦٥ وكنت قررت البقاء ٥ أشهر فقط، لكن ظروفًا حالت دون عودتى. 

فباغتها فرغلى بسؤال كان يعرف مسبقًا أنها لن تجيب عنه: وما هى هذه الظروف؟

قالت فاتن، بحزم: ظروف شخصية وعائلية بحتة لا أحب التحدث فيها.

ثم يسأل فرغلى سؤاله الذى أرّق فاتن وأظهر ضيقها، حيث قال لها: كل الناس يتساءلون ما هو موقفك من عمر الشريف؟

قالت فاتن: ما كنت أخشاه وأعمل له ألف حساب هذه الأسئلة الشخصية، فهى تضايقنى جدًا، فليعتبرونا مطلقين ولكننا قاعدين علشان ابننا خاصة أنه فى سن خطرة الآن وأمور الطلاق والزواج تؤثر على نفسيته ولما يكبر ويبتدى يفهم ويقدر الموقف سوف ننفصل.. وإن مكانش النهارده يبقى بكرة.

أول لقطة منذ 6 سنوات

انتهى الحوار القصير مع فاتن فى المطار، وسادت الراحة الأرجاء برجوع فاتن إلى أرض الوطن وعودتها القريبة للشاشة الكبيرة.. ولم يكن من الممكن ألا تتتبع الصحافة تلك اللحظة وهى لحظة وقوف فاتن حمامة أمام الكاميرات المصرية لأول مرة بعد ٦ سنوات غيابًا.. حيث تربعت فاتن مرة أخرى على غلاف «الكواكب» فى عددها الصادر يوم ٣ نوفمبر ١٩٧٠ وأفردت لها المجلة ٣ صفحات أخرى لترصد تلك اللحظة التاريخية، حيث تقف فاتن حمامة أمام مخرجها المفضل «بركات» لتصور فيلم «الخيط الرفيع».. ويضع الصحفى عبدالنور خليل الذى رصد تلك اللحظات مقدمة يقول فيها: «يوم الإثنين- أمس- دخلت فاتن حمامة البلاتوه لتمثل أول لقطة فى فيلم الخيط الرفيع.. لم تُغيّر فاتن شيئًا من عاداتها.. موجودة وجاهزة قبل الموعد بدقائق ولم تتغير رغم غيبة السنوات الست عن استديوهات القاهرة».

وهكذا رجعت فاتن إلى قمتها التى تركتها على حالها لتصبح محط أنظار الصحافة الورقية مثلها مثل باقى الوسائل الإعلامية كالإذاعة والتليفزيون بعد أن تحقق المطلب الجمعى وهو رجوع فاتن إلى عرينها.

حكم غامض بالإعدام الفنى لـ«سُمعة»

فى الوقت الذى كانت مصر كلها ترجو عودة فاتن حمامة من منفاها الاختيارى فى أوروبا.. كان هناك فنان آخر قد أفنى عمره أمام الشاشة يصرخ مستغيثًا ليسأل سؤالًا حائرًا لا يجد له إجابة على صفحات مجلة «الكواكب» أيضًا فى عدد ١ يوليو ١٩٦٩، «مَن حكم علىّ بالإعدام الفنى؟»

كان هذا السؤال الحزين هو عنوان الحوار البديع الذى أجراه معه صحفى «الكواكب» حسين عثمان، بالرغم من أن حجمه لم يكن كبيرًا بالكاد صفحة ونصف الصفحة من صفحات المجلة، وضعت الصورة والعناوين فى صفحة وانحشرت أسئلة الحوار وإجاباته فى النصف الباقى. 

كان هذا الحوار عبارة عن صرخات متواصلة من فنان يرى بعينيه إهانة تاريخه ولا يريد أحد أن يتذكره.. وحسنًا فعل حسين عثمان عندما جعل صيغة الحوار فى شكل تقريرى وليس سؤالًا وجوابًا، فأصبح الحوار عبارة عن تساؤلات مريرة متتالية تخرج من فم إسماعيل ويسجلها صحفى «الكواكب» فقط. 

ماذا يقول سمعة؟

«هل هذا معقول؟ وهل الذى يجرى الآن بالنسبة لى حقيقة أم حلم؟.. وهل موقف مؤسسة السينما والمنتجين والمخرجين منى من صُنع ظروف خارجة عن إرادتهم أو بوحى من تدبير ومخطط ضدى؟.. هل يصدق أحد أن إسماعيل ياسين الذى كان يقوم ببطولة ستة أفلام كل شهر ولا تُباع الأفلام فى الأسواق الخارجية إلا باسمه والذى كان اسمه عنوانًا أو ضمانًا لرواج الأفلام؟.. هل يصدق أحد أن هذا الممثل لم يشترك منذ خمس سنوات أو أكثر فى فيلم واحد؟».

ويكمل إسماعيل ياسين تجرع مرارته ليقول: «لقد كنت أسأل نفس هذا السؤال فلا أجد جوابًا يبرر عدم الاستعانة بى فى هذا العدد الكبير من الأفلام التى أُنتجت خلال السنوات الماضية.. وكنت أضحك وأنا أقرأ تصريحات عبدالحميد جودة السحار، رئيس مؤسسة السينما، الذى يقول فيها إن جميع الأفلام استوعبت جهود جميع الفنانين.. واعتقدت أنه نسينى وذهبت إليه لمقابلته فسمعت منه كلامًا أحلى من السكر، أثلج صدرى وجدد الأمل فى نفسى.. ولكن يبدو أن السحار يحسن الحديث فقط وينسى التنفيذ».

لم ينته كلام إسماعيل الحارق عند مؤسسة السينما، فقد وجّه رسائل غاضبة لرفاق رحلته من المنتجين والمخرجين الذين نسوه فى خضم انشغالهم بالنجوم الجدد حيث قال سمعة: «جلست أستعرض مرات عديدة جهودى مع بعض المنتجين والمخرجين، وسألت نفسى كيف نسينى هؤلاء؟.. كيف نسينى عباس حلمى وجمال الليثى ورمسيس نجيب.. وكل منهم لم يصبح منتجًا كبيرًا إلا بعد أن ربح من أفلامى أرباحًا خيالية؟».

وهنا نرصد مفارقة تجعلنا نضع فاتن حمامة فى جملة مفيدة، حيث إن كل الذين ذكرهم سُمعة بعتاب مرير كانوا رءوس الحربة لمحاولات إرجاع فاتن من منفاها الاختيارى فى أوروبا، وكانوا من أوائل المستقبِلين لها فى المطار بعد حوار سُمعة بشهور قليلة، كما رصدتها «الكواكب» فى تغطيتها التى أشرنا إليها.

لم ينته حوار سُمعة قبل أن يوجه سؤاله الأخير لرفيق رحلته السينمائية المبهرة «فطين عبدالوهاب»، حيث يقول بمرارة شديدة: «كيف نسينى فطين عبدالوهاب الذى انتقل من صفوف المخرجين العاديين إلى صفوف كبار المخرجين بفضل الأفلام التى أخرجها لى والتى ما زالت حتى اليوم شهادة يُعتمد عليها فى تاريخه الفنى كمخرج للأفلام الكوميدية».

انتهى حوار إسماعيل ياسين مع «الكواكب» ولم تنته مأساته ولا تساؤلاته إلا بخبر صغير كان فى صفحة الجرائد الصباحية يوم ٢٤ مايو ١٩٧٢ بعنوان «مات أشهر مونولوجست عرفته مصر.. وفاة إسماعيل ياسين صباح اليوم بأزمة قلبية».. والمفارقة أن رفيقه الذى عاتبه فى حوار «الكواكب»، فطين عبدالوهاب، كان قد سبقه إلى الموت باثنى عشر يومًا.. والمفارقة الأخرى أنه بعد وفاته بـ٣ أيام كانت فاتن حمامة تحتفل بعيد ميلادها الواحد والأربعين.. أثناء تصوير تحفتها الثانية بعد الرجوع «إمبراطورية ميم».