جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

على طريقة «الباصون».. هكذا يصوم الأقباط

كان يرتدي قميصًا فاتح اللون، وبنطالًا بنيًا، ويجلس على استراحة تقابل التي أجلس عليها.. وظل يرمقني بنظراته التي اخترقت التي شيرت خاصتي، وأنا أتمايل في مطلع أسبوع الكنوز، وهو أول أسابيع الصوم الكبير، مُمارسًا دور الفقيه ذى الثانية عشرة من العمر «تقريبًا»، إذ إنني كنت أحد مصادر الثقة بين أقراني في بعض المسائل المُتعلقة بالكنيسة.

فأخذت أنتهر هذا قائلا: «إنت هتاكل ده؟؟ يابني ده فطاري»، وأهادن آخر قائلًا: «مش معقولة ندخل الصوم الكبير وإنت رايح تجيب آيس كريم!».. فور فض المجلس حولي اقترب مني الخادم الذي أُجله وأحترمه، قائلًا: «صومت يا جرجس؟».. فصعقتني الكلمة كتيار من الكهرباء قدره 10 أمبير، وهي كفيلة لموت شخص بالغ.

فجاوبته دون أن أحول عيني: «طبعًا صايم»، فسكت دون أن يُعلق.. لم أحتمل صمته غير المتوقع، فباغته: «بتسأل ليه يا باصون؟».. وباصون كلمة قبطية الأصل، ومصطلح رائج في الكنائس، يعني أخي..

وقال الباصون: «أبدًا.. طريقتك في الكلام.. محسيتهاش.. فكرتك مش صايم.. أصلها مش متناسبة مع حد صايم».. كانت الكلمات القليلة هذه كافية أن تكون لطمة كتلك التي تحل على وجنات المغشى عليه لإفاقته.. فلم أنطق.. وسلمت نفسي لأحد الأحاديث الأكثر نفعًا لي..

صائمًا ولست نباتيًا

علمني «الباصون» أن صومًا دون انقطاع عن تناول المأكل والمشرب لا يعتبر صومًا.. على الأحرى يعتبر مسلكًا نباتيًا، وأن الصوم يبدأ في تمام الساعة الثانية عشرة ليلًا، حيث بداية اليوم الجديد، ويظل حتى الساعة الثالثة عصرًا وهي الساعة التي مات فيها السيد المسيح بحسب الجسد، وهي فترة تُقدر بـ15 ساعة مُتصلة دون مأكل دون مشرب في جهاد ضد العادات الخاطئة برمتها.

15 ساعة من ترويض الجسد.. الذي يثقل كاهل المرء طيلة العام، يسوقه للنميمة والإدانة والنظرات الآثمة وسماع الأحاديث غير البناءة وأمور أخرى، وخلال هذه السويعات لا يقوى الجسد على أن يُشير عليك بأي شىء سوى سد حاجياته فقط.

وبعد أن تنتهي فترة الصوم التي لها أن تقل أو تزيد بالتنسيق مع أب الاعتراف، بحسب السن والحالتين الروحية والصحية، لا يصح أن يُعطى الجسد جرعة أشد قوة من اللحوم والشحوم، لذا يجب على الجسد أن يظل مُروضًا، ويأتي الطعام قوتًا فقط لئلا يخور، فيتناول الصائم «أي شىء» دون أن يخرج من أجواء صومه مُنشغلًا عن روحانياته بإعداد الطعام، فله أن يأكل «شوية فول- قرصين طعمية- شوية بطاطس متحمرين- طبق مكرونة- قرصتين في الشاي» لا شىء مُحددًا، لا شئ في الأساس.. فقط ما يسد الحاجة.. ليستكمل الصائم روحانياته..

لِمَ أصوم كقبطي؟!

شعر الرجل وهو يُحدثني أنني استصعبت الأمر، ففاجئني قائًلا: «إنت صايم ليه يا أبوجريس؟!».. فلم أجب لأنني على يقين أن إجابتي لن تكون دقيقة.. فآثرت الاستماع على غير عادتي في هذه المرحلة من حياتي.. فقالي لي: الكنيسة لن تعاقبك إذ امتعنت عن الصوم.. ولن تفرض عليك أي غرامات..

واستطرد: أنت تصوم فقط لأنك ترغب في أن تحصل على مفاعيل الصوم.. وهي تخفيف وطأة الحروب التي يشنها الشيطان على المؤمن بين حين وآخر.. وذلك من خلال تجفيف منابعه التي يعتمد عليها في شن هذه الحروب.. ولعل أبرز هذه الينابيع هو الذات التي يصيبها بتورم بين الحين والآخر.. فيظن التراب نفسه عظيمًا.. ويتجبر على الآخرين.. بل يتجاسر ويدينهم وقت هذا الصوم فيقول لهذا لما لم تصم؟؟ أو يا فاطر يا عدو الله..

وأردف: أنت تصوم لأنك ترغب في تقوية علاقتك بالله الذي لم ترَ منه إلا كل الصلاح.. لذا تمتنع عمّا ترغب فيه أنت.. من تلفاز وأغانٍ ومعطلات عن حديثك المستمر مع الله.. وتتجه لأمور تساعدك على الترابط معه فتتلاحم معه في قراءة الإنجيل وقراءة المزامير والصلاة كلما تيسرت لك الأمور، وقراءة الكتب الروحية..

وبعدما أصوم؟!

اختتم الرجل حديثه معي بما نسميه نحن بـ«الزيتونة» التي هي الملخص أو الإفادة.. فقال بمنتهى الأبوة: الصوم الحقيقي يا حبيبي الغالي.. هو اللي يسيب أثر بعد ما ينتهي.. فتلاقي إن علاقتك بربنا قويت وبقيت بتكلمه كتير وبتسمع صوتك وإرشاده في المواقف اللي بتمر بيها.. وبقيت انت تتكسف تزعله ولما تزعله يبقى غصب عنك وتكون متضرر وتجري تتوب وتعتذرله.. 
علاقتك بالناس نفسها تبقى أفضل بدون تنظير أو كبرياء.. هتلاقي أثر علاقتك بربنا ده بان في شخصيتك فبقيت إنسان متضع ووديع، فا الناس كلها تحبك محبة فعلية زي المسيح اللي مكنش بيطفي فتيلة مدخنة ولا يقصف قصبة مرضوضة..