جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

لا مساحة للحياد.. أو السلام!

هجوم حاد يتعرض له «حزب الحرية» النمساوى، اليمينى القومى، منذ الخميس الماضى، فى غالبية وسائل الإعلام الغربية، وبعض العربية، لمجرد أن نواب الحزب فى المجلس الوطنى، مجلس النواب، أو الغرفة الدنيا فى البرلمان، غادروا قاعة المجلس فور بدء خطاب ألقاه الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى، عبر الفيديو، وتركوا فى أماكنهم لافتات عليها عبارة «مساحة للحياد.. مساحة للسلام» وشعار الحزب فقط.

مع المجر وبلغاريا، كانت النمسا هى الدولة الثالثة من بين كل دول الاتحاد الأوروبى الـ٢٧، التى لم تسمح للرئيس الأوكرانى بالحديث أمام برلمانها. وطوال سنة كاملة، استطاع «حزب الحرية» أن يعرقل الاستجابة لطلبات الرئيس الأوكرانى المتكررة، أو للضغوط الأمريكية، غير أن رئيس المجلس الوطنى النمساوى تمكّن من التحايل، بمناورة بروتوكولية، وجعله يتحدث أمام «فعالية برلمانية» وليس أمام جلسة عامة. وتعليقًا على صمت باقى أحزاب البرلمان على هذا التحايل، قال هربرت كيكل، زعيم «حزب الحرية»، فى بيان، إنه لأمر محزن أن يكون حزبه هو الوحيد الذى يأخذ حياد النمسا على محمل الجد، وأن يكون الحزب الوحيد، بالتالى، الذى يدافع عن السلام، مؤكدًا أن السماح بإلقاء هذا الخطاب انتهاك مطلق لدستور البلاد.

تاريخيًا، كانت النمسا مجرد أطلال، أو حطام، بعد الحرب العالمية الثانية، التى خاضتها مضطرة، وهى تحت الاحتلال الألمانى، وخرجت منها محتلة من أربع دول: إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى. وبعد مفاوضات ومداولات امتدت لحوالى عشر سنوات، جرى فى ١٥ مايو ١٩٥٥ توقيع معاهدة الاستقلال، «معاهدة الدولة من أجل إحياء النمسا المستقلة والديمقراطية». وبانسحاب قوات الحلفاء من أراضيها، فى ٢٥ أكتوبر التالى، أعلنت عن التزامها سياسة «الحياد الدائم»، ونص دستورها الاتحادى على ألا تنضمّ أبدًا، حاضرًا أو مستقبلًا، إلى أى تحالفات عسكرية، وألا تسمح بإقامة قواعد عسكرية لدول أجنبية على أراضيها. 

على هذا النص، الإعلان، المبدأ، أو سياسة «الحياد الدائم»، تشكلت هوية النمسا الجديدة، الحالية، التى مزحت بين انتمائها الأيديولوجى للغرب، وارتباطها التقليدى بالشرق، فصارت جسرًا بين الجانبين، وتمتعت بمكانة دولية رفيعة وأهمية سياسية بالغة، مكّنت عاصمتها، فيينا، من استعادة بريقها القديم ومكانتها التاريخية، كمركز عالمى للفنون والثقافة والعلوم والآداب، كما جعلتها مركزًا دوليًا للسلام والثقافة والحوار والمفاوضات.

تأسيسًا على ذلك، وحفاظًا على قنوات الاتصال مع الجانبين المتصارعين، الروسى والغربى، والتزامًا بحياد فيينا ونهجها العام فى السياسة الخارجية، زار مستشار النمسا الحالى كارل نيهامر، كييف فى أبريل ٢٠٢٢، ثم كان المسئول الأول، والأوروبى الوحيد، الذى يزور موسكو بعد بداية الأزمة. ولم تستجب حكومته، جزئيًا، للضغوط الغربية المُتزايدة، وأصرت على عدم مساعدة أوكرانيا عسكريًا، لكنها قدمت لها، ولا تزال، مساعدات إنسانية وسياسية، و... و... وفجأة أعلنت الخارجية النمساوية، فى فبراير الماضى، عن طرد أربعة دبلوماسيين روس، من بينهم اثنان لدى الأمم المتحدة فى فيينا، بزعم قيامهم «بأعمال لا تتماشى مع وظائفهم الدبلوماسية»، وهو ما ردت عليه الخارجية الروسية بطرد أربعة دبلوماسيين نمساويين، وقالت، فى بيان، إن فيينا اتخذت «خطوة غير ودية وغير مبررة» تقوّض موقف النمسا السابق كدولة محايدة أو غير منحازة.

.. وتبقى الإشارة إلى أن «حزب الحرية» تأسس فى ٧ أبريل ١٩٥٦، على مبادئ المعسكر الليبرالى الوطنى، ويحتل حاليًا الترتيب الثالث بين الأحزاب الخمسة، التى تشكّل المجلس الوطنى، أو مجلس النواب، وكان شريكًا فى الحكومة الائتلافية، التى تشكلت فى ١٨ ديسمبر ٢٠١٧ برئاسة سيباستيان كورتس، وتولّى فيها هاينتس- كرستيان شتراخه، رئيس الحزب السابق، منصب نائب المستشار. كما حلّ مرشح الحزب نوربرت هوفر ثانيًا فى انتخابات الرئاسة التى جرت، وقتها، وخسر فى الإعادة بحصوله على ٤٦.٢٪ مقابل ٥٣.٨٪ للرئيس الحالى، ألكسندر فان دير بيلين، الذى بدأت ولايته الثانية فى يناير الماضى.