جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

أسطورة هرقل.. كثير من الشجاعة والحظ

تحتفى الأساطير دومًا بالأبطال المناوئين للسلطات المطلقة، سواء أكانت آلهة أو ملوكًا طغاة، وتأتى قصة «هرقل» ومغامراته على قمة الأساطير التى تمجد قيمة السعى والشجاعة والمواجهة، وأن البطل يدفع ثمن رحلته ومغامراته، لكنه يفوز فى النهاية إذا أخلص فى سعيه.. بسبب حقد «هيرا» زوجة «زيوس» على «هرقل» ابن زوجها نصف البشرى، فقد ألقت عليه لعنة، جعلته يصاب بالجنون اللحظى ويقتل عائلته: زوجته وأولاده، ولما أفاق سقط فى حزن عميق، وأخبره العراف بأن الطريق للتكفير عن خطاياه هو عند قريبه، الملك «إريستيوس»، أراد «إريستيوس» إذلال «هرقل»، وذلك بدفعه للقيام باثنتى عشرة مهمة مستحيلة، وضعته فى مواجهة وحوش ضارية وقوى مهولة.. هذه المهام كانت رحلة هرقل للخلاص من ذنبه وتكوين أسطورته الخاصة. 

كانت المهمة الأولى تتطلب منه القضاء على أسد نيميا، الذى يختطف النساء ويلتهم المحاربين، وكان فراؤه الذهبى متينًا، يمنع اختراق السهام، إلا أن «هرقل» حاصر الأسد داخل كهفه المظلم، وباغته بالعصا، وخنقه بيديه. لكن «هرقل» لم يجد أداة حادة بما فيه الكفاية لسلخ الوحش، وهنا نجد تدخلًا علويًا من قوى كونية تتآذر مع البطل لتحقيق مهمته، فتقترح عليه الربة «أثينا» أن يستخدم أحد مخالب الأسد ذاته. عاد بعدها «هرقل» إلى الملك «إريستيوس» مرتديًا جلد الوحش.

أمّا هدفه الثانى فقد كان «هيدرا»، وهو ثعبان ضخم ذو رءوس عدة، قاتله «هرقل» بشراسة، ولكن فى كل مرة يقطع فيها أحد الرءوس، ينمو اثنان مكانه. لذا كانت المعركة مستحيلة، إلى أن خطر لابن أخيه «إيلوس» أن يقوم بكىّ أعناق الثعبان بالنار، ليمنع رءوسه من النمو من جديد. أما بقايا الثعبان الميت، فشكلت كوكبة «هيدرا» فيما بعد.

أما مهمته التالية فكانت تتطلب منه اصطياد وحش حى بدلًا من قتله، وهى الأيلة الأركادية شديدة السرعة، حتى إن هرقل ظل يتتبعها عامًا دون أن تصيبها سهامه، واستطاع بعد جهد أن يمسك بها حية. 

فى مهمته الرابعة، وهى القبض على خنزير «إريمانثوس» حيًا، يستفيد بنصيحة القنطور الحكيم «تشيرون».

فى كل مهماته الاثنتى عشرة كان هرقل يعقد العزم على تنفيذ المهمة دون تردد، أو حساب لعواقب المغامرة، وعندما يضيق عليه الخناق وتقترب مهمته من الفشل، يجد من يساعده ويرشده مادًا له يد العون.. الربة أثينا بأجراسها، عربة «هيليوس» رب الشمس، التى أكمل بها رحلته إلى جزيرة «إيريثيا» لتنفيذ مهمته العاشرة وهى سرقة ثيران «جيريون» السحرية. 

فى مرات قليلة اعتمد على نفسه فقط، مثل حفر خندق لتحويل مجرى نهرين لتنظيف حظائر الملك أوجياس التى لم تنظف منذ أعوام، استخدام الدهاء فى القضاء على الملك «ديوميد»، الذى درب خيوله على افتراس زائريه، قد وقع فى شر أعماله، حين دعاه «هرقل» إلى المصارعة داخل حظائره. فتغلب عليه، وقدمه طعامًا لخيوله وهو ما كان كفيلًا بتهدئتها ليربط أفواهها. خنق ثور «كريت» الغاضب من الخلف؛ كى يقضى عليه بدلًا من مواجهته، حيث لا يستطيع أحد مواجهته. أو أن تسلم «هيبوليتا» ملكة الأمازونيات حزامها طوعًا. وفى بعض الأحيان يكون خداع الآلهة هو الطريق للفوز، حيث خدع هرقل العملاق «أطلس» حامل السماوات، فعرض عليه أن يقوم بحملها عنه إن جلب له التفاحات الذهبية. استجاب «أطلس» بحماس كبير، لكن «هرقل» خدعه ليبدل مكانه معه مجددًا، ومن ثمّ هرب ومعه التفاحات.

وتنتهى مهام «هرقل» بعد اثنتى عشرة سنة من الجهد والتعب والصراع والمعاناة، كفّر خلالها «هرقل» عن قتله عائلته، وكسب لنفسه مكانًا له فى هيكل العمالقة العظماء. والأهم أنه بنصره وبقضائه على الفوضى والوحوش المنتشرة فى العالم، خلّصه من حكم العمالقة الأُول، وجعل منه مكانًا يمكن للبشرية أن تزدهر فيه. وبذلك، ومن خلال شجاعته وإقدامه، أعاد هرقل الاستقرار للعالم، بتكفيره عن خطاياه، وسعيه نحو تحقيق المستحيل.