جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

ما معنى الصوم؟

لما كان الإنسان نفسًا وجسدًا وروحًا، فهو بحاجة إلى الصوم والصلاة، وهذا الموضوع الهام سأطرح عديدًا من النقاط التي أرى ضرورتها الحتمية في هذا الشهر الكريم لا سيما أن الأصوام تتعانق معًا كمسلمين ومسيحيين في نفس الوقت هذا العام مما يعطي شكلًا مميزًا للتآخي والحب الذي يربط بين عنصري الأمة، ولذا فما يطرح هنا من نقاط ليس له علاقة بعقيدة دينية معينة بل بروح التآخي والفكر العام الذي يربطنا معًا:

أولًا: ماذا يحدث في الصوم؟
«1- على مستوى البدن
يسهم الصوم في تخليص الجسم من الشحوم المتراكمة ويقي ويعالج السمنة، وهو فرصة لإعطاء المعدة والأمعاء والكلي والدورة الدموية فترات من الراحة.

2- على الصعيد الاجتماعي
يسهم الصيام في تجميع أفراد العائلة الواحدة على مائدة تناول الإفطار والتي قلما تجتمع في خلافه على وجبة واحدة بسبب اختلاف ظروف كل فرد منهم. كما يرتبط شهر رمضان بالزيارات العائلية وصلة الأرحام والشعور بحاجة الفقير والمسكين، فتكثر موائد الرحمن في جميع الأنحاء فتقوى الروابط الاجتماعية بين أفراد العائلة الواحدة والمجتمع ككل وتلبى احتياجات الفقراء والمحتاجين من خلال الصدقات، مهم للغاية ضرورة عدم الإسراف في الطعام، ويفضل عدم استبدال النهار بالليل.

ثانيًا: الصوم والآخرون من جهة والصوم والله سبحانه وتعالي من جهة أخرى
(الصوم وقيادة الله العظيمة)

الكلمات السابقة هي كلمات لنبي قديم على لسان الله سبحانه وتعالي كما وردت في الكتاب المقدس، فالقائد الحقيقي معلم، مدرّب، مرشد ومشير... المعلم الحقيقي متلمذ.

هو صاحب مدرسة وصاحب فكر، ينير تلاميذه بحكمته ويشوقهم للمعرفة، يدرّب أتباعه ويطور مهاراتهم، فالقيادة هي تدريب الأتباع وملاحظتهم، تقييمهم وتقويمهم بشكل مستمر، بكل محبة، ولطف، واحترام، ولكن بدون محاباة ولفّ ودوران، وبدون كسر وإهانة وتحطيم.
ثالثًا: الصوم هو إعلان حب للمجتمع

فالشخص الصائم يبدأ في أن ينظر حوله ليرى احتياجات عديدة هائلة كانت عيناه مغمضة تمامًا عنها فلا يعيها أو لا يعرفها على الإطلاق. لديه ربما النظرة العابرة غير المسئولة عادة طالما الحياة تجري وتدور لكن ما أن يبطأ في الصوم إذا بحواس جديدة تنبض داخله فيري أفضل مما سبق ويفهم أعمق من أي وقت مضى فليس فقط يري الجائع بل يتمزق لجوعه ويري العريان كأنه هو نفسه عريان أو جائع. يصحو الضمير الغير مبال ليري رؤى جديدة وينشد خطوات جديدة. إذا كانت أعمالنا تحكي قصة مختلفة ومتناقضة عما تحكيه أفواهنا فعندها نكون قد أضعنا الاتجاه، ويصبح كل منا "نُحَاسًا يَطِنُّ أَوْ صَنْجًا يَرِنُّ"، حيث المحبة لا تطلب ما لنفسها هذه هي عكس الأنانية. فالمحب يطلب ما للآخرين ثم ما لنفسه، أمّا الأنانية فلا تتفق مع ذلك.

فيتصرف ذلك الصائم الواعي بلطف ووداعة وهدوء، بحزم بلا تجريح وبلا غضب. فالمحبة لا تنظر للآخرين بروح النقد وتسعى لإدانتهم، بل لا تحسب للآخرين خطاياهم.

أما المحبة الشكاكة فتفترض أن الجميع أشرار ما لم يثبتوا العكس في معاملاتهم. وليس معنى هذا أن نتعامل بلا حكمة، بل علينا أن لا نترك الفرصة لزرع شكوك العداوة بيننا وبين الآخرين، ولا نتسرع في الحكم. وعلينا أن ندافع عن الناس بقدر ما يمكن وأن نتروى ونبطئ في الحكم ولا نحتفظ بسجل لخطايا الآخرين بل ننساها. فلو تذكر الله سبحانه وتعالي كل خطايانا وما اقترفنا من إثم لما تعامل معنا.
رابعًا: الصوم والذات

هو أن يبعد الإنسان ذاته عن العواطف المنحرفة ويكبح الرذائل وسيما كبرياءه ويُمكّنه من التسلط على غرائزه من حرية القلب ومغريات العالم كي تجدد روحًا ونفسًا ويتعلق قلبه بالله. لذا فالصوم لا يقوم على الفم فحسب، وإنما العين والأذن والقدمين واليدين وكل أعضاء الجسم.
الامتناع عن الخطيئة هو موقف القلب، القلب المتواضع التائب، الرحيم، الشفيق، الذي يسعى لتجديد علاقة مع الله.

يقوم الصوم إذن على صوم الجسد كله: صوم اللسان، وصوم الآذان، وصوم العقل، وصوم العينين من الأفكار الشريرة والنظرات الخبيثة. الصوم هو كبح رغبات الجسد وابتعاد عن الأفكار الشريرة وتحرر من التخيلات المذنبة، هو طهارة الصلاة، نور للنفس ويقظة العقل والقلب معًا. فهو انتظار الرب، هو فتح القلب وتحرره من كل شيء. 
الصوم هو عدم تفكير الإنسان بالشر في قلبه.
أخيرًا:
ليعيننا الله سبحانه وتعالي لا أن نمارس الصوم فقط بل أن نعيشه ونحياه وكل عام وحضراتكم بخير وسعادة وهناء. 
وكل عام وبلادنا في أفضل الأحوال وفي تقدم ورخاء.
والله ولي التوفيق.