جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

مقام الست خضرة وسرها الباتع

منذ ما يزيد على تلاتين سنة كنت مغرمًا بصوت المطربة الشعبية خضرة محمد خضر.. وكانت قصة حبها للغناء وزواجها وطلاقها من زكريا الحجاوى قصة درامية بامتياز بالنسبة لى.. كنت أحب المسرح أيضًا.. أذهب إليه لأعيش مع أبطال أى عرض وكأننى واحد منهم.. كنت قبلها قد حاولت كتابة هذا النوع من الفن الذى يعتبره البعض أبوالفنون جميعًا، كانت محاولات طفولية لشاب صعيدى حالم.. لكنها وجدت لها جمهورًا فى مسارح الثقافة الجماهيرية هناك.. وظلت مجرد محاولات غير مُرضية بالنسبة لى.. فجأة دخل إلى غرفتى فى شقة صغيرة كنا نسكنها بالشراكة مجموعة من الصحفيين الشباب وطلبة معهد الفنون المسرحية وفى يده مجموعة أوراق.. كنا نعرف أنه مجنون مسرح جاء من آخر الدنيا ليدرسه ويصنعه.. اسمه صبرى فواز.. كان صديقًا لنا وكان الجمهور قد عرفه بمشاهد قليلة فى عملين للمخرج الكبير إسماعيل عبدالحافظ.. يعنى هيبقى ممثل.. ونجم.. ومشهور.. لكنه يحب المسرح.. ولذلك باغتنا بطريقة مسرحية.. مش عايز تشوف الست خضرة.. وتكتبلها أغانى.. سألت باستغراب خضرة مين؟.. خضرة بتاعتنا؟.. ضحك.. أيوه.. هنعمل فرجة شعبية عن قصة يوسف إدريس سره الباتع.. وقدامك يوم أو اتنين بكتيره تخلص الأغانى.. كان بإمكانه أن يكتبها فهو شاعر عامية متميز أيضًا.. لكنه يعرف أننى أحب خضرة.. ويوسف إدريس كمان. 

تلاتين ليلة من المتعة عشناها بين أهل شبرا الخيمة فى حضرة الست خضرة.. وكل يوم أذهب للمسرح لأشاهدها وهى تغنى من ألحان الراحل أحمد شاهين.. 

حود هنا حود.. يا طالب الدفنة 

حود هنا حود.. لا تموت ولا تفنى 

ف العين دى مرسى ليك

والعين دى مرسى ليك

لما جالنا مرساليك 

شبت عواطفنا.. 

كانت المعالجة التى كتبها صبرى فواز عن نص يوسف إدريس بسيطة لكنها مدهشة وجبارة تعرف كيف تسرق الدموع كل ليلة من أعين الحاضرين تعاطفًا مع حامد الذى حوّله المصريون فى مواجهة جنود الغزاة المحتلين إلى أسطورة.. لم يكن حامد مجرد بطل مقاوم.. لكنه باختصار.. المصرى البسيط اللى فهم الفولة.. طول عمرنا مستهدفين وسنظل.. وطول عمرها ولادة.. وكل شهيد يذهب يأتى من لحمه ألف بطل جديد.. يستحق أن نصنع له فى كل موضع خطى مقام وسيرة. 

هكذا كان سر يوسف إدريس الذى يحتمل عشرات المعالجات.. هى الفكرة الأساس.. والفكرة لا تموت.. تطير وترفرف بأجنحتها.. وهذا ما أعتقد أنه طارد خالد يوسف وألح عليه.. مصر فى مواجهة مستهدفيها أيًا كانت ألوانهم وأزمنتهم وأهدافهم.. مصر بأولادها الذين لا يرحلون ولا يغيبون.. حاضرون دومًا كلما ندهت وربما قبل أن تطلق صيحتها.. سر يوسف إدريس ليس سرًا فكل الأولاد يحفظونه عن ظهر قلب ويرددونه.. صباح مساء.. بصوت خضرة.. أو منير.. أو أى حامد فى أى حتة فى أرضها المبروكة.