جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

يوسف إدريس يكتب: سره الباتع

يوسف إدريس
يوسف إدريس

كان يوسف إدريس «١٩٢٧-١٩٩١» هو الفلاح الفصيح فى أروع صوره وأقوى تجلياته.. ولد فى قرية البيروم- شرقية لأب متعلم لكنه تربى فى كنف جدته الريفية فسمع منها حكايات الأجداد والريف المصرى كله.. احتفظت ذاكرته بكل ما سمعه وشاهده فى الريف المصرى من حكايات وأساطير ومشاهدات وحولها لروائع أدبية لم يسبقه إليها أحد ولم يقاربه فى مستواها أحد.. كان طالبًا حاد الذكاء قاده ذكاؤه لكلية الطب فى عصرها الذهبى.. كانت الكلية مركزًا لقيادة الحركة الطلابية الوطنية فى الأربعينيات وهناك زامل أسماء مثل فؤاد محيى الدين ونوال السعداوى ومصطفى محمود وصلاح حافظ وحمزة البسيونى الذى كتب عنه قصته «لا وقت للحب».. كان من بين الأساطير التى سمع عنها واختزنها فى ذاكرته أسطورة «السلطان حامد» الذى قاوم الفرنسيين فتحول من فلاح إلى ولى من أولياء الله وتكاثر جسده أو قطع جسده كما تكاثرت قطع جسد أوزوريس إله مصر القديم وتفرقت فى أنحاء مصر.. حولت عبقرية يوسف إدريس قصة حامد المصرى العادى إلى أسطورة منحها الخلود وكانت واحدة من سبع قصص رائعة ضمتها مجموعته «حادثة شرف» التى أصدرها فى وقت مبكر فى حياته.. ولم يكن غريبًا أن توافق الشركة المتحدة على إنتاج عمل مستوحى من هذه القصة الرائعة التى تجسد بطولة المصرى العادى وإيمانه ببلده وإيمان الناس به كشهيد قدم روحه فداءً لبلده.. فى السطور القادمة نعيد تقديم جزء من قصة «سره الباتع» التى تروى قصة يوسف إدريس نفسه مع السلطان حامد وريث أوزوريس.. فتحية كبيرة إلى روحه كمبدع كبير وجاد وما أحوجنا إلى الجدية فى هذه الأيام. 

                                                                                                               وائل لطفى

 

1

لم تكن علاقتى بالسُلطان تتعدى مجرد نظرة غير مُحِبَّة للاستطلاع أُلقيها عليه كلَّما مررتُ به فى ذهابى وإيابى، نظرة سريعة كأنما لأطمَئِنَّ بها فقط على وجوده هناك، فقد كان علامة رئيسية من علامات البلد، مثله مثل محطة السكة الحديد، وسرايا آل ناصف، والبقعة المسكونة التى قتل فيها سيد إبراهيم.

ولكنى ذات يوم اضطررتُ أن أشغل نفسى بالسلطان، فقد فُزْتُ يومها بأول نجاح فى حياتى ونُقلتُ من السنة الأولى الابتدائية، وفرحتى بالنجاح يومها كانت أكبر من كل فرحة أحسستُ بها لأى نجاح حدث لى بعد هذا، فرحة تمنَّيْتُ معها أن أعود من المدرسة إلى بيتنا على جناح طائر، لأزفَّ الخبر إلى جدى الأكبر، والد جدى، وكان عجوزا جدًّا، له ظهر شديد الانحناء، وتجاعيد كثيرة لطيفة تغطّى وجهه ورقبته وصدره وكل جسمه، تجاعيد تبدو من كثرتها وتناسقها وكأنه ولد بها.

وما كاد جدى يسمع الخبر حتى قال لى فى صوته الجاد: «أوفِ النذر حالا». 

وكنت قد نسيت حكاية هذا النذر تمامًا، فقد حدث خلال العام أن انتابتنى حالة يأس وأنا أذاكر، واعترانى شبه يقين أننى مهما فعلتُ فلن أنجَحَ أبدًا، وكدتُ أبكى ساعتها، ولكنى ذهبت إلى جدى، وصنعتُ له قهوة زائدة السكر كما يحبها وحملتها له خلسة (إذ كان يحب القهوة، وكان جدى الأصغر، ابنه، يَمْنَعُه عن شربها، فكان بيننا شبه اتفاق، أن أسرق له البن والسكر وننتحى مكانًا قصيًّا نصنع القهوة فيه، فى مقابل أن يحدثنى هو بعد أن يَزنَ رأسه عن زمان وأيام زمان الحلوة، يومها حملت له الفنجال، وانتظرتُ إلى أن شربه كله شفطةً شفطةً، ولحس كل البن المترسب فى القاع، ثم سألته إن كان يعتقد أنى سأنجح، والشىء الغريب أنى كنت متأكدًا أن جدى الأكبر هذا لا يعرف ما هى المدارس، ولا ما هو النجاح، ومع هذا فحين قال لى لحظتها إننى سأنجح بإذن الله، أحسست أننى لا بد سأنجح، وكدتُ أطير فرحًا، غير أنه اشترط لنجاحى يومها أن أنذر للسلطان حامد نصف دستة شمع أُوقدها فى ضريحه.

ولم يتركنى إلا بعد أن نذرتُ النذر أمامه، وأعدتُه مرارًا حتى اطمأنَّ إلى أننى لم أخطئ فى قوله.

ولم تكن مشكلة أن أحصل على ثمن الشمع؛ فقد كنتُ ناجحًا، وطلبات الناجح، خاصة فى يوم نجاحه، لا تلقى معارضةٌ تُذكر. ولم أغفر لنفسى أنَّ الشيطان يومَها راوَدَنى حين ذهبتُ إلى الدُّكَّان، وفى الحقيقة لم يكن هو الشيطان، كان «البرطمان»، الذى يحتوى كمية هائلة من «الكراملة» ويرقد على جانب البنك، هو الذى راودنى.

وقسمت العرب عربين كما يقولون، واشتريتُ بنصف ما معى ثلاث شمعات وبالنصف الآخر «كراملة».

وبينما كنتُ آخِذًا طريقى إلى حافة «الجبانة» حيث مقام السلطان كنتُ لا أزال أؤنّب نفسى، بل أحيانًا كنتُ أتصور أنَّ السلطان حامد سينتقم للثلاث شمعات التى اغتصبتها من نذره بأن يزورنى فى المنام مثلًا، أو يُصيبنى بداء الصفرة.

ولستُ أدرى أكان هذا هو السبب فى اضطرابى أم شىء آخر كان السبب، فقد بدأتُ أحِسُّ باضطراب شديد حين أشرفت على الجبانة ورأيتُ مقام السلطان حامد من بعيد، وشىء غريب هذا، فآلاف المرات رأيتُ مقام السلطان حامد من بعيد، دون أن أحفل به، حتى لون الضريح لم أكن أعرفه، ولا كان يهمنى من السلطان فى قليل أو كثير، ولكنى مع هذا كنتُ مضطربًا، حتى فكرتُ أكثر من مرة فى أن أولى الأدبار وأطلق ساقى للريح عائدًا إلى بيتنا، خاصة وأنَّ مسألة النذر هذه لم تكن قد دخلت إلى عقلى، وأنا متأكد أن السلطان هذا ليس له أى علاقة بنجاحى، وأنه لم يُساعدنى فى الإنجليزى ولا غشَّشَنى فى مسألة القسمة المطولة، والنذور والعفاريت وشم البصل يوم شم النسيم، أشياء لم أكن أؤمن بها، لا لأننا كنا قد أخذنا فى المدرسة أنها بِدَعْ ورجس من عمل الشيطان، ولكن لأنَّ الناس كلهم يأخذونها كالقضايا المسلَّم بها، فكيف أفعل أنا هذا؟! وما فائدة تعليمى حينئذ وبدلتى؟!

ورغم شدة اضطرابى فلم أرجع لا خوفًا من جدى، ولكن خجلًا من نفسى وخوفًا من أن أبدو أمامها كالجبان، والظاهر أننا ونحن أطفال نخجل من الفرار أيضًا مثلما يفعل الكبار.

وهكذا ظلِلْتُ أخاف وأتحدى الخوف وأتقدَّم تدفعنى الرغبة فى القيام بتجربة جديدة حتى وصلت إلى مقام السلطان حامد، كان قائمًا فى ركن من الجبانة، وبجواره طريق مقطوع لا يمر به أحد، وكانت أول مرة أرى فيها الضريح عن قُرب، ولم يكن ضريحًا بالمعنى المفهوم، كان أهل بلدنا يسمونه المقام، ولهم حق، فلم يكن يُشبه من قريب أو بعيد أضرحة أولياء الله فى القاهرة، وكنتُ قد زرتها مع أبى، ورأيتُ رَوْعَتَها، وسجاجيدها السميكة الفاخرة وشبابيكها المذهبة، ونجفها الفخم الكبير والرائحة الغريبة الغامضة التى تملأ جوها وتُوحِى بالرهبة والخشوع والإجلال، أما مقام السلطان فقد كان عبارة عن حجرة قديمة وكأنَّها مبنية منذ الأزل، ذهب الطلاء عن كل جدرانها وبقيت الحجارة الحمراء بارزة متآكلة كضلوع الميت العجوز، ولم يكن يُميّز المقام عن بقية المقابر إلا أنه مبنى من الحجر؛ إذ إنَّ معظمها مبنى من الطين والأغنياء وحدهم هم الذين يطلونها بالجير، ويكتبون أسماء موتاهم عليها، يكتبها لهم عم محمد البنا بطلاء الزهرة وبخطه العاجز الركيك. 

ثمَّة فرق آخر بين المقام وبين القبور، فدونًا عنها كانت هناك أشجار كافور طويلة قد زرعت حول المقام، ويبدو أنها زُرعتْ أيضًا منذ الأزل، فقد كانت طويلة طولًا لا حد له، وجذوعها سميكة لا يستطيع عملاق أن يحتَضِنَها، وكانت مزروعة بنظام حتى بدَتْ كالسور العالى المهيب.

وكان كل شىء يدعونى إلى أن أنتهى من مهمتى بسرعة وأعود، فالعصر يضيق، والظلال تمتدُّ بشكل مخيف، وحقول القمح واسعة كبحرٍ أبيض لا شاطئ له، والناس فيها مجرد نقط غامقة صغيرة لا تكاد تُرى.

ودُرْتُ حول المقام، لم يكن له سوى باب كالح قديم، ونافذة واحدة يتيمة، كانت لا بدَّ هى النافذة التى حدَّثنى عنها جدى، وتقدَّمتُ منها، ولكن قبل أن أصلها، فوجئتُ ببحيرات وأنهار من الشمع المتجمد قد ملأت الأرض، كان الشمع الذى سال من النذور على مر الزمن قد ملأ حافة النافذة، وسال على الجدار حتى غطّى أحجاره العارية، ووصل إلى الأرض.

وأدركتُ أنَّ آلافًا قبلى لا بد قد نذروا للسلطان حامد، ومن يدرى، ربما ملايين (والملايين فى لغة الأطفال لا تعنى دائمًا ملايين).

وكدتُ أضحك على سذاجة أهل بلدنا الذين ذابَتْ نقودهم واختلطت بالرمال، لأجل ماذا؟! لأجل هذا السلطان الذى لا خادم له ولا مسجد ولا مستجيرين، ولا حتى ضريح يوحى بالاحترام؟!

كدت أعود وأحتفظ بالشمع لنلعب به أنا وأصحابى فى الليل ونُوقده ونسهر حوله، وكم يكون هذا مسليًا وجميلًا! بل أنَّبتُ نفسى لأننى أضعتُ القرش فى الشمع ولم أشتَرِ به «كراملة» هو الآخر وسمحت لنفسى أن تصنع مثلما يصنع أهل بلدنا الجهلة، الذين لا يقرأون ولا يكتبون.

ولكنى يومها احتفظتُ بشمعة واحدة فقط، وأوقدت الاثنتين، لستُ أدرى لم! ربما تنفيذًا لتعليمات جدى ليس إلا، وربما رغبة فى تقليد أهل بلدنا، فقط فى تقليدهم، بل لماذا لا أعترض وأقول إننى، بعد أن قرأتُ الفاتحة، ودعوتُ لجدى ولوالدى، نذرتُ للسلطان إن أنا نجحت فى العام التالى أن أوْقِدَ له دستة شمع بأكملها؟

ورغم أننى قلتُ لنفسى وأنا عائد إننى نذرتُ الدستة فقط لتفاؤلى بمسألة النذر إلَّا أننى من يومها بدأ السلطان حامد هذا يشغل علىّ تفكيرى بشكل ما. 

كان أحيانًا يصعب علىّ، ذلك الوَلِىُّ الفقير المدفون فى تلك البقعة النائية الموحشة، وأحيانًا كنتُ أفكِّر فى المؤمنين به الفقراء مثله، الذين يتمنون أمنياتهم الصغيرة الطيبة، ويرفعون بصرهم إلى السماء، وينذرون للسلطان حامد، ويحقق السلطان أمانيهم فيُسرعون إلى نافذته، ويُشعلون شمعاتهم، وليلة وراء ليلة تضىء نافذة السلطان حامد بشمعة، أمنية صغيرة تحققت، وقلب فقير رأى لحظة سعادة، ولو لليلة، وأحيانًا كنتُ أفكّر فى الكمية الهائلة من الشمع المتجمد بجوار المقام، كيف لم يسرقها أحد؟! كيف لا، والسلطان ليس له خادم يحرسه، والطريق إليه خالٍ من المارة، والناس فى بلدنا لا يتركون طوبة تنفع ولا حجرًا إلا قلقَلوها وحملوها إلى بيوتهم؟!

أحيانًا كنتُ أفكر فى تجريد عصابة من أصحابى للسطو على الشمع، وأحيانًا كنتُ أخاف، وأحيانًا كنتُ أسمع اسم السلطان، لم أكن أسمعُه كثيرًا ولا مسبوقًا بتكبير أو محفوفًا بتقديس خطير، وإذا جاءت سيرته لا يتوقف الواحد من أهل بلدنا عن الكلام مثلًا ويقرأ له الفاتحة بخشوع، ينفض الواحد منهم بلغته وهو يستعد للقيام ويقول: «معلش، أهه كله من عضم النهار، شالله يا سلطان حامد! شالله!» 

أو تتربع الولية من الولايا أمام مقطف السمك وتقول لعم على الصياد: «بكام؟» فيقول: «بعشرة»، فتعود تقول: «وللسلطان حامد بكام؟» فيخفض عم على حينئذٍ وجهه ويغلق عينيه وكأنما غُلب على أمره ويقول: «عشان السلطان بتمنية، وعشانك انتى بتسعة»، أو يرفع الرجل جوال الطحين على رأس زوجته، ويقول وهو ينتعه: «إيدك يا سلطان!»

وكنتُ أعرف أهل بلدنا جيدًا، كانتْ لا تُخيفنى منهم وجوههم المكشرة على الدوام، ولا ذقونهم التى تشوّك، أو نظراتهم التى تظن أنها خالية من الرحمة والشفقة، كنتُ أعرفهم تمامًا، وأعرف أنهم لا يقولون ما يعتقدونه إلَّا بينهم وبين أنفسهم، أمام العمدة أو الموظفين، يقولون كلامًا عاليًا كثيرًا، ويحلفون الأيمان المرتفعة المغلظة، وإذا سألهم الغريب عن شىء قالوا عكس ما يُضمرونه، هم لا يُخرجون ما فى أعماقهم إلَّا رغمًا عنهم، فى كلماتهم المتناثرة، فى همساتهم الخافتة وراء ظهور موظفى الحكومة، فى حديث الرجل إلى زوجته بعد العشاء حين يركن بظهره إلى الحائط ويمدد ساقيه على طولهما، ويقول: «ليلة امبارح يا بت حلمت خير اللهم اجعله خير أن السلطان حامد جانى وقال لى: «أنت نايم للضهر ليه؟! قوم، الشمس طلعت، قوم!».

 

2

وتعودت أن أرثى لأهل بلدنا هؤلاء، كنتُ قد زرت السلطان، ورأيتُ مقامه عن قُرب، ولم أحس برهبة ما، ولا اقْشَعَرَّ جسدى أو وقَفَ شعرى، أو ظهرت لى كرامة من كراماته، أربعة جدران قديمة تكاد تنهار، ماذا فيها حتى يستقرَّ صاحبها فى أعماق صدورهم؟! وحتى يتحدثوا عنه كما لو كان كائنًا حيًّا ضخمًا يَحْيَا فى مكان؟! ماذا فيه حتى يتحدثوا عنه بلا تكليف هكذا كما يتحدث الجار إلى الجار؟! وكنتُ أعرف خطورة هذا الحديث، فالفلاحون لا يرفعون الكلفة إلَّا بصعوبة شديدة، وإذا خاطبوك بلا ألقاب، وتحدثوا إليك كما يتحدث الجار إلى الجار كان معنى هذا أن احترامهم لك يرتفع إلى مرتبة التقديس.

والحقيقة بدأت تنتابنى الغيرة من السلطان حامد، بدأت أحسده على تلك المكانة التى يحتلُّها فى قلوب الناس، مع أنَّه لم يكن يملك لهم حولًا ولا قوة، هذه الكمية من الحجارة القائمة عند حافة الجبَّانة، كيف يكون لها كل هذا الاحترام والتقديس؟!

وقلتُ لنفسى ذات يوم: ربما أكون مخطئًا، وربما هناك شىء داخل المقام هو السبب فى تلك المكانة، ولم أكن- من شدة استخفافى بأمر السلطان- قد اهتممت بإلقاء نظرة على الداخل من خلال النافذة حين كنتُ أوقد الشمع، وأنَّبتُ نفسى كثيرًا لأنى لم أفعل، وقرّرتُ أن أذهب وأرى المقام من الداخل، وحين خطرت لى تلك الفكرة لم أتحمس لتنفيذها فى الحال، فلم تكن حكاية السلطان حامد كلها تهمنى إلى تلك الدرجة، كانت مجرد أفكار تعنُّ لى إذا جاءت سيرته، وتشغلنى قليلا ثم تمضى، وأعود إلى ما كنتُ فيه.

غير أننى فى صباح يوم الجمعة سمعت امرأةً ماشية فى الشارع تندب حظها، وتكاد تولول وهى تقصُّ لكلِّ مَن تستوقِفُها من النساء قصة ابنها المريض، وتختم قصتها كل مرة بدستة شمع للسلطان إن هو طاب، وكدتُ أخرج لها وألْعَنُها، وأُفهمها أنَّ سلطانَها حامد هذا لا علاقة له بمرض ابنها، ولا بركة فيه، ولا يملك حتى أن يمنع البلى عن مقامه، ولكننى لم أفعل، بل سألتُ نفسى بصراحة لماذا يُضايقنى شىء كهذا؟! وما الضرر فى أن تنذر له نذرًا؟! هل سيَمْنَعُ نذرُها الشفاء عن ابنها إن كان سيشفى؟! وأدركتُ أن حماسى كان فقط لأنها ذكرت اسم السلطان حامد، ولم تذكر اسمى مثلًا، حماسى كان مبعثه هو تلك المكانة الهائلة التى كنتُ يومًا فيومًا أحس بالسلطان حامد يحتلُّها فى قلوب أهل بلدنا، كنتُ أخاف على نفسى منها، وأخاف أن يأتى اليوم الذى أؤمن أنا الآخر به وأقدسه دون أن أعرف سبب الإيمان به وتقديسه.

وتأكيدًا لاستخفافى به قررتُ أن أذهب فى الحال، وأرى مقامه من الداخل، وأرى السِّرَّ المزعوم، وأشبع بعد هذه سخرية من السلطان وأهل بلدنا على حد سواء.

ولكن لا أدرى ماذا حدث، فحين أصبحت قريبًا من المقام، ورأيتُ أنهار الشمع المتجمد وبحيراته، أحسستُ أنى مُقْدِمٌ على شىء حرام، وكأننى سأعبث بشىء يخص أهل بلدنا أجمعين وهم غائبون، إحساس اقشعر له جسدى ولم أستطع أن أتغلب عليه، وكأنَّك فى اجتماع عام حافل وتهم أن تمزّق علم المجتمعين، وعلى هذا وقفتُ فى مكانى مترددًا وقد أحسستُ لأول مرة أنى فى سبيلى إلى القيام بعمل غير مشروع، وتلفتُ حولى مرارًا مع أنى كنتُ متأكدًا من خلو المكان وأنَّ أحدًا لا يفكر فى المجىء إليه خاصة فى الصباح.

وخفت!

فقد أدركت لحظتها فقط أن السلطان حامد هذا مارد كبير، والبركة فى أهل بلدنا الذين جعلوه هذا المارد الكبير، فمع أنى كنتُ واقفًا فى مكانى لا أستطيع الاقتراب من النافذة إلَّا أنَّنى لم أكن أتصور أن المسألة ممكن أن تبلغ هذا الحد، وأنَّنى فعلًا لا أجرؤ على الدنو، وربما الخوف هو الذى دفعنى إلى النظر إلى مكان السلطان حامد من جديد، كان كل شىء كما هو فى المرة السابقة، الحجرة البالية القدم، والجدران البارزة الأحجار بغير طلاء، ولا شىء بالمرة يُخيف، وكل ما أراه يدفع إلى الاستخفاف، وتقدَّمتُ من النافذة متلصصًا، كانتْ أعلى من قامتى، وكان علىَّ لأرى ما فى الداخل أن أتشبَّثَ بحديدها وأرفع نفسى.

وأمسكت الحديد، كان ناعمًا زلقًا من آثار الشمع المتجمد، ومرة واحدة رفعتُ نفسى ثم فى الحال هبطت وقلبى يدقُّ، لم أكن قد رأيتُ شيئًا غير ظلام فى ظلام، ومع هذا خفت، فالظلام فى النهار وفى داخل السلطان حامد شىء يخيف. 

وكنتُ لا أزال أمسك بالحديد فى انتظار أن أجمع أنفاسى وألقى نظرةً أخرى، ولم تكن لدى أية فكرة عما يمكن أن أجدَه فى الداخل، ربما المقام خالٍ، ربما لا شىء غير الظلام. وبقوة رفعتُ نفسى رفعةً عالية ودُرْتُ بعينى دورات سريعة مذعورة، ووقف شعرى من الرُّعب، ومن كثرة رعبى لم أستطِعِ الهبوط وتجمَّدَتْ يداى على حديد النافذة بينما أَغْلَقْتُ عينىَّ عن أَن تَرَيَا، ورحتُ أصرخ فى فزع، وتركتُ نفسى أسقط على الأرض وأنا ألهفُ وأكاد أموت.

لقد رأيتُ السلطان حامد نفسه فى الداخل، كان ضخمًا جدًّا، أضخم من الجمل، وله رقبة طويلة جدًّا وبارزة من جسده الضخم بطريقة مخيفة، وتنتهى بكتلة خضراء كبيرة تلمع فى الظلام، كان السلطان باركا فى الداخل يتلمَّظ ويكاد يمد رقبته الطويلة ويقضم رأسى. 

ظلِلْتُ مُخْفِيًا رأسى فى حجرى وعيناى مغلقتان وأنا لا أستطيع الجرى أو التفكير أو حتى قراءة: بسم الله الرحمن الرحيم، وحولى آلاف العفاريت التى لم أؤمن بها قط وخُدَّام الفناجين، وإبليس وشقيقاتى اللائى تحت الأرض، وكل ما ارتكبته من ذنوب وكل ما سخرت به من معتقدات.

واعتقدت أنى حالًا سأموت، ولكنى عجبتُ حين مرَّ وقتٌ طويل ولم أُمتْ، ثم ضحكتُ من نفسى لأنى ظننتُ أنى سأموت، ثم فتحت عينىَّ ورأيتُ أشجار الكافور العالية والحقول الممتدة البعيدة، والناس الرائحين الغادين كنجوم النهار، وكل شىء غير خائف، وكل شىء يسخر منى ومن خوفى.

والشىء الذى لم أكن أتصور مطلقًا أن يحدث، وجدتُ نفسى أفكر فيه، لماذا لا ألقى على المقام نظرة أخرى؟!

تطلعت إلى النافذة وتردَّدتُ، ولم ألبَثْ أن وجدتُ دافعًا أقوى منى يدفعنى للإمساك بحديدها من جديد، ربما الهلع، وربما حب الاستطلاع، وربما الاستخفاف بأمر السلطان، كنَّا جيلًا معفرتًا، كما يقول عنا آباؤنا وأجدادنا، والمسائل الغامضة مثل العفاريت وخلافها مسائل تدور على ألسنتنا فقط، ونتذكَّرها ساعة الغرق، ولكنَّا لا نؤمن بها فى أعماق قلوبنا، وكان آباؤنا يقولون عنا هذا؛ لأننا لم نكن نخاف مما يخافونه، وحتى إذا خِفْنا كان خوفنا يدفعنا إلى السخرية بالشىء الذى نخاف منه، كنَّا جيلًا معفرتًا كفَّ عن لعب الكرة «العميو» بيده، وأصبح يلعب الكرة بقدمه، ويمضى فوق قضبان السكة الحديد المحرمة دون خوف أن يَظهر له القطار فجأة ويدهمه، وحتى إذا ظهر له القطار، كان فقط ينتحى جانبًا وقد جهز له فى يده زلطة، يقذفه بها إذا مرَّ، ثم يعود يجرى فوق القضبان.

 

يُتبع فى الحلقة القادمة

من كتاب «حادثة شرف»