جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

متى يرى المصريون (الجماعة 3)؟!


(١)
لا شك أن مسلسل (الجماعة) بجزءيه الأول والثانى هو من أهم وأعظم ما قدمته الدراما المصرية التاريخية فى السنوات الأخيرة، إنْ لم يكن أعظمها على الإطلاق. 
بذل الراحل العظيم وحيد حامد جهدا كبيرا حتى يصل لتلك الدرجة من الموضوعية البحثية، كما لم يدخر كل من شارك فى هذا العمل بسنوات خبرته وحماسه حتى يصل المنتج النهائى إلى تلك الدرجة من الاحترافية والإثارة والمتعة. 
لم يصبح هذا العمل فقط من كنوز الدراما المصرية، بل أصبح وثيقة قوية لن تُجدى معها نفعا أية محاولة مستقبلية لإعادة تجميل الوجه القبيح للجماعة الدموية الساقطة!
يدرك هذه الحقيقة جيدا كل من قرأ تاريخ الجماعة منفصلا، أو من قرأ تاريخ مصر المعاصر واطلع على أسرار الجماعة التى دأبت على إخفائها حتى عن قطعانها!
لم يخرج العمل سطحيا دعائيا مرددا بعض (الإكليشيهات) المجردة التى أصبحت تنفر البعض وغدت كمرافعة محامٍ فاشلٍ فى قضية عادلة!
المصريون نضجوا كثيرا فى سنوات قليلة، لكنها كانت سنوات قاسية جدا، وترتب على نضوج كثيرٍ منهم بشكل درامى فجائى أنهم أصبحوا لا يتململون من  مشاهدة الحقائق التاريخية الجامدة على شاشات الدراما!
كما أن العمل داعب بشكلٍ خاص عشاق التاريخ وهم يرون ما قرأوه وعرفوه يتحقق ويتجسد أمامهم دون كذب أو محاولات تجميل أفاقة!
وهذا ما قدمه لهم وحيد حامد.. حقائق وتفاصيل وأحداث وشخصيات مجسدة  بعد أن كان كل ذلك لمن قرأ التاريخ مجرد صفحات ورقية وكلمات وأسماء!
(٢)
لقد وثق المسلسل فى جزءيه أحداثا كبرى من تاريخ مصر، و وثق مواقف الجماعة الدموية من كل حدث، وكشف أيديولوجية الجماعة للعامة بشكلٍ مبسط دون تعقيد.. وهى أنها جماعة سياسية نفعية تستبيح القتل فى سبيل وصولها لغاياتها السياسية شأنها شأن كل الجماعات والتنظيمات السرية عبرالتاريخ.. وأن الدين لم يكن إلا مطية. 
وفى هذا الكشف الذى قام به المسلسل حرقٌ لأية محاولة مستقبلية لإعادة استخدام أقنعة اهترأت تماما وربما تتحول أية محاولة لذلك لمادة دسمة تغذى شغفٓ المصريين بالفكاهة المؤلمة لسنواتٍ قادمة!
وثق المسلسل العقود من بداية نشأة الجماعة عام ١٩٢٨م وحتى إجهاض مخطط التنظيم السرى للجماعة بقيادة سيد قطب لاغتيال عبد الناصر وتفجير القناطر الخيرية وإغراق الدلتا وتفجير مصر من الداخل!
شمل ذلك تنظيمى ١٩٥٤ و١٩٦٥وكشف معتقدات وأفكار القيادات التى كانت وقتها فى مراحل الصبا والشباب، ثم أصبحت قيادات كبرى فى أخطر سنوات عمر الجماعة حين وصلت لحكم مصر!
رؤية عمر التلمسانى وفكرته الشيطانية بأن (يحتل الإخوانُ مصر) – بأن ينتشروا فى جميع مفاصل مصر ومؤسساتها وجغرافيتها-  حتى يحين الوقت المناسب، فتسقط مصر ويسقط حكمها كثمرة ناضجة فى حجر الإخوان، وهذا ما حدث!
كما وثق المسلسل اقتناع كثيرٍ من قيادات الجماعة وبشكل صريح أن أفكار سيد قطب هى نفسها أفكار حسن البنا، لكن الفارق فى نعومة حسن البنا اللغوية وخشونة تعبيرات سيد قطب وفظاظتها الدموية!
(٣)
ومن روائع هذا المسلسل أنه لم يسقط فى الخطأ الفخ الذى يسقط فيه كثيرون ممن يتصدون للأعمال الدرامية أو الإعلامية التى تتناول تاريخ وسيرة الجماعات الإرهابية من منظور وطنى!
فالمسلسل نجا من هذا الفخ فلم يُخفِ ما تعرض له بعض أفراد التنظيم السرى فى السجون ممن تورطوا فى جرائم دموية أو كانوا يخفون الأسلحة أو يخفون خطط دموية!
قام المسلسل بتقديم مشاهد احتلت مساحة من العمل تتناسب مع حقيقة ما حدث بالفعل  فى السجون التى كان يتم فيها احتجاز أعضاء التنظيم السرى المسلح من استخدام وسائل تعذيب ضد هؤلاء الأعضاء لاستنطاقهم بما اقترفوا أو أخفوه من أسلحة أو يخططون له من جرائم!
وكان تفوق هذا المسلسل فى تقديم تلك المشاهد فى تسلسلها وسياقها  التاريخى والجنائى  الحقيقى!
فتعذيب عضو التنظيم السرى الطالب بالكلية الحربية أرشد عن القادة الأربعة، الذين تم بالقبض عليهم إجهاض مخطط إغراق الدلتا واغتيال عبد الناصر، وضبط المتفجرات التى قام التنظيم بذراعتها بجوار خطوط السكك الحديدية!
إننى أعتقد أنه لا الناصريين ولا اليساريين ولا أكثر كارهى الجماعة هم الذين غضبوا وحزنوا واغتموا لعرض هذه المشاهد، وإنما فلول الجماعة الشاردون هنا وهناك هم من اغتموا وحزنوا وتمنوا لو لم يتم عرضها!
لأن فى عرضها بهذا السياق - وبكل ما أحاطها من مشاهد وأحداث واعتراضات من بعض أجهزة وقيادات الدولة ذاتها وبكل ما أجهضته من جرائم تخريبية ودموية كان أفراد التنظيمين فى طريقهم لاقترافها – تم إزالة الستار الأسود عن الوثن لإخوانى الأعظم، الذى كانت بركاته ذات الفضل الأكبر على الجماعة وأعضائها فى انهيال الأموال من الداخل والخارج وفى تسهيل عمليات التجميد عبر الجامعات والمساجد فى العقود من أوائل الستينات وحتى عام انتخابات ٢٠١٢م!
إن المسلسل بجرأته وإقدامه على عرض هذه المشاهد ووضعها داخل سياقها التاريخى، وبخلاف أن فى ذلك تأكيد لمصداقيته، فإنه قد قام بهدم حائط المبكى الإخوانى الأعظم!
لقد كان إخفاء هذا الحائط يمنحه زخما ورهبة وقطعة من التعاطف الإنسانى لأى قارئ لترانيم بكائياتهم السرية!
أما بعد أن فتح المسلسلُ الستار على مصراعيه على كل ما حدث للعامة والخاصة، فلقد تم تجريد الجماعة من أنجع أسلحتها التى استخدمتها عبر العقود الماضية!
(٤)
توقف المسلسل فى جزئه الثانى عند محاكمة تنظيم عام ١٩٦٥م وتنفيذ حكم الإعدام فى أربعة من قياداته. منذ ذلك التاريخ وحتى مشاهد ثورة يونيو هناك ما يقرب من نصف قرن تذخر بالأحداث الجسام التى مرت بها مصر والمنطقة بأكملها وتغيرت مفردات سياسية عالمية.
وخاضت مصر فى تلك الفترة ثلاثة حروب وقدمت آلاف الشهداء والجرحى.
فى نفس الوقت الذى كانت الجماعة الإرهابية مشغولة بتنفيذ خطة عمر التلمسانى باحتلال مصر، فأصابها السعار فى تجنيد مئات الآلاف من المصريين بدءً من المدارس الابتدائية فيما يسمى بالمعاهد الأزهرية مرورا بكل مراحل التعليم و وصولا إلى جميع المؤسسات والمنشآت المصرية الحكومية والخاصة.. ولا استثنى أية مؤسسة أو منشأة من تأثرها برذاذ سعار الجماعة هذا!
من جماعة مشردة مفضوحة وطنيا، تم إعدام بعض قياداتها وإدانتها فى شرفها الوطنى والدينى والإنسانى عام ١٩٦٥م، إلى جماعة ترتع فى مصر طولا وعرضا، وتمتلك عشرات الإمبراطوريات الاقتصادية، ولديها علاقات مباشرة بدول وقوى أجنبية، وتناطح الدولة رأسا برأس عام ٢٠١٠م،ثم  إلى تحقيق رؤية التلمسانى وسقوط مصر وحكمها كثمرة يانعة فى حجر الإخوان عام ٢٠١٢م!
نصف قرنٍ تبدلت فيه المواقع والأحوال، وأصبحت الجماعة واحدة ضمن حزمة جماعات يتنافسون فى درجة الدموية وسفك الدماء..ثم وصلت العصابة لحكم الدولة!
فماذا حدث فى مصر خلف الستار؟
ومن تواطأ؟
ومن ساوم بمصر.. من أجل مقعد حكمٍ؟
أو منصب فى دائرة حكم؟
أو منبر إعلامى؟ 
ومن جلس على مقعدٍ لم يكن كفؤا له فتم خداعه أو العبث به أو إجباره على فتح ما يحرسه من ثغور مصر العقلية أو اللوجستية أو الاقتصادية أمام أموال وجواسيس الجماعة؟!
(٥)
نصف قرنٍ.. حقبة زمنية كبيرة تحمل ملايين الصفحات وآلاف الأحداث والأسماء سواء كانت صفحات مضيئة أو قاتمة، أسماء مكللة بالغار أو يلاحقها العار!
إننا كعوام المصريين لنا كامل الحق أن نقرأ تلك الصفحات قراءة سهلة كما قرأنا غيرها فيما يوثق أحداث ما قبل عام ١٩٦٥م!
لا نريد أن يتم طمس الحقائق أو تزويرها. نريد استكمال هذا العمل الملحمى التاريخى حتى يكون لنا سلاحا فى معارك قادمة ولا ريب! 
لقد شرع المبدع العظيم وحيد حامد فى استكمال موسوعته التاريخية تلك بالجماعة ٣، لكنه رحل قبل استكمال واحدٍ من أعظم أعماله. رحل وترك فراغا إبداعيا من البديهى أنه لن يكتمل لأن لكل مبدعٍ بصمته الخاصة به وحده.
لقد رحل المبدع العظيم وحيد حامد، لكن مصر لم ولن ترحل!
مصر بماضيها وحاضرها و مستقبلها وآمالها وتخوفاتها وجزء مفصلى من تاريخها المعاصر لن تموت بموت أحد مبدعيها!
لا أحد يمكنه إنكار تميز هذا المبدع العظيم وجهده الكبير فى إنجاز هذا العمل، لكن الجزء الثالث الذى لم يكمله أصبح مطلبا مصريا وطنيا لا يمكن أن يوارى تحت الثرى لغياب الراحل وحيد حامد!
مصر بكُتّابها ومبدعيها قادرة على إتمام هذا العمل، خاصة مع توافر كثيرٍ من المعلومات لدى الدولة المصرية عما اقترفته هذه الجماعة فى نصف قرن ضد مصر والمصريين!
يمكن أن يتصدى لإتمام هذا العمل بعض هؤلاء المبدعين مسترشدين بمنهج وحيد حامد فى الجزئين السابقين!
أحترم كثيرا ما قاله الابن المخرج مروان حامد عن عدم إمكانية خروج هذا العمل للنور بعد وفاة والده، ويمكن تقبل ذلك من باب وفاء الابن لأبيه، لكن مصر تستحق أن يتم توثيق تاريخها حفاظا لحق الأجيال القادمة فى المعرفة!
كل المبدعين يرحلون لكن الأوطان باقية!