جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

لغز يحيرنى

سؤال محير سأله سيجموند فرويد 6 مايو 1856 - 23 سبتمبر 1939: 
" كيف يتحمل البشر التعايش السلمى مع كل هذه الأكاذيب التى يمارسونها من الصباح وحتى المساء ". 
العالم النفسى الشهير فى فك أسرار النفس البشرية ، وادراك المخفى من وجوه البشر وسلوكياتهم ، وعلاج عقدهم واضطراباتهم ، يحيره سؤال : " لماذا يكذب الناس ويتحملون الكذب طوال ال24 ساعة على حد قوله .
وقد توصل فرويد الى أن الكذب احتياج نفسى ، بدونه يعجز الناس عن الحياة . 
وبدورى أنا أستعير سؤاله المحير ، ليصبح واحدا من الألغاز المعقدة . محاسن الأخلاق شعارات وزخرفة واستعراض ، كلها أكاذيب .. كذب فى كذب ، نصحو ونغفو على الأكاذيب ، ملابس أنيقة بداخلها عناكب وحشرات ، سلوكيات تسمم الحياة . فالحياة بأخلاق كاذبة وللدعاية ، تماما كاسم . وعلى الرغم من أن هناك وصية دينة اسمها : " لا تكذب " ، الا أن الشعب المتدين بفطرته له رأى آخر .
سؤال منطقى ... كيف نحرص كل الحرص على صوم رمضان ، وعلى أداء 
كل الفرائض الدينية ، بشكل لا يخلو من الدعائية ، والمظهرية ، ونعيش فى 
مجتمع متخم ، بمكبرات الصوت ، بالحديث عن استقامة الأخلاق .. والدعوات الدينية الى محاسن الأخلاق ، والفتاوى المنهمرة علينا فضائيا ، وأرضيا  ، عن أهمية وضرورة مكارم الأخلاق ، وخطب الجمعة كل أسبوع ، التى تنادى بحُسن الخُلق ، ومع ذلك ، فالانحدار الأخلاقى ، يحاصرنا من كل اتجاه ؟؟. 
اللغز الذى يحيرنى ، هو كيف مع انتشار ، واستمرار الوازع الدينى  ، وفى كل شبر فى مصر ، ويخيف الناس من العقاب الالهى المتربص ،  الشديد ، لو تركوا الطريق المستقيم ، نجد أن الطرق غير المستقيمة فى كل مجال ؟؟.       
    كل سنة مع بداية رمضان ، أسمع عن واجب تشريع ، أو قانون ، يجرم الافطار
جهرا فى نهار رمضان . هل يتوافق هذا مع " لا اكراه فى الدين " ، أم أنه ارهاب 
من الدرجة الأولى ، باسم الصوم ، والفرض الالهى ؟؟ . هل نحن نتقدم فى الانفتاح ،
والتعدد الحضارى ، أم نمشى الى المزيد من التعصب ، والتطرف ، والتحكم فى الناس ،  والارهاب ، تحت اسم فرض " الصيام " ؟؟.

وعندما تقرر وزارة الأوقاف ، تنظيم فوضى مكبرات الصوت فى المساجد ، والجوامع ، فى شهر رمضان ، وجدنا أصوات غاضبة ، مستاءة ، تعتبر هذا القرار ،  قلة ايمان ، وقلة اسلام ، وقلة تدين . وكأن الايمان ، والاسلام ، والتدين ، 
لا يكتمل ، ولا يؤدى رسالته ، الا بانتهاك حرمة خصوصية الناس فى بيوتهم .  
الايمان شئ ، واستعراض الايمان بالصخب ،  والترهيب ، شئ آخر مناقض ، معيب . 
     كان لابد لمجتمعاتنا ، بكل طقوسها الدينية ، وصوتها المرتفع بالميكرفونات ،  أن تصبح أفضل المجتمعات أخلاقيا ، هذا لم يحدث .. لماذا ؟؟. لماذا لم يؤدى الصوم المتراكم فى رمضان ، عبر زمن طويل ، الى الصوم عن مفاسد الدنيا ، ومتاعها
الزائل ، وغرورها الأحمق ؟؟. 
    عندما تفضح وسائل الاعلام ، امرأة فاسدة ، أو رجلا فاسدا ، أسمع أصواتا ، يؤدى أصحابها الطقوس الدينية ، فى مواعيدها ، وبحذافيرها ، تقول : 
" ليس العيب أنه سرق أو اختلس ، أو أخذ رشوة ، لكن العيب أنه لم يكن حريصا بالقدر الكافى حتى لا يُكشف أمره ". نعم ، وصلنا الى هذا الحد ، من التأقلم مع الفساد ، وتبرير التلوث الأخلاقى . 
     أطباء يعلقون آيات قرآنية ، على الحائط فى عياداتهم ، ولا يبدأون مواعيد الكشف فى رمضان ، الا بعد الافطار ، والانتهاء من صلاة التراويح . لكن هذا لا يمنعهم من استنزاف فلوس المرضى ، والتربح على جثث أصحاب الداء . 
      مستشفيات تضع على الحائط ، صورة الحشود فى الحج ، وترمى المرضى 
فى الشارع ، قبل دفع آلاف الجنيهات تأمين ، وضمان ، لعدم موت المريض قبل
أن يسدد الفواتير الخيالية ، والتى اذا رآها الانسان بعد أن يشفى ، سيمرض مرة
أخرى ، أو سيقع دون قيامة . 
      ذكور فرحون بشبابهم الذكورى ، بعد التهام طعام الافطار ، وانتهاء الصوم ، 
ينزلون الى الشوارع ، يتحرشون بالفتيات ، والنساء ، كنوع من التسالى حتى موعد السحور . 
     محلات تغلق أبوابها وقت صلاة الجمعة . وبعد الصلاة تواصل الغش فى 
فى البضاعة ، وفى الأسعار . 
    تاكسيات تكتب على الزجاج الخلفى للسيارة : " لا اله الا الله ..
محمد رسول الله ".... ومعاملة السائق خشنة ،  جشعة ، وهى تستمع فى الراديو ،
الى آيات من الذكر الحكيم . 
  كيف أصبحت الشتائم ، والبذاءات ، والتهكم المهين ، والاتهامات الوضيعة ،
والخيالات المريضة ، هى لغة  " التعبير عن الرأى المخالف " ، فى مجتمع يتسابق
للاعلان عن شهر رمضان ، وبركة شهر رمضان ، والتعبد فى شهر رمضان ، والتهجد فى شهر رمضان ؟؟. 
     لست قلقة على حالنا من الناحية الاقتصادية . فكل أزمة اقتصادية ، معروفة السبب ، والحلول . ولا يخلو أى مجتمع من المعاناة الاقتصادية ، مهما عظم شأنه ، 
وازدهرت قدراته ، وموارده . بل ان بعض التعثر الاقتصادى ، ضرورى ، لاستنهاض 
الهمم ، وتحفيز الارادة الكامنة ، الى المزيد من الانجازات . 
     لكننى قلقة ، على حالتنا الأخلاقية ، وتدنى السلوكيات الحضارية ، التى وصلنا 
اليها ، رغم أننا نصلى ، ونصوم ، ونحج ، ونزكى ، ونعتمر ، ونقيم صلوات التراويح ،
ونمسك السبح ، ونبسمل ونحوقل ، ونرسل ذريتنا الى مدارس وكتاتيب تحفيظ 
القرآن ، ولا شئ يسعدنا قدر تغطية النساء ، بالأقمشة ، وذكورية القوانين الجائرة .  
  ما جدوى الاقتصاد المزدهر ، طالما الذى ينعم به ، انسان فقد نقاء الأخلاق ، 
ونزاهة الأخلاق ، واتساق الأخلاق ؟. 
      انسان " صائم " ،  عن لذات الطعام ، والشَراب ، والجنس ، لكنه "  يفرط " 
فى التهام نبل الخلق ، ورقى المشاعر ، وأدب السلوك . انسان " ممتنع " عن 
دخول أى شئ يدنس الفم ، " مرحب " ، بكل الأشياء التى تدنس النفس ، والعقل ،
والقلب . 
                                   من بستان قصائدى 
                                 ------------- 
                                 
                           زهرة فى الأرض الخراب 
                        --------------

                                           منْ قال لكم
                                      أننى أريد هذه الحياة ؟
                                      لماذا توقعتم أننى
                                     سأنتمى الى عالمكم هذا ؟
                                     منْ قال لكم 
                                    أننى أتقبل توالى الليل والنهار
                                 وغدر الجسد الذى أحمله
                                والعواصف الربيعية الممتلئة بالغبار ؟ 
                               منْ قال لكم
 أن مزاجى وطباعى ودمى
                             يرضى بهذا العبث واللاجدوى والسراب 
                            و سأبتلع السم فى الطعام والشراب ؟                              
                            كيف للزهرة المنتزعة من الحدائق 
                          أن تتأقلم فى الأرض الخراب ؟
                            منْ قال لكم 
                          أن لى مكانا هادئا ساكنا آمنا
                         تحت الشمس الحارقة الصاخبة ؟ 
                        وبيتا دافئا برائحة القهوة والبخور والورود
                        يأوينى .. يعزلنى عن التفاهات والتقاليد والجحود ؟ 
                         منْ قال لكم
                        أن روحى تحتمل الظلم الذى تعبدون
                       والقهر النائم فى فراشكم وله تسجدون ؟
                       منْ قال لكم 
                       بقلبى متسع لذكريات تئن من الندم
                       وألم لا يكف عن الصهيل 
                      وحياة مهما  تتجمل وتراوغ وتتخفى 
                          فهى عدم ؟