جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«مرآة الإسلام».. حياة العرب قبل الإسلام فى ميزان التاريخ

جريدة الدستور

 

يسرد الأديب والمفكر الراحل طه حسين فى كتابه «مرآة الإسلام»، الصادر عام ١٩٥٩، بعين ترى التاريخ كباب لفهم تلابيب ما وصل إليه المجتمع العربى، وولج إليه أفراده. يتجه طه حسين من التأريخ الاجتماعى إلى رؤية الدين والمجتمع.

يكتب فى الكتاب الأول وأول فصوله أحوال العرب فى القرن السادس عشر الميلادى، بثنائية التقريرية/ الكتابة الإبداعية، فيتحدث عن التخلف والعطب الحضارى الذى ربض بالأمة العربية، مقارنة بما حولها من أمم. يتحدث عن بقايا حضارة، وعن كيف عاش العرب فى بداوة أكثر منها حضارة، وكيف ساعدت سيطرة الحبشة ومن بعدهم «الفرس» فى تجهيل الوطن العربى، ويسرد أيضًا ملامح شبه الجزيرة العربية وطوائفها، مثل طائفة الحضر الأكثر مالًا والمتساوية فى التخلف الفكرى والحضارى وانعدام العلم..

ويتخذ من ثنائية الأمم/ الدين، وعلاقة الإنسان بالمجتمع ودينه مسلكًا لفهم ما طرأ على الأمة؛ حيث اتخذوا بعضًا من الحضارة والدين النصرانى واليهودى بفضل التجارة، وشعراء البادية، الذين عرفوا بعضًا من وجوه الحضارة عن طريق جوائز ظفروا بها وقدمها لهم ملوك.

مما يسرده طه حسين من ثنائية الدين/ الشعوب، والتقدم/ التخلف نتفهم الرؤية العصرية لتاريخ سرده «حسين»؛ حيث تأثير الاحتلال والفقر، والبيئة الجغرافية والأوضاع الاقتصادية على الدين وطباع الأمم. 

يمكننا أن نستنتج نتائج النظرة السطحية الخاطئة للدين، والتشدد الدينى، وتوريث المعتقدات دون فهم ورؤية عصرية، فيكتب الراحل: 

«وكان لهم دين غليظ كحياتهم هو هذه الوثنية الساذجة الغليظة التى لم تفكر فيها عقولهم ولن تمتزج بقلوبهم، وإنما كان أخلاطًا ورثوها عن آبائهم فلم يغيروا منها شيئًا بل أنكروا كل مَن حاول أن يغير منها شيئًا».

أيضًا، نقدر على رؤية شكل الحكم الصحيح بعيون فاقد البصر وصاحب البصيرة النافذة، التى هى للتقدم حافظة؛ حيث اختلاف الآراء وتقدمها هو ما خلق تقدمًا نسبيًا لـ«قريش»، دونًا عن باقى مجتمعات شبه الجزيرة العربية والعرب، فيكتب المفكر: 

«وكل ما وصلت إليه قريش من التطور فى شئون الحكم هو أنها لم يكن لها سيد أو شيخ يُرجع إليه فيما يشكل من الأمر وإنما كان لها سادة أو شيوخ يلتئم منهم مجلس فى المسجد الحرام..».

ورغم ذلك يذكر طه حسين أنه كان تقدمًا يشمل الأغنياء والطبقات العليا ويظلم الفقراء، حتى جاء أهم الأنام، ونشر المنزل من الكلام فى جزيرة العرب، بعد العصر الجاهلى، وحتى ما قبل بعثة الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- ظهر حلف «الفضول»، الذى شارك فيه محمد بن عبدالله، لنصرة الضعفاء من عباد الله.

وكذلك تأثير البيئة الجغرافية والتاريخ الاقتصادى وأوضاعه، والسياسة وعلاقتها على الدين؛ حيث يخلق الفقر والغلظة الاقتصادية عادات غليظة، قاسية، مستنكرة، وقد غير الإسلام هذه العادات، مع تجديده ورؤيته النقدية لأوضاع المجتمعات، فالرؤية النقدية هى الحل.

يعرض طه حسين ملامح الإسلام وتأثيره على المجتمعات، وتأثير التفكير النقدى. ويبدأ طه حسين بسرد أدبى، ورؤية إبداعية تتخذ من البنية الروائية ملمحًا لسرد السيرة النبوية، فيبدأ بجده «عبدالمطلب» وأجزاء مهمة من حياته، ويتجه إلى عام الفيل، وهو المختلف على حادثته حيث لم يذكر اسم «أبرهة» فى القرآن الكريم، وقال بعض المؤرخين إن «أبرهة» لفقت له الحادثة على يد أحد اليهود، لكن الأكيد هى الحادثة ومغزاها، وموقعها من ميلاد النبى الكريم. نرى أيضًا رؤية طه حسين للقرآن وتفسيره؛ حيث يحب أن يفهم القرآن بتأويل المسلمين الأولين مع الرؤية المعاصرة. 

يبنى طه حسين شخصية محمد، صلى الله عليه وسلم، ليفهم أهمية الإسلام وموقع محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب من قومه. أيضًا، يتجه فى بعض المواضع إلى سماحته وسماحة رسالته، حيث كان يعامل النصارى بالخير والحسنى، وغيرها الكثير مما ذكره «حسين».

يرى طه حسين بعيون مفكر يرى الدين الإسلامى المنزل على الرسول الكريم كبوابة لفهم معنى التنوير، فالرسول جاهد ورفض عروض الملك والغنى، وتحمل ما طرأ عليه من عذاب، وكأنه عقاب على تفكير وتنزيل نقد ما كان بالمنطقة من خراب فكرى وحضارى ودينى؛ فأراد الرسول، صلى الله عليه وسلم، القضاء على الطبقية والفقر والظلم والجهل، وحتى عندما لاقى العذاب صبر، وهنا من الممكن أن نرى المعنى الأجمل للإسلام، وهو الحرية.. الصبر من أجل الفكر والبحث عن حق، فيكتب الراحل عن ياسر وزوجته سمية وابنهما عمار، الذين عذبوا على يد متشددين عميان، وكان موقعهم فى جنة خلد، خلقت لأصحاب فكر حاربوا الجهل والطبقية والفقر واللهو بقول إن وراء الحياة معانى وحياة.

يكتب طه حسين عن القرآن الحكيم، وتأثيره الكريم، الذى لا يعتمد على نقل القديم، كما رأى رجال دين أفسدوا الفكر؛ بل يقطن بثناياه التأويل العظيم والعقل؛ فهو الخطاب الدينى الممتد إلى عصور، وهو خطاب مرن لا يعتمد على تحجير فكرى؛ بل يُؤول بتأويل العصور.

«فالعربى القديم من أهل الفصاحة واللسن والبراعة فى تصريف القول قد سمع القرآن فراعه منه ما راعه واستجاب له هذه الاستجابة التى يعرفها التاريخ، ولكن أجيالًا أخرى لا تحكم ولا تصرف القول ولا تذوق روعة البيان قد جاءت بعد أولئك القدماء من العرب فسمعت القرآن وقرأته، فإذا هو يستأثر بتقولها وقلوبها وإذا هى لا تقرؤه أو تسمعه إلا خشعت».

ومع معاصرة القرآن مع اختلاف الأجيال يُقرأ فى الإذاعات الأوروبية، كما ذكر طه حسين، وعظمة القرآن الكريم تأتى فى إحكام العقل لا النقل، ورؤيته كخطاب دينى مرن، يحتمل التأويل والرؤية المعاصرة.