جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عبقرية مصر تتجلى فى ليلة

نعم في ليلة واحدة تستطيع الأمم ذات الحضارة والدول ذات التاريخ أن تكشف للجميع عن مدخراتها الحضارية وإرثها الثقافي وثرواتها البشرية وكنوزها المخفية. كل تلك المعاني كانت ليلة مصرية واحدة كفيلة بأن تبرزها وتظهرها للجميع في داخل الوطن وخارجه من المحبين الذين أقلقتهم دورة الأيام وظروف عابرة مرت بها كل الأمم، ومن الكارهين الذين ظنوا أن حضارة السبعة آلاف عام يمكن أن تعصف بها أزمة اقتصادية عابرة أو تداعيات ظرف سياسي استطاع الوطن تجاوزه باقتدار بفضل حفظ الله له، ثم بحكمة المخلصين من أبناء هذا الوطن.
   أعني بتلك الليلة ليلة غُرة شهر رمضان المبارك التي احتفلت فيها مصر احتفالًا وقورًا وبسيطًا ولكنه جاء حفلًا عبقريًا يجسد حضارة وثقافة وفن وتدين وكفاءة المواطن المصرى. إنها الليلة التي توجها حضور السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي بالعاصمة الإدارية الجديدة ليشهد ليلة أظنها من ليالي مصر الخالدة. بدأ الرئيس وضيوفه الليلة بحضور سحور أول أيام شهر رمضان في معية العاملين بالعاصمة الإدارية الجديدة وبصحبة كبار الشخصيات وضيوف مصر من الدبلوماسيين وممثلي الجاليات والبعثات الدبلوماسية المقيمة.
    بعدها اتجه السيد الرئيس والحضور إلى ساحة المركز الثقافي الإسلامي بالعاصمة الجديدة لافتتاحه. صرح عظيم البناء أثبتت به مصر أن المال وحده لا يصنع حضارة، وأن مثيلاتها من الدول العظيمة حضاريًا والعريقة تاريخيًا قد تمرض ولكنها لا تموت، وأن مرور الزمن لا يجعل الدول ذات الحضارة تشيخ، بل إنها تزداد جمالًا و حضورًا وبهاء كلما مضت بها الأيام بل والقرون. تجلت عظمة الاحتفال منذ بدايته بأداء لُغوي رصين من أحمد أبوزيد مذيع الحفل الشاب تمثل في اختيار دقيق منه للألفاظ وإلقاء سلس لا يقدر عليه إلا من امتلك ناصية اللغة وخبر مواطن بلاغتها. 
     ثم ينبري الشيخ الدكتور أسامة الأزهري لإلقاء كلمة أعطتنا شعورًا بالاطمئنان على مستقبل الأزهر إذا كان أمثال الشيخ الجليل من خريجيه وسدنته. فالأزهري متمكن من أدواته ورصين في أدائه وعميق في اختيار مفرداته. 
عرفت الشيخ أسامة السيد محمود، المعروف باسم د. أسامة الأزهري والتقيت فضيلته قبل نحو خمسة عشر عاما- منذ كان باحث دكتوراه- حين كنت أعد وأقدم تحقيقًا إذاعيًا عنوانه «سبعة ذنوب للحاسوب».
     ساعتها أبهرني وقاره، وقوة حُجته، ودراسته المتعمقة للموضوع المطلوب الحديث فيه، وانضباطه في مواعيده، وتدفقه في الكلام الدقيق دون إطناب يفقد المستمع التركيز وبعيدًا عن المقدمات المعهودة لدى المتحدثين في الشأن الديني. ورغم أنني لم أشرف بلقاء فضيلته منذ ذلك التاريخ، غير أن تتبعي لمسيرته ولأحاديثه ولصعوده الوقور أكد لي ما توقعته له وما عبّرت عنه لزملائي وأصدقائي حين التقيت به وسعدت بمحاورته. وها هو اليوم في هذا الحفل الرسمي يؤكد أن مصر العظيمة لا تزال قادرة على إنجاب العباقرة واحتضانهم ورعايتهم في كل أحوالها.  
    ولم يغب الفن الراقي عن موقع الاحتفالية، فقد برز المطرب هشام عباس منشدًا «أسماء الله الحسنى» بصوت صافٍ وأداء رصين جذب إليه معظم الحضور من كبار الضيوف من المصريين والأجانب، فرددوا معه أسماء الله الحسنى ابتهاجًا بالحدث وابتهالًا للمولى عز وجل في ليلة من الليالي المشهودة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبوهريرة وأخرجه الترمذى والبيهقي: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجن، وغلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادى منادٍ كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، و ذلك كل ليلة».
       ثم يدخل إلى ساحة المركز- التي اختيرت بعناية كموقع للاحتفال- صوت جديد هو أحمد العمري ليؤكد أن دولة الإنشاد والابتهال في مصر قادرة على تجديد الدماء بأصوات شابة تواصل ما بدأه شيوخ أجلاء بقيمة طوبار والنقشبندي والطوخي والفيومي والجرزاوي والهلباوي يليه في الظهور وينافسه في التألق الشيخ الشاب مصطفى عاطف الذي ظهر أنيقًا في زيه الإفرنجي ثم بدا أكثر أناقة ووقارًا حين استبدله بزيه الأزهري ليؤذن لصلاة الفجر حين انتقل الحضور للصلاة في رحاب مسجد مصر، المسجد الجامع في العاصمة الجديدة.
    وتتجلى كفاءة المعماري المصري في كل ركن من أركان المركز بدءًا من تصميم المسجد بمساحته الشاسعة، مرورًا بملحقاته، ومآذنه وقبابه. ثم ينتقل الجميع إلى داخل المسجد لأداء صلاة الفجر وفيها أيضًا تبرز دولة التلاوة المصرية بصوت الشيخ عبدالفتاح الطاروطي بما يثبت المقولة الشهيرة أن القرآن نزل بمكة وكتب في الشام وقرئ في مصر.
    وتختتم تلك الليلة الروحانية بكلمة بليغة من فضيلة الإمام الأكبر يبرز فيها الحكمة من فرض الصوم قبل فرض الزكاة. ويؤكد فضيلة الإمام أن افتتاح مركز مصر الثقافى الإسلامى ومسجد مصر بالعاصمة الإدارية الجديدة فى الساعات الأولى من صيام شهر رمضان المبارك، هو من بشائر الأمل، والفأل الحسن؛ الأمر الذى يشير إلى تعانق العلم مع العبادة فى الإسلام.
       احتفال عبقري ببساطته، عظيم بقيمته، مؤثر برسالته. ليلة تؤكد أن المال وحده لا يصنع حضارة وأن جينات المصري- مسلمًا كان أو مسيحيًا- تعطيه قدرة على الاستمرار في البناء، وتمنحه الصبر والجلد في مواجهة الصعاب. حدث يؤكد قدرة مصرية هائلة على تنظيم المراسم بدقة متناهية وباختيارات راقية وبتكلفة بسيطة ماديًا، لكنها عظيمة التأثير بمقاييس القوى الناعمة الأكثر فاعلية من سلاح المال مهما كثر.