جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

تدهور الجماعة الثقافية

حزين لكتابة الكلمات التالية، لا أكتبها تشفيًا ولا أكتبها سعيدًا، بل أكتبها مهمومًا بمصالح وطن وأمة وضعت حجر أساس الحضارة الإنسانية.

ما أراه هو مشهد مزرٍ أنتج ضحالة فى الفكر وفقرًا فى الإبداع نتج عن تدهور التعليم منذ سبعينيات القرن الماضى ما أوصلنا إلى مرحلة عدم القدرة على مواصلة إنتاج الآباء الأوائل الذين نهضوا بمصر فكريًا وتعليميًا وثقافيًا منذ نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

حينما بدأنا العمل الصحفى كان لدينا ولع بكبار الكتّاب والمثقفين، نمر بجوار المبنى الزجاجى اللامع لجريدة الأهرام، نتمنى أن نرى القابعين فى برج الدور السادس من كبار مفكرى مصر، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، زكى نجيب محمود، لويس عوض، يوسف إدريس، عائشة عبدالرحمن «بنت الشاطئ»، بطرس بطرس غالى، لطفى الخولى، محمد سيد أحمد.

هؤلاء المثقفون الذين حاوروا كبار الفلاسفة والمفكرين والساسة فى شرق وغرب العالم. كانوا يجيدون اللغات الأجنبية، تلقوا تعليمًا راقيًا، انظر حولك وقارن لن تجد أحدًا يتابع بلغة أجنبية إنتاج العالم الفكرى إلا المترجمين فقط، أما البقية الباقية فقد انغلقوا على ذواتهم فى مقاهى وسط البلد وباراتها لا يتابعون العالم الحديث وإنما أعادوا إنتاج نميمة ثقافية تدور حول قصص حدثت خلال النصف الأول من القرن العشرين وأول عقدين من النصف الثانى.

كان «الأهرام» شعلة مضيئة أوقدها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل. دعا كبار مفكرى الأمة للقدوم إلى «الأهرام»، لم يفرض عليهم أى قيود، الشرط الوحيد إذا قرروا الكتابة فسوف يكون مجال نشرها حصريًا فى «الأهرام».

نجيب محفوظ تردد كثيرًا فى قبول العرض المغرى الذى قدمه له محمد حسنين هيكل، مبلغ شهرى يعادل ثلاثة أمثال ما يقبضه من الحكومة.

المفاجأة كانت رفض نجيب محفوظ. قال إنه لن يوقع مع «الأهرام» إلا بعد أن يحصل على معاشه الحكومى، عقلية الموظف وخوفه من تقلبات الزمن دفعته إلى اتخاذ هذا الموقف.

بعد أن تسلم معاشه قَبل عرض هيكل وأصبح من كتّاب الأهرام البارزين.

هيكل أيضًا حوّل «الأهرام» إلى أهم صحيفة فى الشرق الأوسط رغم انتقادات الغرب، صحيفة رسمية تعبّر عن النظام الحاكم فى نهاية الخمسينيات والستينيات هذا ما كانت تكتبه «رويترز» حين تنقل عن «الأهرام»، يزورها كبار الساسة من الغرب وكبار المثقفين مثل سيمون دى بوفوار وسارتر.

لم تتحوّل الجماعة الثقافية إلى شلة من «اللاموهوبين» وإنما إلى منصات تمنح الفرصة للموهوبين يحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل والقادمين من اليسار ومعتقل الواحات بعد الإفراج عنهم فى ١٩٦٤ محمود أمين العالم، عبدالعظيم أنيس، إسماعيل صبرى عبدالله وفؤاد مرسى، وسمير أمين، الذى نجا من الاعتقال وصغار كبار الاقتصاديين رمزى زكى ومحمود عبدالفضيل وجودة عبدالخالق وعلى ضفة أخرى جلال أمين.

وقتها لم تبدأ مرحلة إفساد المثقفين بالبتردولار بعد ١٩٧٣ بدأت الهجرة النفطية التى خربت ثقافة المصريين من العاديين ومن المثقفين، انهمرت الدولارات النفطية لتصب فى مبانٍ عشوائية فى مدن نصر والهرم وفيصل وعين شمس فى ظل تراجع الدولة المصرية، مَن يريد أن يينى على أرض زراعية فليبن، ومَن يريد أن يبنى على أراضى الدولة فليبن.

بدأ تهافت بعض المثقفين على الدولارات بسفر بعض كبار المثقفين إلى الدول الغنية عبر عقود العمل أولًا ثم مع رحلات إحياء الحفلات والمهرجانات ثانيًا.

اخترعت بعض الدول ظاهرة الجوائز الثقافية تمثلًا بالغرب، ففتحت شهية الأدباء والشعراء الذين لم يلقوا رعاية ولا تقديرًا فى الوطن فسال لعاب البعض على الجوائز لدرجة استقالة مسئول ثقافى من أجل الحصول على جائزة محلية ثم نفطية. أما أحد كبار النقاد فقد سخّر قلمه لمدح روايات بعض الكتّاب من خارج مصر قبل أن نرى إبداعًا حقيقيًا قادمًا من سلطنة عمان وبعض الدول الأخرى.

أما الجوائز المحلية فحدث ولا حرج، تم استخدام ثقافة الشلة على أوسع نطاق للضغط على أعضاء اللجان لمنح الجائزة لفلان أو علان لأنه «غلبان» أو «صاحب عيال». 

ماذا حدث للمثقفين المصريين؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه.