جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

هل يمد «منتدى الشباب» يده لـ«أمانى إبراهيم»؟

أعترف أنى اهتززت داخليًا عندما قرأت منشور الزميل الصحفى محمد سامى.. كان سامى يتحدث عن بائعة فى محل فى مدينة منيا القمح.. لكنها ليست بائعة عادية! إنها حاصلة على بكالوريوس السياسة والاقتصاد بتقدير جيدًا جدًا.. على مدار سنوات الدراسة الأربع.. أما تخصصها الدقيق فهو قسم سياسة شعبة إدارة.. ولعل ما زاد حماسى وغضبى أيضًا أن الزميل كتب أن والد هذه الفتاة رجل بسيط يعمل سائقًا لوسيلة نقل بسيطة حتى يستطيع إعالة أسرته.. تحركت غريزة المحقق الصحفى داخلى واتصلت بالفتاة كى أعرف ملابسات هذه الحالة المتكررة.. حيث ينهى شاب أو فتاة دراسته فى كلية نظرية هامة ولا يجد وظيفة مناسبة لدراسته.. فيقبل بمهنة بسيطة.. يصبح عمله بها عنوانًا على أن هناك شيئًا خاطئًا.. إما فى سياسات التعليم وإما فى سياسات التوظيف وإما فى المجتمع كله بشكل عام.. لقد اتصلت بهذه الفتاة لأعرف قصتها واختتمت مكالمتى معها بأنها ظلمت نفسها بنفس القدر الذى ظلمها به المجتمع.. فهى حاصلة على بكالوريوس العلوم السياسية بتقدير جيد جدًا وتعمل بائعة فى محل أحذية براتب ألف وخمسمائة جنيه مصرى فقط لا غير.. أما عدد ساعات العمل فهو أربع عشرة ساعة يوميًا! من العاشرة صباحًا وحتى الثامنة مساء! ومن نافلة القول إنها كانت من الأوائل على المحافظة فى الثانوية العامة.. إننى لم أشعر من حوارى معها بأنها عبقرية أو قنبلة طموح أو شعلة إرادة ولكنى شعرت بأنها مثل ملايين منا مصرية راضية ومسكينة.. لم يساعدها أحد خلال سنوات التعليم على اكتشاف مواطن القوة بداخلها.. فمارست الحيلة الوحيدة التى تجيدها الحفظ والصم والانكباب على المناهج تأكلها أكلًا.. وعندما انتهت الدراسة لم تعرف ماذا تفعل.. فعادت إلى بلدها وتزوجت من «مهندس ميكانيكى»، فهمت من حوارها معى أنه يعمل أحيانًا ويتعطل أحيانًا.. وعندما سألتها عن علاقتها بأساتذة السياسة الكبار فى الكلية مثل د. على الدين هلال ومحمد كمال ونيفين مسعد وهل لجأت لأى منهم؟ أجابت إجابة تفسر ما هى فيه.. فقد قالت إنها وزملاءها كانوا يخافون من التعرف على الأساتذة بشكل شخصى حتى لا يكونوا عرضة لاضطهادهم إذا حدث ما يسوءهم!! وهى نقطة بدت لى غامضة بعض الشىء وإن كانت تقول لنا معنى ما.. وهذا المعنى هو أن الجامعة تحولت إلى مدرسة ثانوى.. أو ما هو أسوأ من المدرسة الثانوى.. لأنه حتى فى المدارس الثانوى يقيم الطلاب علاقات علمية مع أساتذتهم ولا يخافون منهم!! لقد بدت لى طالبة الجيد جدًا البائعة فى محل مفتقدة للطموح.. راضية بأى وظيفة فى نطاق مدينتها، لأن القاهرة بعيدة ومصاريف المواصلات غالية ومع ذلك فيجب أن نشكر والدها الذى علمها حتى انتهت من تعليمها الجامعى رغم بساطة حاله ورغم أن أحدًا لم يستفد من تعليمها هذا.. لا هى ولا المجتمع.. ولا أى طرف من الأطراف.. ومع ذلك فما زلت أرى أنه من الظلم أن تعمل فتاة متعلمة ومتفوقة فى محل أحذية براتب بسيط للغاية.. فلماذا علمناها إذن؟ ولماذا أنفقنا عليها طوال ستة عشر عامًا فى مراحل التعليم المختلفة.. ولماذا تفوقت؟ وبذلت كل هذا المجهود الذى لم يصل بها إلى شىء؟ إن هذه قصة قصيرة حزينة من قصص واقعنا المصرى.. ومن قصص التردى فى التعليم الذى استمر على مدى أربعين عامًا كاملة من حكم مصر.. كانت الأسعار فيها رخيصة.. لكن كل شىء كان ينهار ببطء واستمرار.. إننى أضع قصة هذه الفتاة أمام أمانة منتدى الشباب المصرى كى يقدم المساعدة الواجبة لهذه الفتاة المصرية التى لم تجد أحدًا يرشدها لمواطن الموهبة والقوة داخلها، وأظن أن هذا هو الدور الأول للمنتدى ولكل الجهات المعنية بتمكين الشباب المصرى ومنحه الفرصة كى يطور نفسه ويخدم مجتمعه.. هذا واجب الدولة تجاه أبنائها حتى لو كان الوضع نتاج الماضى البعيد.. إنه واجبنا جميعًا.. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.