جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

هلّت أنوار شهر البركة والتكافل والرحمة

هلّت أنوار الشهر الكريم الذى يحمل معه البركة والخير والرحمة والزكاة والصيام الذى يأمرنا به الله العلى القدير، حتى يجعلنا نحس بالفقير والمحتاج.. هلّت أنوار شهر العبادات الذى نستمتع فيه بالصلاة والتسبيح وذكر الله وختم القرآن والتراويح ولمة أفراد الأسرة حول مائدة الإفطار، وفرحة الإفطار فى لحظة انطلاق المدفع وانطلاق أذان المغرب، والذى يتزامن مع عيد الأم هذا العام.

هلّت أنواره حتى قبل قدومه، فله فى مصر سمات خاصة تضفى على أيامه البهجة للصغار والكبار حيث تمتلئ الأحياء الشعبية بالفوانيس المصرية المصنوعة من النحاس ومفارش الخيامية التى تتزين بها البيوت، وتمتلئ الشوارع بالزينات والأنوار، وتنطلق الأغانى المحببة والمبهجة فى أرجاء الأحياء الشعبية وتحلى لمة الأصحاب فى المقاهى والبيوت والحارات، بل قبل رؤية هلاله بأيام قليلة تصدح فى شوارع بلدنا وفى داخل بيوتنا أغانيه الشهيرة التى نحبها جميعًا فى مصر وننتظر سماعها ونرددها طوال أيامه، ومنها «رمضان جانا، وفرحنا به، أهلًا رمضان»، التى غناها المطرب الشعبى محمد عبدالمطلب، فنحس بأننا قد دخلنا فى أجواء وروحانيات الشهر الكريم، وتبدأ المسلسلات فى التنافس على اجتذاب المشاهدين فى مختلف القنوات الفضائية، وتلتف الأسر حول أجهزة التليفزيون لمتابعتها كل حسب ذوقه وميوله ووقته.

ويذكرنى الشهر الكريم بعادات أمى التى كانت تحرص عليها وما زلت أحرص عليها، فقد كانت أمى رجاء حجاج من خيرة رائدات العمل الاجتماعى والخيرى فى مصر، وكانت تعد كراتين رمضان بنفسها لتوزيعها على الأكثر احتياجًا، لأنها بإهداء شنطة رمضان تُدخل الفرحة على من يأخذها، وكانت هى تملأ الفرحة قلبها لأنها تُسعد بعض الأسر الأكثر احتياجًا بإهدائهم كراتين رمضان التى تضع بها مجموعة من بعض الأغذية الرمضانية الشهيرة، كالتمر والفول والعدس والأرز والمكرونة والشاى والسكر والسمن والزيت، والعصائر المميزة له مثل الكركديه والخروب والدوم.

والأم فى نظرى هى أساس كل السمات الحميدة فى تكوين شخصية أبنائها وأى فرد فيها، امرأة كانت أو رجلًا، فالرجل يجد أنه شب على عادات أمه التى عرفها عندما كان صغيرًا، فهى التى تغرس فى أبنائها حب الخير والعطاء للغير منذ الصغر، وهى التى تعلمهم مفهوم التكافل الاجتماعى، وهى التى تعلمهم الإحساس بالآخرين وعدم الأنانية وحب الذات، وأنا اعتدت أن أحذو حذو أمى فى العمل الخيرى والاجتماعى فى الشهر الكريم بالذات أكثر من أى شهر آخر، وإن كنت حتى الآن أشارك فى العمل الاجتماعى والخيرى الذى أصبح جزءًا من تكوينى ومن مشغولياتى بسبب غرس أمى له فى وجدانى منذ الصغر منذ سنوات طويلة، وحتى بعد وفاتها، ما زلت على عهدى لها بأن أبذل جهدًا صادقًا فى عمل الخير، وإن كنت الآن ومنذ سنوات طويلة لا أجتهد فى عمل الخير فقط، وإنما أنا أيضًا أساند وأدعم من أعلم أنهم يشاركون بصدق ويقدمون مجهودًا صادقًا فى العمل الخيرى والاجتماعى فى بلدنا.

وأجد أن هذا أيضًا يسهم فى التكافل الاجتماعى بل وفى نشر السلام الاجتماعى فى بلدنا، فهناك عدة أنواع من العطاء المطلوب أن نعيه وندركه ونعلمه لأبنائنا، فهناك عمل نؤديه لأنفسنا لتحقيق ذاتنا وللمساهمة فى احتياجاتنا اليومية أو كدخل يدخل بيوتنا، وهناك ثانيًا عمل نؤديه لمجتمعنا، وأقصد به العمل الاجتماعى أو الخيرى، وعمل ثالث نؤديه لبلدنا، وأقصد به الحفاظ على استقرار الوطن والمساهمة فى تقدمه، وفى نشر الوعى الصحيح والتصدى للشائعات ولمحاولات بث الفتن أو بث أفكار متشددة أو رجعية أو ترويج للفوضى أو لأفكار لا أخلاقية، والوقوف فى ظهر الوطن حينما ينادينا الواجب أو فى أوقات الخطر أو الأزمات.

وما زلت أواصل تنفيذ عاداتنا الرمضانية، كما تعلمتها من أمى، فلقد تعلمت منها العطاء للآخرين وتعلمت منها أن أجهز عدة شنط رمضانية أو كراتين رمضانية للمحتاجين وأوزعها عليهم بنفسى حتى يشعروا بفرحة وبهجة رمضان، وبأننا لم ننسهم فى ظل مشغولياتنا اليومية، وهذه اللمسات الإنسانية فى تقديرى هى التى تُدخل الفرحة على قلوب الفقراء، وهى التى تُشعرهم بأن المجتمع لم ينسهم، وعندما كنت صغيرة كانت أمى تحرص على إضفاء البهجة على كل أسرتها بعمل حلويات رمضان، القطايف والكنافة والبسبوسة، التى يحبها جميع أفراد الأسرة.

وكان لرمضان ملامح معينة ظلت على امتداد السنوات تميزه فى بلدنا، ففيه تقدم فوازير رمضان فى التليفزيون، والتى كانت تؤديها باقتدار الفنانة نيللى بعد الإفطار ثم الفنان الراحل سمير غانم لعدة سنوات ثم الفنانة صابرين ثم شيريهان، ثم توقفت، ولا ندرى السبب الحقيقى وراء توقف تقديمها فى التليفزيون المصرى، رغم أنها كانت تسعد المشاهدين صغارًا وكبارًا، وكانت من ملامح الشهر الكريم فى بلدنا، وحتى الآن لم تستطع شاشات التليفزيون فى مصر أن تقدم لنا بديلًا للفوازير أو ما يشبهها، وكانت فيها أسئلة تمد المشاهد بالمعلومات من خلال الاستعراضات الفنية الجميلة والمختلفة فى مادتها وأسئلتها فى كل عام، وأنا أعتز بأننى كتبت بعضًا من أفضل قصصى فى شهر رمضان، كما عرض لى التليفزيون المصرى مسلسلاتى فى شهر رمضان عندما كان لا يزال موجودًا لدينا قطاع الإنتاج بالتليفزيون، وأيضًا عرضت لى الإذاعة المصرية ٤ مسلسلات على مدى ٤ سنوات عندما تريد تنتج مسلسلات ناجحة، وياليت التليفزيون المصرى يعيد تشغيل قطاع الإنتاج وصوت القاهرة للصوتيات والمرئيات. 

وفى شهر رمضان الكريم أيضًا تمتلئ محطات الإذاعة بالبرامج الإذاعية الخفيفة التى هى وسيلة تسلية ومتعة للمستمعين الذين يهوون الإذاعة، أو الذين اعتادوا الاستماع إليها أينما كانوا فى البيوت أو الشارع أو فى راديو سياراتهم.

هلّت ليالى رمضان التى يحلو فيها السهر ليلًا للصلاة والتعبد، فنحس بأنفسنا فى حالة من السمو والتطهر والارتفاع فوق كل الصغائر، وفيه أيضًا ليلة القدر التى هى خير من ألف شهر والتى يحلو لنا فيها الدعاء من القلب وقضائها حتى أذان الفجر فى التقرب إلى الله، والدعاء للأحباء بقلوب صافية وشفافة.

ولأننا نمر فى وطننا بصعوبات اقتصادية نعى وندرك أسبابها جميعًا، ولأننا إذا ما كنا نريد أن نشعر بأننا نحرص على ابتغاء مرضاة الله، العلى القدير، فإننا فى هذه الأيام النورانية المباركة ينبغى أن نُدخل السعادة على الأكثر احتياجًا، خاصة من القريبين منا، ولأن الأقربين أولى بالمعروف فإننا يمكن أن نساندهم وأن ندعمهم ببعض مما يمكننا تقديمه من أغذية رمضانية أو مال يساعدهم فى سد احتياجاتهم واحتياجات عائلاتهم اليومية، كل حسب مقدرته وكل حسب قدرته على العطاء، فهكذا يمكن أن نصبح أكرم وأفضل وأكثر قربًا من الله الذى فرض علينا الزكاة التى هى أحد الفروض الخمسة فى ديننا الإسلامى الحنيف، والتى أمرنا بها الله.. وما أحلى الزكاة والتصدق لأسرة تعيلها امرأة فقيرة لديها صغار فى حاجة إلى دعم ومساندة لها حتى تتمكن من إعاشتهم، وما أحلى الزكاة إذا ما استطعنا أن نعطيها لملجأ فيه أطفال أيتام، بل ما أحلى الزكاة حين نخرجها عن طيب خاطر لشخص مسن ندرك أنه بالفعل فى حاجة إليها ليعول زوجة مريضة، أو مسن أو مسنة فى حاجة إلى دعم ولا يقدر أى منهما على العمل فى الكبر ولديهما كبرياء فى عدم السؤال، بل ما أحلى البر بالوالدين فى شهر رمضان الكريم والدعاء للمتوفين منهم، وهما من أوصانا الله برعايتهما فى الكبر، وكل عام وأنتم بخير بمناسبة الشهر الكريم الذى يطل علينا بأجوائه النورانية بعد أيام قليلة، وكل عام وأسرنا بخير وبلدنا بخير وأمان واستقرار وتقدم.