جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

لا تسحقوا إنسانية شنودة

في العام 2038، وقعت سلسلة هجمات إرهابية استهدفت مساجد كبرى وكنائس مكتظة بالمصلين في مناطق متفرقة من القاهرة، تبعها تفجير انتحاري نفسه أمام محكمة القضاء الإداري، أسفرت جميعها عن مقتل مئات المدنيين، وإصابة مئات آخرين، من المارة ورجال الأمن العام، فيما تبين بعد فحص أشلاء جثة منفذ التفجير وجود "فلاشة" في جيب بنطاله، أثارت فضول القائمين على التحقيق.

بحكم علاقاتي القوية ومصادري النافذة، استطعت الحصول على نسخة من الفيديو الذي سجله منفذ الهجمات الإرهابية قبل عمليته الأخيرة، والذي يعترف فيه بمسئوليته عن التفجيرات التي طالت المساجد والكنائس، والأدوات التي استخدمها وكيف خطط لتنفيذ سلسلة هجماته في أسبوع واحد، ثم قرر التخلص من حياته على عتبات مجلس الدولة، كصرخة احتجاج كتمها طويلًا، غير عابئ بحصد مئات الأرواح قبل توديعه الدنيا.

تسارعت ضربات قلبي وأنا أتابع بحماس، ما سيقوله هذا الشاب الذي يتحدث بهدوء، فيما تطل من عينيه دموع مكتومة، وما الدوافع التي جعلته يرتكب كل هذه البشاعة، ثم ينهي حياته بهذه الصورة المأساوية، حتى عاد إلى العام 2022، وبدأ يسرد وقائع أعادت لذهني خبرًا ظل حديث الناس ومنصات التواصل الاجتماعي، وقاعات المحاكم، والمنظمات الحقوقية، لأشهر طويلة قبل نحو 15 عامًا.

يقول الشاب بهدوء شديد، إن اسمه شنودة وإنه مسيحي، أو يوسف ويمكن اعتباره مسلمًا، ويطلب ممن يشاهد الفيديو إذا كان من أتباع إحدى الديانتين أن يفرح ويهلل لأن واحدًا من إخوته في الدين ارتقى شهيدًا، في الجنة أو الملكوت، مع المسيح أو مع الإله الواحد، لا فرق حقيقي يهمه، إنما شغله وهمه أن تصل رسالته إلى أتباع الديانتين، ووزيرة التضامن، والمشرعين في غرفتي البرلمان، والقضاة على منصات المحاكم، ورئيس الجمهوية المنوط به الفصل بين كل هذه السلطات.

يواصل الشاب النحيف، بينما يشعل سيجارة، فتظهر على ضوء الكبريت هالات سوداء تحيط بعينيه الواسعتين، أنه في نهاية العام 2017، كان ماءً يجري في جسم أحد الشباب الطائشين، ثم اندفع منه إلى مكان مظلم عرف فيما بعد أنه رحم شابة أكثر طيشًا، وبعد أشهر خرج من الضيق إلى البراح ومن الظلمة إلى النور ليجد نفسه قطعة لحم حمراء ملفوفة في قماش رديء بإحدى دورات المياه في كنيسة السيدة العذراء بمنطقة الـ"ريد كورنر".

ترتسم ابتسامة يائسة على وجه شنودة، أو يوسف، وهو يحكي كيف تلقته أحضان القديسين، وألقت به داخل جنة صغيرة، تعلم فيها كيف ينطق "بابا وماما"، وكيف كان يرتدي أفضل الثياب، ولا ينام إلا على صوت ملائكي يقص عليه حكاية الأرنب الصغير الذي لم يستمع إلى نصيحة أمه، وابتعد عن الجحر، فكادت الثعالب تأكله. قبل أن يتجسد الشيطان في شكل ثعلب بشري، قلب حياة الصغير رأسًا على عقب، ليبدأ فصلًا جديدًا في حياته القصيرة على هذه الأرض.

وجد شنودة الصغير نفسه في عنبر فسيح وسط عشرات الأطفال، قبل أن يغير المسئولون اسمه إلى يوسف، خشية نقصان عدد المسلمين، أو انقراضهم من الأرض، يبكي فلا يجد حضنًا يهدئ من روعه، يصرخ فلا يسمع إلا ضحكات الصغار تسخر من هذا الفتى "الطري" الذي لا يستطيع النوم إلا على صوت أمه، قبل أن تمر السنين، ويتعايش يائسًا مع واقعه الجديد.

وفي إحدى ليالي صيف العام 2028، وبعد أن خلد الأطفال إلى النوم، وجد يدًا تتحسسه.. استيقظ مفزوعًا ليرى الأستاذ "سحلية" كمان كان يلقبه الأطفال، أحد مشرفي دار الرعاية، يسحبه إلى مكتبه. انقاد مستسلمًا إلى مصير مجهول، لكنه عاد والدماء تقطر من منطقة حساسة في جسده، وقد فقد الرغبة في الحياة، لكن عددًا من الأطفال حاولوا التخفيف عنه في اليوم التالي، ونصحوه بالتعايش مع الأمر.

تكررت فعلة الأستاذ "سحلية" مئات المرات على مدار السنوات التالية، والغضب داخل صدر الصغير يكبر، حتى حانت لحظة خروجه إلى العالم، ليبدأ رحلة البحث عن نسبه، وأصله وفصله، ولماذا تخلت عنه أسرته، وتركته لرغبات مشرف الدار المنحرف. والبحث عن ورشة نجارة يتكسب منها قوت يومه. لكن دون تنازل عن رغبته في معرفة من يكون، ومن أين جاء، ولماذا لم يجد يدًا تربت على كتفه غير يد القسوة وليالي الاغتصاب المريرة في تلك الدار.

كان شنودة، أو يوسف، يتردد على "نت كافيه" يبحث من خلاله عن أي معلومة توصله إلى نفسه، فوجد مئات المقالات والتقارير القديمة، تتحدث عن طفل في مثل سنه، فاهتدى إلى كينونته، وزاد حنقه ليس على أسرته التي عاش يكرهها بسبب التخلي عنه، لكن على نحو 160 مليونًا من المصريين لم يحرك آباؤهم ساكنًا لإنقاذه من الاغتصاب والوصم الاجتماعي، كل هذه السنوات، على مجالس سن القوانين، ومنصات القضاء، والحكومة التي ارتأت مصلحته "الفضلى" راكعًا في مكتب الأستاذ "سحلية" يعبث بجسده النحيل كما يشاء.

في نهاية المقطع المصور، يقول شنودة أو يوسف، الشاب الإرهابي أو الضحية، المسيحي أو المسلم، إنه كان يمكن أن يتحول إلى شخص ناجح، تفخر به أسرته بالتبني، وعموم المصريين، والعرب، والأفارقة، بغض النظر عن دياناتهم، لو أصبح شخصية عالمية مثل السير مجدي يعقوب، أو الدكتور أحمد زويل، أو مالك قلوب الإنجليز محمد صلاح، لولا إصرار المجتمع، والحكومة، والقضاء، ورجال الدين، على تربية مجرم عتيد، وإرهابي شديد الخطورة، يرفض ترك الدنيا بهدوء، وإنما بحصد مئات الأرواح، مخلفًا مئات المشوهين، والأرامل، والأيتام.