جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

ذكرى رحيل بابا العرب

الذكرى الحادية عشرة لرحيل قداسة البابا شنودة الثالث، ورغم ذلك ما زال الرجل حيًا فى وجدان الكنيسة والوطن، مسيرة ممتدة عبر أربعين عامًا وجلوسه على ‏الكرسى البابوى، إنه الرقم والمعادلة المهمة فى تاريخ بطاركة الكنيسة ‏المصرية، والسبب فى ذلك يعود إلى عدة عوامل أهمها تكوينه الشخصى وملكاته ‏ومواهبه المتعددة، مما جعله كاريزما شخصية متفردة فى تاريخ الكنيسة، وهنا ‏سبب مهم آخر تلاقى مع مكونات شخصيته، وهو الحدث المهم فى تاريخ العالم ‏والمنطقة المتمثل فى اغتصاب الأراضى الفلسطينية.‏

هنا الرقم المهم الذى مثله قداسة البابا شنودة فى المعادلة السياسية والمتمثلة فى ‏مسيرته الوطنية التى قاد فيها الاعتراض كليًا على وجود هذا الكيان المغتصب، ‏وتمثل ذلك فيما حدث من خلافات كبيرة بينه وبين الرئيس السادات.

هنا السؤال الذى لم يتطرق له الكثيرون وهو: كيف يكون لبابا الكنيسة ‏الأرثوذكسية المسيحية التى تنادى بالسلام والتعايش والمحبة الاعتراض على ‏معاهدة السلام مع إسرائيل، أليس ذلك منافيًا تمامًا لتعليم المسيحية؟

الإجابة تحدث ‏عنها قداسة البابا باستفاضة، وهو أن إسرائيل جاءت إلى المنطقة مغتصبة أراضى ‏الفلسطينيين بوعد بلفور وليس بوعد من الله، فاستقراء الرجل الثقافى والسياسى ‏للأحداث أعطاه أن يرى للأمام على بعد عشرات السنوات ما هو قادم ومخطط ضد ‏المنطقة والكنيسة المصرية من الكيان الصهيونى.‏

وظهر ذلك فى مقاومته المستمرة بالتعاليم والتضامن مع القضية الفلسطينية، لأنه ‏كان يرى أبعاد ما هو قادم من تدمير للمنطقة وإضعاف للكنيسة المصرية، ففند ‏بالشرح والتعليم الأكذوبة التى تقول إن إسرائيل جاءت بوعد من الله إلى الأراضى ‏الفلسطينية واستشهد بالعهد الجديد، وفى عام ٢٠٠٢ عقد البابا مؤتمرًا شعبيًا فى ‏الكاتدرائية المرقسية لإعلان دعمه الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات بعد ‏تحديد إقامته فى رام الله، وقام البابا بإجراء مكالمة تليفونية مع عرفات للتأكيد ‏على مساندته له فى القضية الفلسطينية‎.‎

وأعلن البابا شنودة الثالث عن موقفه كاملًا من مقاومة الكيان الإسرائيلى، وقال ‏بوضوح: إن إسرائيل ليست شعب الله المختار، وأكد أن فكرة شعب الله المختار ‏كانت لفترة معينة أو لغرض معين وانتهت، وأن إسرائيل الحالية ليست شعب الله ‏المختار، وأن اليهود جاءوا إلى فلسطين بوعد من بلفور، وليس بوعد من الله‎.‎

وكشف البابا شنودة الثالث، أيضًا، فى ندوة معرض الكتاب منتصف التسعينيات، عن ‏أكذوبة عودة اليهود، وقال بوضوح: إن قلنا إنه لا توجد آيات عن عودتهم ‏سيرصدون عشرات الآيات عن عودتهم، ولكن الحقيقة أنهم عادوا بالفعل أيام سبى ‏بابل وأشور، وهناك ترنموا وبكوا قائلين على أنهار بابل هناك جلسنا، ولكن عودتهم ‏المزعومة الآن غير حقيقية‎.

استمرت الكنيسة فى موقفها الوطنى ورفضها التطبيع مع الاحتلال الصهيونى، وقاد ‏البابا شنودة الثالث حملة المقاطعة وكان موقفًا وطنيًا دفع البعض إلى منحه لقب ‏بابا العرب، وذكرت منصة تاريخ الأقباط واقعة تؤكد مكانة ودور الكنيسة قادة ‏وشعبًا فى رفض أكاذيب الاحتلال، حيث فى مايو عام ١٩٩٧م كان البابا شنودة ‏على موعد لحضور اجتماع رؤساء مجالس كنائس الشرق الأوسط بسوريا، ثم ‏يتبعه لقاء مع الرئيس السورى حافظ الأسد‎.‎

وكان البابا قبل سفره قد تلقى دعوة لزيارة اللاجئين الفلسطينيين بمخيم اليرموك، ‏ورغم ترتيب جدول الزيارات، لكن لم يتردد ورحب البابا، وفى مساء الخامس من ‏مايو وصل البابا شنودة إلى المخيم وحالت الجموع المحتشدة دون دخول سيارته ‏وسيارات الوفد المرافق، فنزل مترجلًا وسار بموكبه محاطًا بأبناء المخيم، وهم ‏يرددون: «بابا شنودة أهلًا بيك.. شعب فلسطين بيحييك».‏

وهناك ألقى عصام القاضى، الأمين العام لمنظمة طلائع حرب التحرير الشعبية ‏الفلسطينية، كلمة ترحيب بقداسة البابا، قال فيها: يسرنى أن أقول لك يا قداسة البابا ‏إنك موجود فى قلب كل فلسطينى، بل فى قلب كل العرب والمسلمين، إنك بابا ‏الشرفاء فى العالم الذين يناضلون لأجل الحق والعدل.. إنك بابا القدس بابا العرب، ‏واستعرض البابا وقتها فى كلمته أوجاع القضية الفلسطينية وختمها بكلمته ‏المشهورة: لن ندخل القدس إلا مع إخواننا المسلمين، عندها لم تهدأ القاعة من ‏التصفيق، ثم ختم جولته بالمخيم التى كانت حديث فلسطين والبلاد العربية‎.‎

وعندما رحل البابا شنودة، وتقديرًا لكشفه أكاذيب الاحتلال، نعته الجامعة العربية، ‏وكان بيانها: «لقد كان قداسته رمزًا دينيًا كبيرًا وقامة مصرية ووطنية عظيمة ‏حملت هموم المصريين والعرب جميعًا وعاش بإيمانه العميق مدافعًا عن الوحدة ‏الوطنية، وعن القضايا العربية، وعن روح التسامح والمحبة والحوار بين أتباع ‏الديانات السماوية‎».