جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

حوارات البوكر| الروائية الليبية عائشة إبراهيم: أدخل فى حالة نفسية قاسية ومرهقة بعد الانتهاء من كتابة رواية.. ولم أتفاجأ بوصولى لـ«القائمة الطويلة»

عائشة إبراهيم
عائشة إبراهيم

فى العام ٢٠٢٠، وصلت رواية «حرب الغزالة» للروائية الليبية عائشة إبراهيم إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، وهى رواية متخيلة استندت فيها إلى رسوم ونقوش ليبية تعود إلى العصر الحجرى الوسيط، مُشيّدة بناءً تخييليًا ثريًا يصور حقبة قلما التُفِت إليها. 

بعد ثلاث سنوات من هذا التاريخ، وصلت روايتها «صندوق الرمل»، الصادرة عن دار المتوسط، إلى القائمة ذاتها، وسط احتفاء واسع من النقاد والقراء، الذين أشاروا إلى تفرد أسلوب العمل فى تناول فترة مظلمة من تاريخ ليبيا، ترجع إلى العام ١٩١١ حينما دُفع بجنود إيطاليين إلى طرابلس لتحقيق مطامع استعمارية جرى تبريرها بشتى الحجج. 

فى هذا الحوار الذى أجرته «الدستور» مع الكاتبة، نناقش بعضًا من ملامح رواية «صندوق الرمل» المُرشحة لنيل جائزة البوكر، منطلقين للتعرف أكثر على الرؤية الخاصة التى تتبناها الروائية للكتابة وفن الرواية، والتغيرات التى لحقت بقلمها منذ عملها الأول، وصولًا إلى عملها الجديد. 

■ كيف استقبلت خبر وصول عملك «صندوق الرمل» إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية؟.. هل كان الأمر مفاجئًا أم متوقعًا بالنسبة إليك؟ 

- لا يمكننى القول إننى تفاجأت بالخبر، لسبب وحيد وأراه وجيها جدًا، هو أن القراء كانوا متوقعين ترشحها، ويراهنون عليها بقوة وثقة أكيدة، الانتشار الذى حققته الرواية والاحتفاء الذى لاقته لدى القراء والنقاد فاقا التوقعات، كذلك القراءات والدراسات النقدية وحلقات المناقشة، كل ذلك يعبر عن إيمان القراء بها، فكيف لا أؤمن أنا بها؟ 

وقبل الإعلان عن القائمة طالعت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعى تنشر توقعات مبدئية حول الأعمال التى يمكن أن تترشح، وفى كل التوقعات كانت «صندوق الرمل» حاضرة، ما يعطى انطباعًا بأن القارئ لم يتفاجأ بوجودها، المفاجأة كما قال بعضهم «هى ألا تكون موجودة فى القائمة»، لذلك لا أزعم أننى تفاجأت بوجودها، وفى هذه المناسبة أحب أن أشكر كل القراء على استقبالهم الجميل للرواية والآراء الطيبة حولها. 

■ تعودين فى أعمالك الروائية إلى فترات مُختلفة من التاريخ الليبى لتخلقى فيها شخوصًا وحياة.. كيف يمكن فهم خيار العودة إلى التاريخ فى ظل الأوضاع الراهنة التى تحياها ليبيا؟.. هل هى رغبة فى قراءة الوجه الأكثر توغلًا والأبعد عن التناول لواقع عصى على الفهم؟ 

- ليس لدىّ تخطيط مسبق لمشروع روائى يقوم على التاريخ، بل الموضوع فقط هو الذى يمكن أن يستهوينى للكتابة عنه، ولكن فى المجمل عندما أكتب عن مرحلة تاريخية معينة ليس بهدف نقل وقائع تلك المرحلة، بل من أجل قراءة الحاضر كامتداد للماضى.

وفى رواياتى لم أقدم التاريخ كوقائع كبرى أو أحداث شهيرة، إنما كتدفق خيالى من الأحداث الهامشية تستحضر ملامح حقب الماضى فى ذهن القارئ وتطرح أسئلة من أجل إعادة قراءتها. وفى اعتقادى أن رسالة الروائى تأتى من أجل ترجمة الدلالات الإنسانية والاجتماعية والحضارية للتاريخ، ويقدمها كدعوة لإعادة قراءته. 

■ فى رواية «صندوق الرمل» اخترت أن يجرى السرد على لسان الآخر ممثلًا فى الجندى الإيطالى، بل إن عنوان الرواية هو تعبير نطق به الآخر.. ما الذى قادكِ نحو هذا الخيار؟ 

- هناك أعمال كثيرة كتبت حول حقبة الاستعمار الأوروبى للدول العربية، وكثير من تلك الأعمال تم تسطيحها بنظرة أحادية لا تفى بمعايير النظرة الموضوعية والاقتراب من الحقيقة أو إنتاج المعرفة التى يجب أن يوفرها النص الروائى، الرواية ليست لعبًا على العواطف وتجسيد بطولات وهمية وملاحم أسطورية نسوق فيها وعى القطيع للإيمان بفكرة مسبقة، الرواية يجب أن توفر رؤية كلية للمواقف وتترك للقارئ أن يبنى أحكامه.

لهذا عندما كتبت «صندوق الرمل» كان الراوى فى منطقة محايدة يستدعى الظروف المحيطة بالأنا والآخر، بالجندى الإيطالى وهو قادم إلى طرابلس محملًا بهمومه وانكساراته ورغباته وتهويماته عن الأمجاد والحضارة، وبالضحايا الليبيين الذين وجدوا أنفسهم عزلًا فى مواجهة أعتى ترسانة عسكرية غاشمة شردتهم وهجرتهم من أوطانهم، كان لا بد من تقديم فكرة مختلفة تخلخل القيم والثوابت لنرى بوضوح ما لم تتطرق إليه السرديات الليبية سابقًا. 

■ هل كان ذلك الخيار رغبة منكِ فى تبيان بشاعة المطامع الاستعمارية على الشعوب المستعمِرة كما المُستعمَرة من خلال مرتكزك الغزو الإيطالى لليبيا؟ 

- ليس فقط تبيان بشاعة المطامع الاستعمارية على الشعوب المستعمَرة، بل أيضًا تبيان حالة المطامع الاستعمارية على شعوبهم نفسها، على جنودهم الذين ساقوهم غصبًا عنهم تحت سطوة الأكاذيب والشعارات التى تعدهم بالمجد والانتصارات وحدائق الفاكهة، لمجرد أن روما تريد أن تعيد اعتبارها بعد هزائم متكررة ومعاناة الاحتلال التى كانت تقاسيها من النمسا.

بالتالى علينا أن نفكر فى نظرة أكثر شمولية تترجم حالة الحرب عامة فى كل مكان من العالم، لأننى لا أقصد فقط تقديم نموذج إنسانى للحالة الليبية، بل فى كل الحروب المعاصرة الآن يعتقد الجنود أنهم فى حالة إثبات مشاعرهم الوطنية تجاه أوطانهم، فى حين أن الحقيقة هى أن الجندى ينفذ نزعة الأطماع السياسية للحكومات والقادة، فتكون نتيجتها هذه الحالة من التشظى التى يعيشها الجندى.

أنا لم أتعاطف ولم أجرّم الجندى الايطالى، بل قدمت حقيقته بناءً على معطيات الحرب وما دونته الصحافة الإيطالية فى ذلك الوقت من تجريم ورفض للحرب، وأترك للقارئ أن يتلمس الحقيقة ويعيد معالجة الأفكار المبرمجة حول الآخر، إننا قد ندين الاستعمار ونحاكمه على أفعاله ونحمله المسئولية، لكننا أيضًا ومن خلال سرد الحقيقة قد نسهم فى بناء وعى الشعوب كى تحصن نفسها من أن تنزلق فى الحرب، لعلنا نصل إلى حالة من السلام الإنسانى. 

■ إذن، ما رؤيتك الخاصة لفن الكتابة الروائية، وما أبرز مرتكزاته من وجهة نظرك؟ 

- الفن الروائى يحكمه منطق معقد يرتبط بطبيعة وحساسية المؤلف النفسية والوجدانية، فالرواية فن مراوغ يصعب الإحاطة بها على المستوى النظرى على الرغم من وضوحها الأجناسى من حيث عناصرها وتقنياتها، أحيانًا أشعر بأن الرواية أشبه بطقس صوفى يرتقى فيه المريد إلى درجة من النورانية تنصهر فيها ذاته وتتوحد مع ذوات أخرى تسكب روحها فى العمل، وما لم يتحقق ذلك تصطدم بأنك أمام نص يحمل تجنيس وطابع الرواية، لكنه باهت وخال من التوهج. الرواية ليست شيئًا سهلًا ومتاحًا، وليست تجربة شخصية أو حكاية، الرواية احتراق وبحث وتعقب وإنتاج معرفة بطريقة مبتكرة ورفيعة جدًا، الرواية وجع وعزلة وتوحد واعتكاف ومخاض، هى حالة من الذوبان العاشق فى النص، لذلك تجد أن التحرر منها بعد الانتهاء من كتابتها يقود إلى حالة نفسية قاسية ومرهقة، فكاتب الرواية بعد الانتهاء من كتابتها لا يمكن أن يعود كما كان قبلها، وقارئها أيضًا لا يمكن أن يكون هو نفسه قبل القراءة.

الرواية الحقيقية لا بد أن تُحدث شرخًا فى وعى الكاتب والقارئ، لذلك يظل مفهومى للرواية مقدسًا وحميميًا ومتطلبًا إلى المزيد من المعايير المتداخلة ذات العلاقة بروح الكاتب. 

■ ما حجم تأثير تجربتك الذاتية فى أعمالك لا سيما الأولى؟ 

- فى الغالب العمل الأول تكون له علاقة بالتجربة الذاتية للكاتب، وبالنسبة إلىّ لا أنكر أننى فى روايتى الأولى «قصيل» استلهمت جزءًا منها من ذكرياتى ومشاهداتى والأماكن التى عشت فيها، إضافة إلى ما يوفره المخيال من صور وأحداث، أما بقية الأعمال فكانت ذات طابع مختلف وبعيدة عما عايشته شخصيًا، باستثناء رؤيتى الذاتية للقيم والمفاهيم التجريدية، فهى تظل حاضرة للكاتب فى أعماله بصورة أو بأخرى.

وأعتقد أن الأمر الجيد الذى أسهم فى تشكيل تجربتى هو تنوع القراءة الذى يشكل مخزون اللغة، بالطبع لا يمكننى القول إن اللغة وحدها كفيلة بإنتاج نص يثير اهتمام القارئ، هنا يأتى دور الوعى بالذات وتنوع الخبرة والمشاهدات التى تتحول إلى مادة أولية فى مخزن الذاكرة، إضافة إلى القدرة على قراءة الشخصيات وتحليل سلوكها نفسيًا واجتماعيًا، وأتصورُ أن حسن الحظ وضع فى حياتى الكثير من المطبات شكلت فى مجملها تجربة إنسانية قابلة للاستثمار الفكرى، إضافة إلى اهتمامى بتشكيل تجربتى الخاصة فى السرد وتطويرها بمتابعة ما يطرح من أعمال فى مجال النقد والسرديات المعاصرة وتطور الذائقة القرائية.

■ لِمَ جاء الانقطاع عن الكتابة منذ فترة التسعينيات حتى صدور روايتك الأولى فى ٢٠١٦؟

- كان ذلك على خلفية أسباب اجتماعية، كانت انطلاقتى الأولى عبر الأنشطة المدرسية والصحف المحلية والمسابقات، بدأت مسيرتى الأدبية بالكتابة للمسرح المدرسى وتطورت إلى تشكيل فرقة مسرحية طلابية، تعرض أعمالها فى المناسبات الوطنية، فى العام ١٩٩٠ تحصلت على الترتيب الأول على مستوى الدولة الليبية فى الكتابة المسرحية بنص بعنوان «قرية الزمرد»، لكن لم أتمكن من الاستمرار بعد هذا الفوز الذى وضعنى فى دائرة الأضواء التى كانت مرفوضة حينها فى المجتمعات المغلقة، ما دعانى إلى الانقطاع سنوات طويلة، إلى حين الانتقال للسكن بالعاصمة طرابلس، بالطبع انفتاح المناخ الثقافى فى العواصم والمدن الكبرى يتيح مجالًا للانطلاق بعيدًا عن القيود فى مدن الدواخل والأرياف.

■ هل يمكن القول إن ثمة مشروعًا روائيًا تخططين لاستكماله، رؤية شاملة تقطّرت فى أعمالك السابقة وستكملينها فيما هو آت؟ 

- من يراود الكتابة الروائية لا يمكنه العودة إلى الوراء، لا بد من استكمال المشروع حتى وإن لم تتضح ملامحه بعد بشكل كامل، لكنه مشروع يقوم على إعلاء القيم النبيلة وبناء الإنسان روحيًا ووجدانيًا، أنا أراهن على الأدب فى تشكيل الوعى والذوق من أجل تحسين جودة الحياة والاستمتاع بها. 

■ وهل للرواية النسائية الليبية خصوصية تفصلها عما سواها برأيك فى العقود الأخيرة؟ وما السبب؟

- فى السنوات الأخيرة شهدت مدونة السرد الليبى حضورًا لافتًا فى الرواية النسائية الليبية، أى الرواية التى كتبت بأقلام النساء، كما شهدت أيضا تميزًا لافتًا من حيث عدد الأعمال ومن حيث التميز والنجاح، إذ حققت مستويات متقدمة فى المنافسات العربية والمحلية. 

■ فى هذا العام، يُرشح عملان من ليبيا للجائزة وفى العام الماضى فاز بها عمل ليبى.. إلى أى مدى تظنين أن ذلك يحمل مؤشرًا على استعادة الإبداع الليبى لقوته؟ وهل من عوامل ما تعتقدين أنها دفعت نحو ذلك؟ 

- ليست ثمة عوامل خاصة تتعلق بليبيا، فالرواية العربية عامة تعتمد على متغيرات الإنتاج والنشر والظروف العامة فى كل بلد من حيث الاستقرار السياسى والاقتصادى، وظروف الكاتب الخاصة، ففى الفترة التى تزامنت مع جائحة كورونا ازداد عدد الروايات عامة لما وفره الحجر الصحى من وقت للكتابة وإمكانية للتفكير والتأمل وقراءة الأحداث، كما تناقصت أعداد الروايات فى الدول التى تشهد توترات أو حروبًا. ولكن بشكل عام الأدب الليبى دائمًا موجود، تشهد على ذلك الأسماء الكبيرة فى عالم الرواية عربيًا وعالميًا، مثل إبراهيم الكونى وأحمد إبراهيم الفقيه، وربما ساعدت إمكانات العولمة ووسائل التواصل الاجتماعى والمشاركة فى المسابقات الكبرى، فى التعرف إلى أسماء روائية ليبية جديدة لم تكن معروفة سابقًا، وهو أمر موجود فى كل الدول العربية.

من هم الرواد الذين أسهموا فى تشكيل ذائقتك؟ 

- بدأت القراءة فى سن مبكرة مع قصص ومجلات الأطفال، ثم انتقلت إلى عوالم السرد الكلاسيكى مع روائع الأدب العالمى لهمنجواى وفيكتور هوجو وديستوفسكى، مرورًا بأهرامات الرواية المصرية، نجيب محفوظ وطه حسين وتوفيق الحكيم ويوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس، ومحطات أخرى مع جبران خليل جبران وغادة السمان ودواوين نزار قبانى والسياب والشابى. أما فى الوقت الحاضر فأحرص بشكل خاص على قراءة أعمال ماركيز وأليف شافاق، وكل ما يتاح لى من أعمال عربية معاصرة، خاصة الأعمال التى تروج لها الجوائز، لأننا قد لا نستطيع الإلمام بكل الأعمال الجيدة، لكن نتائج المسابقات تعطى مؤشرات لعدد كبير من الأعمال المتميزة.