جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

50 عامًا على رحيل العميد.. رسائل الود والمنافسة بين العقاد وطه حسين

العقاد وطه حسين
العقاد وطه حسين

بين العميد والعملاق 

فى إطار الاحتفال بخمسين عامًا على رحيل عميد الأدب العربى.. يسعدنا أن نُلقى أضواءً مختلفة على حياته.. بعضها فكرى.. وبعضها أدبى.. وبعضها شخصى.. وبعضها يجمع بين ذلك كله.. ولعل من هذه الجوانب علاقة طه حسين برواد الفكر فى عصره.. فقد كان طه حسين من جيل الرواد الذى أسس للأدب والفكر فى مصر بعد عصور من التراجع.. وكان هذا الجيل يقف على قدمين.. أولاهما الاتصال بالثقافة الغربية الحديثة.. وثانيتهما قراءة التراث العربى القديم بعيون معاصرة.. من رواد الأدب كان طه حسين ومحمد حسنين هيكل وسلامة موسى وعبدالقادر المازنى وعباس العقاد.. لكن طه حسين والعقاد كانا يتمتعان بنجومية خاصة بين جيل الرواد بسبب موهبتهما فى الكتابة، وقدرتهما على إثارة المعارك، واتخاذ المواقف الشجاعة.. ورغم أنهما ولدا فى نفس العام، ١٨٨٩، إلا أنهما اختلفا فى كثير من الأشياء، أو فى كل شىء تقريبًا.. فطه حسين حصل على رسالتين للدكتوراه، والعقاد لم يحصل سوى على الابتدائية.. والعقاد بدأ وفديًا متشددًا وانتهى ضد الوفد.. وطه حسين بدأ ضد الوفد وانتهى وفديًا متشددًا.. والعقاد يقرأ الإنجليزية وطه حسين يقرأ الفرنسية.. وطه حسين إذا غضب يعبر عن غضبه بنعومة وسخرية وكأنه تيار ماء قوى يجتاح من أمامه، والعقاد فى غضبه يُشبه العواصف الرعدية ولا يعرف مجالًا للسخرية.. والعقاد انتهى محاربًا لليسار ومتهمًا بالرجعية، وطه حسين انتهى متهمًا بالشيوعية.. ولم تكن التهمة صحيحة فى الحالتين.. وقد كتب كلاهما فى التاريخ الإسلامى وسير الصحابة، فالتزم طه حسين منهج التحليل المادى للتاريخ والتزم العقاد منهج التحليل النفسى للصحابة.. وأضاف كلاهما بما كتب الكثير.. وقد تبادل الاثنان رسائل شخصية تضمنها كتاب «رسائل طه حسين» للصحفى الكبير إبراهيم عبدالعزيز «طبعة دار ميريت ٢٠٠٢»، وهو كتاب قرأته متأخرًا وأعجبت به أشد الإعجاب.. وقد قدم له الأديب الكبير نجيب محفوظ.. وتعرض فى تقديمه لعلاقة العقاد وطه حسين دون أن يقصد، إذ قال وهو يروى قصة جيله مع طه حسين «ولكن طه حسين الذى تظاهرنا من أجله فى الثلاثينيات غضبنا منه فى الستينيات حينما قام بأول هجوم علنى على العقاد بعد وفاته (توفى العقاد ١٩٦٤) من خلال ندوة تليفزيونية حضرتها.. وقال فيها إنه لم يفهم عبقرية عمر، ولم نكن نعلم سوى أن العلاقة بين الأديبين الكبيرين هى علاقة مودة وإعجاب متبادل، فالعقاد يقدم لنا (دعاء الكروان) شعرًا- للعقاد قصيدة اسمها دعاء الكروان- وطه حسين ينقده نقدًا جميلًا فى مجلة الرسالة، ويهديه (دعاء الكروان) نثرًا بإهداء مطبوع فى مقدمة الرواية يقول فيه (سيدى أنت أقمت للكروان ديوانًا فخمًا فى الشعر العربى الحديث، فهل تأذن لى أتخذ عشًا متواضعًا فى النثر العربى الحديث، وأن أهدى إليك هذه القصة تحية خالصة من صديق مخلص)».. ويروى نجيب محفوظ فى مقدمته لكتاب إبراهيم عبدالعزيز أن طه حسين منح عباس العقاد لقب أمير الشعراء بعد رحيل شوقى، وأن جيل نجيب محفوظ أحب العقاد كما أحب طه حسين.. والحقيقة أن انتقاد طه حسين لكتاب واحد من كتب عباس محمود العقاد لا يعد انتقاصًا من قدره كما أحس أديب نوبل فى الستينيات.. والرسائل التى ننشرها فى السطور التالية تكشف عن علاقة متينة بين العقاد وطه حسين، وعن رقى فى الخلاف، وعن تنافس لا تخطئه عين وأيضًا عن «عشم» وتقدير متبادل بين قامتين كبيرتين.. وهى كلها معانٍ نحتاج لاستعادتها.. والتعلم منها وإعادة إحيائها.. ولعل هذا هو الدافع الأول لنشر هذه الرسائل النادرة والتحية الواجبة للأستاذ إبراهيم عبدالعزيز على جهده الكبير فى نشرها والحفاظ عليها.. فإلى رسائل العملاق والعميد لنتعلم منها الكثير.

                                                                                                                       وائل لطفى

 

من العقاد لطه: أنت تحتاج إلى شجاعة للكف عن الشجاعة!

يصف طه حسين العقاد بأنه «كان لى صديقًا حميمًا وأخًا كريمًا». ويقول «إن أثر العقاد فى الأدب الحديث ضخم جدًا لا يمارى فى ذلك أحد.

وقد كان بين الأديبين الكبيرين علاقة أدبية، وعلاقة إنسانية أيضًا على عكس ما قد يبدو للناس مما يستنتجونه أحيانًا من عنف المعارك الأدبية بينهما، مما دعا طه حسين إلى أن يقول «قد يظن بعض الناس أنه كانت بينى وبين العقاد قطيعة، وهذا غير صحيح، فلا أعرف أن خلافًا كان بينى وبين العقاد، وإنما كان العقاد لى صديقًا حميما وأخا كريمًا». والرسائل المتبادلة بين الصديقين هى أكبر شاهد وأعظم دليل.

والرسالة التى أرسلها العقاد ١٩٥٢ إلى طه حسين يناقشه فيها رأى كلاهما فى «أدب المعرى» وحظ هذا الأدب من الخيال، ويبدو أن أبو العلاء سيكون موضع مناقشة فيما بينهما، فيما بعد حين يجمعهما مجمع اللغة العربية، حيث حدث «يقول طه حسين»: «مـرة والمجمع يستعد لمؤتمره السنوى اقترح الدكتور منصور فهمى أن أعد محاضرة عن أبى العلاء للمؤتمر، وقد قال فى مجلس المجمع وهو يقدم اقتراحه: إن الدكتور طه أعرف الناس بأبى العلاء، وما كاد الأستاذ العقاد يسمع هذا حتى اندفع قائلاً بأنه يعرف عن أبى العلاء ما لا يعرفه طه حسين وغيره، وهو أقدر الناس على الحديث فى هذا الموضوع. ويقول الدكتور طه: حاولت تهدئة الأستاذ العقاد، وأبديت له رغبتى فى عدم الحديث فى هذا الموضوع».

وفى العشرينيات كتب كلاهما مقالًا عن أبو العلاء، وإن تجاهل طه حسين ما كتبه العقاد، فرد عليه ردًا ساخرًا فى نهاية خطابه الذى اتفق فيه مع الكثير مما نشره طه فى مقاله وأثار اهتمامه فكتب له هذا الخطاب.

 

 

السخرية العلائية

حضرة الأستاذ القدير الدكتور طه حسين

أشكر لك ثناءك واهتمامك وأبادلك التحية مدحًا وقدحًا بالصاع صاعين وبالباع باعين، وأعجب بشجاعتك فى تقريظ كتابى ونقده فى صحيفة «السياسة» وإن كنت أسأل نفسى: هل هى شجاعة حقًا!!

فإن الشجاعة هی معالجة المكروه والإقدام على المحذور، ولا أظنك إلا ملتذًا بما فى شجاعتك الأدبية من إيذاء عقائد الناس وإحراج صدورهم، ولو كانوا من أنصارك وأصحابك! فهى شجاعة حبيبة إلى نفسك تقدم بك على ما تهوى لا على ما تكره، وتجنح بك إلى ما ينيلك لذة وسرورًا لا إلى ما يكلفك جهدًا وصبرًا، وكأنك تحتاج أحيانًا إلى شجاعة للكف عن هذه الشجاعة.. ولا أزيد على ذلك فنخوض فى غموض الفلسفة التى قلت إنك لا تسيغها (وربما ذلك لأنك تقرأها قراءة متفرج لا قراءة من يهتم بموضوعاتها ويشغل خاطره بالبحث عن أسرارها).

أما كلامك عن الخيال فى «رسالة الغفران»، فأنا أوافقك أولًا على تعريف الخيال، وأرى معك أنه ملكة «تستمد الصور والنتائج من الأشياء الموجودة وتؤلف بينها تأليفًا غريبًا يبهر النفس ويفتنها»، وعلى هذا التعريف لا أرى للمعرى فى رسالة الغفران حظًا من ذلك التأليف الغريب الذى يبهر النفس ويفتنها، أكبر من حظ الراوية الذى يسرد الأخبار المسموعة، والقاص الذى يعيد النوادر المحفوظة.

وقد سألت «ماذا يلذنا فى رسالة الغفران؟» فأقول: إنما أكبر ما يلذنا فى هذه القصة معدنها لا صورها الفنية. وأزيد ذلك إيضاحًا فأقول: إن قطعة الذهب مثلًا لها قيمتها التجارية، ولكن قطعة الذهب المصوغة فى شكل تمثال جميل أنيق لها هذه القيمة التجارية، وقيمة أخرى هى القيمة الفنية الجمالية! فهذه القيمة الفنية قليلة رخيصة فى رسالة الغفران لا تضيف شيئًا كثيرًا إلى ما فيها من متعة القصص والفكاهة والصور التى تبادر الذهن عفوًا عند ذكر الجنة والنار وما فيهما من أسباب النعيم والعذاب.

فإذا كان فى الرسالة متعة فوق متعة القصص والفكاهة المنقولة، فالفضل فيها للسخر السخى الذى تفيض به الرسالة لا للخيال الضعيف الذى يظهر فيها حينًا بعد حين، كما يظهر الوشل المنقطع بين الرمال. ولا أدرى كيف يخطر لك أن تقرن قصيدة دانتى إلى رسالة المعرى وبينهما فرق بعيد يكاد يكون كالفرق بين الشعر والتاريخ، حيث يتناولان الموضوع الواحد؟ وأحسب رأيك هذا فى خيال المعرى جديدًا لم تكن تراه حين كتبت «ذكرى أبى العلاء» فإنى أذكر أنك جردته - إلا قليلًا - من الخيال فى شعره. ولو كانت «الرسالة» بين يدى الساعة لنقلت لك كلامك فى هذا الصدد، ولكنك فى غنى عن نقله. فإن لم تخنى الذاكرة فأنت تقول معى: إن الخيال لم يكن من الملكات التى امتاز بها المعرى وإلا لما تركه فى الشعر وهو أحجى بأن تتبع فيه منادح التخيل والتصوير والشعور.

وقد وددت لو ذهبت فى تحليل السخرية العلائية إلى أقصى ما تنتهى إليه حرية البحث، لأن أبا العلاء لم يكن يسخر من لذات الناس وشهواتهم، وإنما كان يسخر بهذه وبعقائدهم وأديانهم كذلك وأخالنى قد فعلت ما وددته - وإن لم أتوسع فى هذا البحث - فقلت إن المعرى «كان يبتسم من آمال الناس فى الدنيا والآخرة ثم يعود فيبتسم من ابتسامه، ويعبث بالكافرين ويعرض بهم فى ظاهر القول وهو بالمؤمنين أشد عبثًا وأبلغ تعريضًا» ولم أبعـد فـى هذا المنزع لأننى أرى بعض الحماقات كبعض الدمامات أقل من أن يُضحك منها أو تنال بأذى السخرية.

وبعد فلست أعتقد أنك من ضعف الذاكرة بحيث أردت أن تظهر لنا فى مقالك. فأنت تزعم أنك لم تقرأ «البلاغ» وقد رددتَ عليه مرارًا فكيف اتفق هذا؟ ألعلـك تـرد علـى مـا لم تقرأ أو لعلك قد نسيت بإرادتك؟ وقد ينسى الإنسان بإرادته فى بعض الأحايين! 

وأقول لك أخيرًا «حسبك فقد عرفت صوت نفسك» وإنه لصوت يُسمع على ما فيه من النشوز. وتقبل منى التحية والسلام.

عباس محمود العقاد

٢١ يناير ١٩٢٥

 

 

الإسرائلى المعجل

وفى خطاب آخر دال على تبادل الصديقين للرسائل والكتب فيما بينهما كهدايا، يتفلسف العقاد بأن كتابه القادم عن «ابن الرومى» لن يهديه لطه بل سيعطيه له قرضًا، وهى مداعبة تدلنا على الوجه الآخر السمح الطلق للعقاد غير وجهه الذى عُرف واشتهر به.

يقول فى رسالته لطه:

سيدى الدكتور الأجل

تلقيت رسالتك وشكرت تهنئتك وإن قدرى لهذه التهنئة لكبير واغتباطى بما حوته من دلائل العطف النبيل لعميق. وقد تفضلت فذكرت كتبى الأدبية فيسرنى أن يوافق ذلك قرب الفراغ من كتاب «ابن الرومى» الذى شرعت فى طبعه قبل سنة، وأرجو أن يتم طبعه بعد أسبوعين. وسأرسله إليك ولكن لا هدية.. بل قرضًا أسمح لنفسى أن أصفه بالإسرائيلى المعجل.. لأننى أنتظر سداده من آثارك الأدبية فى وقت قريب. والتحيات لك والإجلال.

المخلص

عباس محمود العقاد

أغسطس ١٩٣١

 

 

مطلوب عمل

ومما يدل على عمق الصداقة بين الرجلين أن كبرياء العقاد لم تمنعه من أن يتوسط لدى طه حسين ليعمل معه أحد الأدباء فى جريدة «الوادى»، التى اشترى طه حسين امتيازها ليديرها ويرأس تحريرها فى الفترة التى طرده فيها إسماعيل صدقى، رئيس الوزراء، من الجامعة وأمعن فى إيذائه والتضييق عليه، فعمل فى جريدة «كوكب الشرق» أولًا بطلب من النحاس باشا لمساعدته فى الخروج من أزمته. يقول العقاد:

تحريرًا فى ٢٢ مايو ١٩٣٤.

حضرة الأستاذ العالم الجليل

أهنئكم بما صحبت عليه عزيمتكم فى إصدار «الوادى»، وأرجو له النجاح الذى يحقق رجاءنا ورجاءكم.

وبعد فلا أحسبنى أزيدكم علمًا بالأديب مصطفى كامل الشناوى بعدما خبرتموه فى رئاسة تصحيح الكواكب وفى تحريره، ولكنى أكتفى بأن أذكركم به وأود لو يكون له نصيب فى العمل معكم إذا كان مجاله خاليًا فى الوادى، ولكم الشكر والتحية والاحترام.

المخلص

عباس محمود العقاد

 

 

مع طه في محنته

وقد كان العقاد نفسه أشد الذين وقفوا بجانب طه حسين فى محنته التى كانت تمثل اعتداءً على الجامعة واستقلالها حين طلبت حكومة صدقى باشا من طه حسين أن تمنح كلية الآداب التى هو عميدها، الدكتوراة الفخرية لبعض السياسيين، فلما رفض، قام وزير المعارف آنذاك - حلمى عيسى باشا - بإقالة طه حسين، فاستقال مدير الجامعة أحمد لطفى السيد احتجاجًا وتظاهر الطلبة من أجل عميدهم، وكتب العقاد منددًا بهذا التصرف قائلاً: حتى مع الفرض بأن «الدكتور طه حسين مخطئ كل الخطأ فى الأسباب التى عزيت إليه فإن ذلك لا يغير وصف المسألة ولا يفهمنا ما هى الضرورة التى أرغمت الوزارة إرغامًا على أن تسلك هذا المسلك دون غيره، وأن تتعجل هذا التعجل، وتتظاهر هذا التظاهر وتعالج المسألة هذا العلاج العسكرى المبرم كأنها فى ميدان قتال تخشى فيه زحف عدو مغير أو تتصرف وهى مقدمة على خط النار!!». ولا يرى العقاد حلًا «للإشكال الذى وقعت فيه هذه الوزارة - بسوء رأيها - إلا أن يستقيل وزير المعارف وتعود الأمور إلى نصابها، فإن استقالته هى التكفير الوحيد لخطئه السخيف». وفى خطاب من العقاد يعتذر فيه لطه حسين عن إلقاء محاضرات فيما يبدو أنـه قـد طـلـب منـه إلقاءها، ويزيد الأمر غموضًا أن طه حسين كان آنذاك خارج الجامعة، حيث كان يمكن القبول بأن طه قد دعا العقاد لإلقاء سلسلة من المحاضرات فى الجامعة على طلبة كلية الآداب، ولما كان ذلك غير ممكن فى هذه الفترة التى أُخرج فيها طه من الجامعة فإن الأمر يبدو أكثر غرابة. ولنقرأ سطور خطاب العقاد إلى طه حسين:

أخى العلامة الفاضل تحية وإجلالًا. وبعد فإنى أعانى ضعفًا فى الصحة أعالجه ولا أتغلب عليه. ويكاد يلجئنى إلى الراحة الطويلة لولا أن للعمل فريضة لا تنسى، وأرانى مضطرًا إلى الاكتفاء بأيسر العمل الذى لا محيص عنه. فأرجو أن تقبلوا عذرى إذا أنا لم أجـد بـدًا مـن التخلف عن إلقاء المحاضرات التى تفضلتم فحدثتمونى فى شأنها. وإنى أعتذر أسفًا وأرجو قبول التحية والاحترام.

عباس محمود العقاد

٢٥ أكتوبر ١٩٣٢

.

 

خدموا العلم فتختلفوا

ويطلب العقاد من طه حسين فى رسالة أخرى أن يعمل لإنصاف بعض الأدباء الشبان الذين «خدموا العلم فتخلفوا» كما يقول العقاد مقارنًا بينهم وبين زملائهم الذين عملوا فى مجالات أخرى فسبقوهم، مما يثير قضية غياب قيمة العلم فى بلادنا منذ فترة طويلة، أما لماذا اتجه العقاد إلى طه لإنصاف هؤلاء الشبان، فلأن طه حسين قد صار مراقبًا للثقافة فى وزارة المعارف مما يتيح له أن ينصف هؤلاء الشبان، يقول العقاد:

حضرة الأخ العلامة الدكتور طه حسين بك

أحييكم تحية الإخاء والإجلال

وأتجه إلى إنصافكم فى أمر لا أعلم منه فوق ما تعلمون، وهو أمر الشبان الأدباء الذين يقومون على ترجمة وزارة المعارف الإسلامية، وقد سلخوا الآن فى عملهم هذا عشر سنين لو سلخوا بعضها فى طلب نصر علمى لأدركوه وأدركوا معه منفعته وفخره، أو فى طلب مال لحصلوا منه ما يغنى، ولكنهم خدموا العلم فتخلفوا، وفاتهم باسم العلم زملاء لهم لم يخدموه مثل خدمتهم، ومن حقهم أن يطمعوا فى رعايتكم ويثقوا فى معونتكم، ولهم اليوم كما فهمت مسألة معروضة عليكم فيها ما يعوضهم ويرجى منه تحسين أحوالهم. فلا أزيد على الإشارة إليها وفيها عندكم الكفاية، ولكم تحياتى وشكرى والسلام.

المخلص

عباس محمود العقاد

٩ سبتمبر ١٩٤٢

 

عظيم من جميع الجوانب

 

ولما كان العقاد وطه يتبادلان إهداء كتبهما، فمن المهم أن نتعرف على آرائهما فيما يكتب الآخر، وهذه رسالة من طه حسين إلى العقاد يحييه فيها على كتابه «عبقرية محمد» ويشكره على احتفائه بكتابه «الحب الضائع» لطه حسين، فى مجلة الرسالة.

يقول طه حسين:

فرغت الساعة من قراءة كتابك الممتع «عبقرية محمد»، ولست أكتب إليك الآن لأصور لك رأيى فى هذا الكتاب أو إعجابى به، فما أنت فى حاجة إلى هذا الرأى، وما أنت فى حاجة إلى هذا الإعجاب، وما ينبغى أن يصور لك أنت هذا أو ذاك، إنما ينبغى أن يصور للناس الذين يقرأون والذين لا يقرأون.

وأنا أرجو أن تتيح لى الظروف قريبًا أداء هذا الحق لا إليك ولكن إلى الكتاب نفسه فهو يقتضينى هذا الحق، وإلى القراء فهم يقتضوننى إياه أيضًا، لم أكتب إليك إذن لأحدثك عن هذا الكتاب، وإنما أكتب إليك مهديًا أجمل الشكر وأصدقه، وأخلص التحية وأطيبها بعد أن قرأت فضلك الكريم الذى تفضلت به على «الحب الضائع» فى «الرسالة»، وهو فضل منك جديد يضاف إلى فضل منك قديم (لعله يشير إلى وقوفه بجانبه فى محنته) مهما أقل فلن أؤدى حقه من الشكر والاعتراف بالجميل، ولكنى أرى فيك ما كان «المبرد» يراه فى «البحترى» إن صدقتنى الذاكرة حين قال له:

أبى الله إلا أن تكون عظيمًا من جميع جوانبك

فتقبل شكرى الخالص وتحيتى الصادقة، وأعذر ما اضطر إليه من قصور أو تقصير عن النهوض بحق هذا الشكر كما ينبغى.

 

من كتاب «رسائل طه حسين»  طبعة «ميريت» ٢٠٠٢

تأليف: إبراهيم عبدالعزيز