جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

مشروع النشر فى قصور الثقافة

أظن أنى مدين بالشكر لمشروع النشر فى هيئة قصور الثقافة كقارئ أولًا وكمهتم بالعمل الثقافى ثانيًا وكمحب لعميد الأدب العربى طه حسين ثالثًا وكمدافع عن صورة الدولة المصرية ومصداقيتها فى عيون الناس رابعًا.. أما سبب شكرى لمشروع النشر فى قصور الثقافة كقارئ فهو أن المسئول عن المشروع الشاعر جرجس شكرى بذل جهدًا كبيرًا فى إصدار عدد من كتب عميد الأدب العربى طه حسين، بلغ عددها سبعة عشر كتابًا من أهم كتب العميد.. بعضها نال شهرة واسعة مثل سيرة حياته «الأيام» أو كتابه الرائع وغير المسبوق فى تاريخ الدولة الإسلامية «الفتنة الكبرى» بجزءيه الأول والثانى أو بعض كتبه فى النقد الأدبى التى تصلح مدرسة يتعلم فيها النقاد المصريون والعرب من هنا وإلى أبد الدهر مثل «مع أبى العلاء فى سجنه» عن فيلسوف الشعر العربى الأعظم أبى العلاء المعرى.. أو كتابه الأهم عن فارس الشعر العربى أبى الطيب المتنبى «مع المتنبى».. أو بعض مقالاته الهامة فى الفكر الإسلامى مثل «مرآة الإسلام» أو بعض كتبه التى ضمت دررًا من مقالاته فى النقد الأدبى التى نشرها فى صحف مثل السياسة والبلاغ وكوكب الشرق وغيرها من الصحف التى كانت تزدان بمقالات العميد ويشتريها الناس خصيصًا كى يقرأوا ما يكتبه طه حسين أو غيره من نجوم الفكر فى عصره.. ولعل سبب الامتنان الأول هو أن إصدار هذه السلسلة من كتب العميد التى ستتلوها كتب أخرى مثل «حديث الأربعاء».. هذا الإصدار قد سد نقصًا فادحًا فى الفعاليات الثقافية للاحتفال بمرور خمسين عامًا على رحيل طه حسين «رحل فى ٢٨ أكتوبر ١٩٧٣» التى رأى البعض أن المعرض الدولى للكتاب كان أولى بها وأن هيئة الكتاب وهى الناشر الرسمى للدولة التى تحظى بإمكانات مادية وطباعة كبيرة كان أولى بها التصدى لإصدار كتب طه حسين أبو الثقافة المصرية الحديثة وبانى الجسر الأكبر بين ثقافة العرب والمسلمين وبين ثقافة الغرب ومناهج بحثه الحديثة.. ولعل ما يستوجب الشكر أكثر تلك المعلومة التى تقول إن ميزانية أمانة النشر فى هيئة قصور الثقافة لا تتجاوز سبعة ملايين جنيه سنويًا ينفق منها على عشرات أو ربما مئات الإصدارات الناجحة مثل سلسلة الهوية ذات القيمة الفكرية الكبيرة لكل من يريد أن يعرف قيمة مصر وغيرها من سلاسل التاريخ والفكر والمعرفة وكذلك بعض المجلات الناجحة مثل الثقافة الجديدة وكذلك إبداعات أدباء الأقاليم التى باتت الهيئة هى المنفذ الوحيد لها للنشر فى القاهرة.. والحق أن الإحساس بالامتنان يزداد عند مقارنة ميزانية النشر البسيطة فى مشروع النشر بمبلغ يزيد قليلًا عن مئتى مليون جنيه هو ميزانية الهيئة العامة للكتاب المنوط بها ممارسة ذلك الدور الذى تقوم به هيئة قصور الثقافة التى تحرص على أن تنزل مطبوعاتها للأسواق بسعر زهيد لا يتجاوز أحيانًا عشرة جنيهات أو خمسة عشر جنيهًا للكتاب وهو سعر إعجازى بالنظر إلى الارتفاع المتواصل فى أسعار الورق فى الفترة الأخيرة.. وقد سألت الشاعر جرجس شكرى عن الكيفية التى تمكن بها من إصدار الكتب بهذا السعر البسيط للغاية فأفاد بأنه تلقى معونة من دار المعارف التى تملك أصول كتب طه حسين، حيث سلمته الكتب جاهزة على الطباعة بعد أن كلف هو أحد الفنانين بتصميم أغلفة جديدة وجذابة لها وقد أدى هذا لانخفاض تكلفة الطباعة من حيث المبدأ.. فضلًا عن أن هيئة قصور الثقافة تقوم بدعم كل نسخة بما يوازى نصف ثمنها.. فإذا تكلفت النسخة عشرين جنيهًا فإنها تصل للقارئ بعشرة جنيهات فقط.. إيمانًا بدور الدولة فى دعم الكتاب.. والحقيقة أن هذا المجهود المخلص والتفكير الرشيد قاد إلى نتائج إيجابية.. أولاها حضور طه حسين فى معرض الكتاب من خلال إصدارات هيئة قصور الثقافة.. وثانيتها امتنان عدد كبير جدًا من القراء الشباب وسعادتهم بكتب طه حسين الذى أظن أن كثيرًا منهم لم يكن قد حصل على كثير من كتبه من قبل وإن كانوا بالطبع يعرفونه من خلال مسلسل الأيام وما تنشره الصحف عنه.. وكان المعنى المباشر هو أن يشعر الشباب بأن مؤسسة من مؤسسات الدولة الثقافية تؤدى دورها فيشعر بالامتنان لها ويشكرها علنًا ويفيض فى هذا الشكر كما كان يبالغ فى ذكر بعض السلبيات من قبل.. ولا أبالغ إذا قلت إن مشروع النشر فى الهيئة يعمل بإمكانات قليلة جدًا ومع ذلك فهو يسد النقص الذى شعر به البعض جراء تراجع مشروع «القراءة للجميع» الذى حمل فى التسعينيات اسم «مكتبة الأسرة» وحمل فى الستينيات اسم «مشروع الألف كتاب» وأشرف على إطلاقه وزير الثقافة المؤسس د. ثروت عكاشة.. ولأسباب ما غير مفهومة فقد شهد المشروع الذى تشرف عليه الهيئة العامة للكتاب تراجعًا كبيرًا فى السنوات الأخيرة سواء على مستوى العناوين التى يتم اختيارها أو على مستوى عدد النسخ التى تتم طباعتها.. رغم الزيادة النسبية فى ميزانية الهيئة العامة للكتاب.. ولا أبالغ إذا قلت إن مشروع النشر فى قصور الثقافة بإمكاناته المحدودة سد نقصًا وستر عيبًا وقلل من شعور الناس بتراجع مكتبة الأسرة ووفر عناوين رائعة بأسعار قليلة للغاية.. ولعلنى أجد نفسى مضطرًا لإيضاح أنه لا تربطنى علاقة شخصية بأى من المسئولين فى قصور الثقافة ولا مشروع النشر بها غير أواصر الزمالة وحب الثقافة التى تربط المئات من المثقفين المصريين ببعضهم البعض.. ومع ذلك فإننى أطالب لجنة الثقافة فى مجلس النواب وكذلك لجنة التخطيط والموازنة بالنظر فى زيادة ميزانية النشر فى هيئة قصور الثقافة للاستفادة من هذه الخبرة الكبيرة سواء فى اختيار العناوين الهامة من عيون التراث الإنسانى والعربى وإعادة طبعها بإمكانات قليلة ومواصفات ممتازة .. حيث تقضى قواعد العقل والمنطق والحوكمة بأن نقول للمجيد إنه أجاد وأن نيسر له مزيدًا من الإمكانات كى يمارس عمله الذى يصب فى النهاية فى الصالح العام.. كما تقضى الشجاعة ومسئولية الكلمة بأن ننبه المقصر إلى تقصيره ما دام يتحمل مسئولية عامة ذلك أن صناعة الثقافة صناعة ثقيلة.. وهى تختلف كل الاختلاف عن صناعة الإعلام وفن اقتناص اللقطة أو مد جسور الصداقة مع الإعلاميين والسياسيين طلبًا لمنفعة هنا أو هناك.. فسلاح الثقافة أقرب ما يكون إلى سلاح الإمداد والتموين فى الجيوش الحديثة.. بينما الإعلام والسياسة أقرب إلى قوات الصاعقة.. ولا يجوز أن يترك المسئول الثقافى مهمته فى بناء العقول وإمداد الأرواح بمقومات الوجدان ليلتقط الصور مع رجال الصاعقة أو رجال الإعلام!!.. هذه مهمة وتلك مهمة.. ولا يجوز الخلط بينهما لأنه خلط فادح ومضر.. فوصف الإعلامى بأنه مثقف.. مضر للثقافة وغير مفيد للإعلام.. وتمسّح الثقافة فى الإعلام مضر للثقافة وغير مفيد للإعلام.. الثقافة دورها بناء العقل والوجدان المصرى.. ويقاس نجاح المسئول الثقافى بنجاحه فى هذه المهمة.. والإعلام دوره الاشتباك والأداء السريع ويقاس نجاح الإعلامى بنجاحه فى هذه المهمة.. والخلط بينهما مضر لكليهما.. مهما بدا براقًا أمام فلاشات الكاميرات.. تحية لكل من يعمل فى صمت وإنكار ذات ويترك نتائج عمله تتحدث عنه.. فهذا هو ما تحتاجه مصر الآن.