جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

سيرة المحبة.. فوزى وأشرف و34 جميلًا                                                                  

برشاقة وخفة لا يملك مفاتيحهما غيره، يغزل صديقى الكاتب الروائى والصحفى الكبير أشرف عبدالشافى فصول كتابه الأحدث «يا جميل ياللى هنا»، وهو الذى صدر قبل أيام قليلة من بداية الدورة الحالية لمعرض القاهرة الدولى للكتاب عن دار «ريشة» للنشر والتوزيع، وتتصدر غلافه رائق التصميم والخطوط صورة كبيرة للموسيقار محمد فوزى، صاحب الأغنية العنوان، والروح المحلقة على طول فصول الكتاب، ما يجعل الكثيرين، وأنا منهم، يظنون أول الأمر، أنه عن سيرة حياة أو موسيقى فوزى، خصوصًا إذا ما ترافق ذلك مع تخصص دار النشر فى كتب السيرة الذاتية لأعلام مصر من الكتّاب والنجوم والفنانين ورجال الفكر والأدب والسياسة، غير أن الأمر لم يسر حسبما سارت توقعات جمهور أشرف المحب لموسيقى فوزى وخفة روحه التى انطبعت على موسيقاه وكلمات أغانيه، وطبعت سماتها على شخصيات الكتاب التى اقترب منها الكاتب، وعاش معها، وفتش فى أعماقها، ثم كتب عنها بلغة من ألطف ما يكون على الرغم من أنه يبدأ أول فصول كتابه بقوله: «يحتاج فوزى إلى لغة ناعمة للكتابة، يحتاج إلى رقة وحلاوة تناسب خفة الروح وجمال الطلعة.. والحروف السوداء التى تقرؤها الآن مجرد محاولة فاشلة للتعبير عن حبى له، فهو أحلى من الكتابة بأى لغة».. والحقيقة أنها ليست محاولة فاشلة بأى حالٍ من الأحوال، فهل هناك لغة ألطف من تلك التى كتب بها أشرف عبدالشافى ذلك السفر المطبوع بأحبار المحبة الخالصة، وهل هناك ما هو أدق فى التعبير عن روح فوزى الحلوة من قوله: هو حاضر بروح وثّابة منطلقة من حنجرته وملامحه وابتسامته وحتى من قامته المحندقة الشيك التى جعلته خالدًا فى وجدان طفولتنا منذ أن «ذهب الليل وطلع الفجر»، ووعدنا صوته بأن «ماما زمانها جاية».. هو شبيه الفرح والبهجة وشقاوة شاب قرر أن يغامر و«يبقى عريس ويكتب كتابه يوم الخميس والدعوة عامة وهتبقى لمّة». وهو شبيه الحسرة والشجن والألم كلما مرّت صورته على سرير المرض شابًّا وديعًا جميلًا هزمت روحه عنجهية الغباء، وصادروا حلمه فمات كمدًا قبل أن ينهش المرض جسده ويرحل فى عامه الثامن والأربعين.

ينقسم الكتاب، الذى أراه بمثابة سيرة للمحبة الخالصة، إلى خمسة فصول، يحمل كل منها عنوانًا لواحدة من أجمل أغنيات فوزى، ويتضمن كل فصل رحلة المؤلف مع عدد من الشخصيات التى حفرت أسماءها فى قلوبنا، تشكل فى مجملها ٣٤ جميلًا من أعيان الثقافة المصرية، وكبارها، منهم من مروا من هنا، وفنيت أجسادهم، بينما ما زالت أرواحهم تحلق فى سمائنا، فتنشر عطور المحبة للحياة والفكر والفن والإبداع، ومنهم من ما زالوا يعيشون بيننا ينشرون بهجة حضورهم فى كل من يسعده الحظ بالاقتراب من ظلالهم الوارفة.. ٣٤ جميلًا كتب عنهم أشرف عبدالشافى بمحبة خالصة، تناسب صاحبى الكتاب، عبدالشافى وفوزى، كما تناسب المكتوب عنهم جميعًا وبلا استثناء.. هؤلاء الذين يقول فى إهدائه إلى محمد فوزى: «وليس هناك أجمل من صوتك يا حبيبى، كان معى فى كل حرف وكل ذكرى وكل محبة وشجن، هو الذى جاء بكل هؤلاء وجمعهم فى كتاب، وعلى أنغامك اختار كل واحد منهم أغنية وسكن إليها ومعها، ورسم شخصيته على مقاسها».

وعلى مدى ما يقرب من ثلاثمائة صفحة إلا قليلًا، يكتب عبدالشافى وفوزى عن عظيمى القصة القصيرة فى مصر يوسف إدريس صاحب «أرخص ليالى»، الذى تحدّى النحاة وأصرّ على كسر قواعد اللغة للإبقاء على كلمة «ليالى» بالياء عنوانًا لمجموعته القصصية الأولى، ومحمد مستجاب الذى «بص لفوق وسقط بجسده الممتلئ وعينه العوراء فى غرام أودرى هيبورن، فاتنة هوليوود المحندقة، كقطعة سكر»، بنفس المحبة التى يكتبان بها عن شريهان وزينات علوى التى لم يجمعها القدر فى عمل استعراضى أو سينمائى مع محمد فوزى، لكنه كان كريمًا مع أشرف «وجاء بزينات لترقص على مقطوعة (تمر حنة) التى صنعها فوزى بمزاج! ورأى قلبى غمزة من زينات، ولمست أصابعى ابتسامتها، وتسربت ضحكتها إلى كل جوانحى وجوارحى، فعرفتُ أنه الحب وجلستُ أحب زينات وتحبنى حتى مطلع الفجر وأكثر»، وبهذه المحبة الخالصة يكتبان معًا، «أشرف وفوزى»، عن سيد حجاب وإبراهيم أصلان وخيرى شلبى، وعن سيد عويس ونعمان عاشور ولويس عوض، وغيرهم كثيرون وكثيرون، غير أن أكثر ما شدنى ما كتباه عن صديقنا النجم صبرى فواز «لحن بليغ حمدى»، الذى يبدأ أشرف حديثه عنه بواحد من أجمل المقاطع الغنائية التى شدا بها فوزى.. «صبرى فرغ يا جميل، والنفس منعانى، وما دام كتمنا الهوى، يا كُتر ما نعانى. عايز أقولك باحبّك، بس منعانى.. يا هل ترى يا جميل لو قلت لك تقبل ولّا تسوق الدلال وتسيبنا بنعانى؟» فهذا هو صبرى الذى نعرفه، ونتابع مسيرته منذ البداية حتى قمة النضج الفنى والإنسانى، يقول أشرف عبدالشافى: ولم يفرغ صبر صبرى فواز، ظل يناغى القمر ويناجيه ويغازله بخفة روح محمد فوزى، وإن سأله أحدهم: إمتى نشوفك على أفيش فيلم يا نجم؟، كان يقول: «أنا ربنا محوّشنى». وهى العبارة التى يحلو لى دائمًا أن أقرأها «ربنا محوش لى»، فقد ضنت البدايات كثيرًا عليه، لكنه لم ييأس، ولم يتوقف عن مطاردة حلمه، حتى كان موعده الجميل مع «كرم الله».

وفى جزئه الخاص بالموسيقار يحيى خليل، يكتب أشرف: «شىء غريب يحدد لحظات المزاج، وشىء أغرب يجعلنى أهوى حفلات يحيى خليل الموسيقية ولا أستمتع بموسيقاه إلا وهو أمامى على المسرح، ولا أحرص على حضور حفلات إلا مع هذا الرجل، إذ أجد نفسى أمام حالة فنية متكاملة يقودها ناسك متعبد فى محراب الموسيقى يحلِّق فى منطقة بعيدة بمقطوعاته الخاصة».. «هو يصنع حالة من البهجة مازجًا بين روائع القديم ولمساته المدهشة»، «على المسرح يتحول إلى كتلة من الفن وتتوهج روحه كدرويش متوحد مع جماليات الموسيقى، وما إن ينتهى من عزف مقطوعته حتى يفسح المجال لأعضاء فرقته فيسمع الجمهور عازف الناى والأوكرديون والجيتار والطبلة والرِّق، وفى الأخير يمتزج كل ذلك من جديد.. ولهذا لم يكن غريبًا والحال كذلك أن ينتظر الشباب فى مصر حفلات يحيى خليل بشغف وأن تمتلئ قاعة المسرح الصغير بدار الأوبرا عن آخرها تقديرًا لهذا الفن».

رحلة مبهجة مع الكتابة الرشيقة خالصة المحبة، استمتعت بها مع كتاب «يا جميل ياللى هنا»، بداية من الغلاف الرائق للفنان عبدالرحمن الصواف، وحتى الكلمات الأخيرة لصفحة الغلاف الخلفى.. 

محبة كبيرة لصانعى هذه الوجبة المشبعة.