جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«فى بلاد الأشياء الأخيرة» لـ«بول أوستر».. الجوع والمرض والخوف تفتك بالبشر

فى بلاد الأشياء الأخيرة
فى بلاد الأشياء الأخيرة

تفاصيل مرعبة فى تشاؤمها.. وقراءتها أشبه بالمرور فى نفق ضبابى كئيب خارج حدود الكون

كل فرد يمارس العنف ضد الآخر.. والسؤال الأهم: كيف تكون المدن عندما تنزع عن سكانها الإنسانية؟

فى بلاد الأشياء الأخيرة تمسى الحياة أكثر ضراوة مع الوقت ويصبح كل يوم آتٍ أكثر سوداويةً من اليوم الحاضر. وهناك يمكن أن تشاهد ما لا يمكن تخيله، وعندما تشاهده ستصدق وجوده حتمًا وستُكَذِب عيناك حدوث هذا الشىء بعدما يختفى ولن تجد له أى أثر. فليس مشهدًا غير معهود أن تشاهد أشد الأشخاص نحولًا يتجولون أزواجًا وثُلاثًا، وأحيانًا عائلاتٍ بأكملها مُوثقة معًا بحبال وسلاسل حديدية، لموازنة بعضهم بعضًا بمواجهة العصفات. وليس غريبًا أن تجد أناسًا يمزقون طعامهم باندفاع حيوانى بعدما قاموا بسرقته، فالسرقة أمر مألوف جدًا. وعندما تمشى فى شوارع المدينة الغابرة ذات الجو العاصف والطقس السيئ إلى حد الموت عليك أن تكون على حذرٍ من اللامتوقع. يمكن أن يصبح اصطدامك بأحدهم أمرًا مهلكًا. فهى مدينة تفتقد لكل ما هو إنسانى ويزداد فيها كل ما هو لا إنسانى مع مُضى الوقت، ويكون هدف الإنسان فيها هو الموت. فالموت هناك يُمارَس بكل الطرق المختلفة، لكنها ترتبط مع بعضها فى لا إنسانيتها وبشاعتها المجحفة.

فى رواية «فى بلاد الأشياء الأخيرة» للكاتب الأمريكى «بول أوستر»، من ترجمة «شارل شهوان» الصادرة عن «دار الأداب» تتواجد مدينة الدمار، حيث تتداعى الأشياء وتضمحل المدينة، والعالم يفنى إلى زوال، فلقمة العيش غير مضمونة، المسكن والمأوى يُعد ترفًا، وتصبح أهمية جسدك وهو ميت أكثر مما وهو حى. البرودة والصقيع فى كل مكان، حتى أفئدة البشر.

تبدأ الرواية بسفر «آنا بلوم» إلى بلدٍ ما، لتبحث عن أخيها الذى ذهب ولم يعد، لتكتشف أنها وقعت فى مأزق، ويجب عليها أن تُكافح يومًا بيوم من أجل النجاة ومن أجل العيش وعدم التأقلم مع هذه الحياة عديمة الإنسانية والتحول مثل باقى البشر بفعل قسوة المدينة وحياتها الرتيبة المملة، ولكن النجاة يومًا بيوم لم تمنعها من التفكير والتشبث دائمًا بقضيتها وهدفها، العثور على أخيها حتى لو بخبر يقول إنه مات. 

ومن خلال قصة «آنا» نرى كيف توحش البشر وتحولوا إلى النقيض من طبيعتهم قبل دخول هذه المدينة. نرى كيف يندثر العالم، كيف أصبح العالم فارغًا من كل معانيه، وكل الأفكار لم تُصبح لها فائدة، فقط ما يُنجيك هو ما له قيمة. وهنا تكمن براعة «بول أوستر»، فمن خلال عرض القصة يُناقش ويسخر القضايا الإنسانية، ما تفعله المدينة بالإنسان، التحول لآلة أو حيوان، إما أن تكون مُصمتًا فارغًا أو أن تكون وحشًا ضاريًا، الطريقة التى بُنيت بها الحياة فى المدينة تجعلك عبدًا لها، وتقل رويدًا رويدًا الإنسانية والمشاعر، لتحل محلها الرأسمالية، والقسوة، والوحشية، فلاحظ أننا نتكلم عن النجاة من الموت، فإلى أى مدى يُمكن أن ينحدر البشر؟

حاول أوستر فى هذه الرواية أن يضع الحد الفاصل بين ما يسمى حضارة وبين ما يمكن أن يحدث من انهيار يجرف كل ما هو واقع مألوف فى حياتنا المعاصر، يسرد أوستر التفاصيل الأولية لمعنى أن ترتدى هذه الحياة حلتها البشعة التى تمارس سلطتها بعيدًا عن تلك الأزياء المبهجة التى تسمى قانونًا وإنسانية بنواحٍ عديدة من صور ومشاهد لا يتصور العقل يومًا أنها قد تحدث بسبب غياب أبسط مقومات الحضارة، بلد كامل، كما يصفه أوستر فى حالة من الهيجان والعنف وكسر كل المفاهيم الأخلاقية للمجتمع، عالمٌ لا يبدو مألوفًا يتقاتل فيه الناس من أجل قطعة ملابس رثة لا تجنبهم على أية حال برد الشتاء القاسى، ذلك الشتاء نفسه عندما يشاهد الناس فيه احتراق أحد المبانى يتدفقون إلى تلك الحرائق لا لأجل إنقاذ حياة المحاصرين هناك، بل من أجل الحصول على بعض التدفئة من جراء حرارة ووهج ذلك الاحتراق الذى يتراكم فيه صراخ الأرواح المحترقة والأجساد الملتهبة. وفى شوارع مدينة الأشياء الأخيرة ينضم الناس إلى جماعات تمارس الركض لمسافات بعيدة من أجل الحصول على موت سريع نتيجة الإعياء الكامن فى الركض الجنونى. وليس غريبًا أن ترى هناك أناسًا يقفزون من سطوح الأبنية الشاهقة، يهبطون وهم فى كامل سعادتهم، فالموت هو الغاية والهدف الأسمى. والبقاء بمثابة الجحيم لقاطنى هذه المدينة لأن كل فرد يمارس العنف ضد الآخر، والسؤال الأهم والذى يطرحه الكاتب «بول أوستر» فى هذة الرواية هو: كيف تكون المدينة عندما تُجرد إنسانية ساكنيها؟

رواية مرعبة فى تفاصيلها، فى عالمها، فى تشاؤمها أيضًا. كل شىء ليس منهارًا بل على حافة الانهيار، وهذا ما يجعل الأمر أكثر سوءًا وبشاعة وعذابًا نفسيًا لا ينتهى ومفارقة لكل أنواع المباهج. حيث الحياة الوحيدة التى بما فيها من السقم والشقاء والعذاب ليست مضمونة. هنا دائمًا تكون الحياة على حافة شىء ما، قلقًة، راغبةً فى الانتهاء من كل هذا العبث. القراءة فى هذه الرواية أشبه بالمرور فى نفق ضبابى كئيب قابع فى اللامكان خارج حدود هذا الكون. كأنها أحد أبشع الكوابيس التى من الممكن أن تراها فى فترات نومك القلق.