جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

مصر فى عالم متغير

قد يبدو لك العنوان كلاسيكيًا بعض الشىء لكن هذه هى الحقيقة.. العالم يتغير بسرعة كبيرة جدًا ومصر تلاحق التغيرات بسرعة كبيرة.. ينطبق على العالم الآن تفسير الآية الكريمة «كل يوم هو فى شأن» والتى قيل إن رجلًا تحدى أحد الصالحين بسؤال: ما شأن ربك اليوم؟ فأجابه بثقة: «يرفع أقوامًا ويخفض آخرين».. هذا هو حال العالم اليوم.. قوى تنخفض وأخرى ترتفع.. ومصر تراقب بعين يقظة.. الهند تتقدم لتحتل مكان بريطانيا كخامس اقتصاد فى العالم.. وليس بعيدًا خلال عشر سنوات أن تكون الصين هى القوة الأولى فى العالم وتليها الهند.. قرأت تعليقًا لأحد موالى السفارات الغربية فى مصر يحاول أن يقلل فيه من قيمة تحركات مصر الأخيرة.. أحد أصدقائى قال لى إنه جاسوس وكان رأيى أنه رجل أبله.. بارت تجارته فى النصب باسم حقوق الإنسان فراح يكتب التفاهات هنا وهناك.. فضلًا عن أنه من الطبيعى أن تتضايق القوى التقليدية من سعى مصر للتحالف مع قوة بازغة مثل الهند.. سواء عبر التعاون فى مجال التكنولوجيا.. أو تصدير ما تحتاجه الهند من صادرات مصرية.. أو الاستفادة من ارتفاع دخل المواطن الهندى وجذبه إلى مصر كمقصد سياحى عريق وواعد.. أو التعاون مع الشركات الهندية والمستثمرين الهنود الذين تراكمت أرباحهم بما يشكل فائضًا يمكن استثماره فى الصناعات المصرية التى تتأهب للانطلاق.. سبق أن قلت منذ أيام إن زيارة الرئيس للهند تعبر عن خيال سياسى جديد.. وتستبق نحو توثيق العلاقات مع القوى البازغة.. دون أن تقطع الوشائج القوية مع العالم القديم الذى يمر بأزمات متتالية.. فالبريطانيون يعانون بشدة من التضخم وأزمة الغذاء وأزمة الطاقة وغدًا يستعد مئة ألف عامل بريطانى للدخول فى إضراب شامل من شأنه أن يزيد من حدة الأزمة فى المجالات التى يعملون فيها على الأقل.. الأمر نفسه يتكرر فى فرنسا التى تشهد إضرابات ومظاهرات بسبب اعتراض الفرنسيين على مد سن التقاعد، وهو إجراء له أسباب اقتصادية ويرى المواطن الفرنسى أنه إخلال بحقه فى تقاعد مريح يزور خلاله دول العالم المختلفة كما كان يفعل أسلافه قبل الأزمة العالمية التى عصفت بالعالم القديم السعيد.. الأمر نفسه يتكرر فى أمريكا التى لم يجد رئيسها بدًا من التفاوض الجاد مع رئيس مجلس النواب كى يوافق على رفع الحد الآمن للديون الأمريكية لأنه يريد مزيدًا من القروض لتلبية احتياجات المواطن الأمريكى ويرى أن المساس بالحقوق الاجتماعية للأمريكيين سيؤدى لاضطرابات فى المجتمع.. هكذا بصراحة.. مصر تنظر لهذا كله بتفهم وتعاطف ربما.. لكنها تقرأ ملامح العالم الجديد ويتجه رئيسها للهند ليؤسس لشراكة استراتيجية تغطى مجالات السياسة والدفاع والاقتصاد والطاقة ويخطط البلدان لكى يصل حجم التجارة بينهما لـ١٢ مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة بما فى ذلك الأقماح الهندية والصادرات المصرية للهند، فلا أحد يعرف إلى متى تستمر الأزمة الأوكرانية والفطن من يحتاط لنفسه ويرسم سيناريوهات مختلفة للمستقبل.. الأمر نفسه ينطبق على زيارة الرئيس لجمهوريتى أذربيجان وأرمينيا، وكلتاهما من جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق وبينهما وبين مصر من الروابط ما لا يدركه الجهلة ومسطحو العقول.. إن أذربيجان هى الموطن التاريخى للإمام البخارى عالم الحديث الشهير الذى يؤمن المصريون أن الخطأ فيه لا يغتفر، ويطلقون السؤال الاستنكارى الشهير «يعنى غلطنا فى البخارى؟»، ومنها أيضًا جاء المملوك الشهير سيف الدين قطز الذى قيض له القدر أن يقود جيش مصر فى مواجهة التتار فى معركة عين جالوت ويوقف زحفهم قبل أن يموت على يد مملوك آخر ينتمى إلى جمهورية جورجيا حاليًا هو الظاهر بيبرس مؤسس دولة المماليك الفعلى الذى دخل المخيلة المصرية كبطل شعبى.. أما أرمينيا.. ففيها جالية كبيرة فتحت مصر لها ذراعيها فى القرن التاسع عشر عندما جاءت موجات متتالية هربًا من المذابح التركية الشهيرة.. وقد لمع بعض أبنائها فى وظائف الدولة المصرية وأشهرهم نوبار باشا.. الذى تدرج فى دولة محمد على وحظى برعايته حتى صار رئيسًا للوزراء فى عهد حفيده إسماعيل.. وعلاقات مصر بكلتا الجمهوريتين متشابكة ومعقدة بما لا يدركه الجهلة أو من لا يريدون لمصر أن تتمدد فى مجالها الحيوى والإقليمى وتلعب الدور الذى يليق بمكانتها.. بعد تفكك الاتحاد السوفيتى سعت القوى الإقليمية لملء الفراغ فى الجمهوريات التابعة له وأريقت سطور كثيرة فى الصحف المصرية حول ملء الفراغ.. لكن تعثرت مصر فى أحوالها فلم يحدث ما كان منتظرًا وما يليق بمصر من دور.. ولعل زيارة الرئيس السيسى هى البداية الفعلية لهذا، خاصة أنها شملت توقيع مذكرات تفاهم فى مجالات الثقافة والاقتصاد والموارد المائية.. نفس الأمر فى أرمينيا وهى دولة عريقة لم يسبق أن زارها رئيس مصرى منذ استقلالها، وآن الأوان لمد مزيد من جسور التفاهم معها.. خاصة أنها هى وأذربيجان تقدران موقف مصر المحايد من النزاع حول منطقة «ناجورنو كارباخ».. وبشكل عام فمن الطبيعى أن تزعج المساعى المصرية للانفتاح على العالم الجديد القوى التقليدية وبعض صبيانها هنا وهناك.. وفى هذا دليل كافٍ على أن مصر تسير فى الطريق الصحيح.