جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الذكرى السادسة لرحيلها هذا الشهر

نهاد صليحة.. الناقدة «الشجرة»

الناقدة المسرحية
الناقدة المسرحية الكبيرة نهاد صليحة

 

قال عنها نقاد جيل التسعينيات والأجيال التالية: «نحن جميعًا تلاميذها»، مشيرين إلى أنهم تعلموا من كتبها النقدية ومقالاتها التطبيقية، وكل إسهاماتها الهامة فى نظرية المسرح ونقد النقد.

إنها الناقدة المسرحية الكبيرة نهاد صليحة، التى لم تكن مجرد باحثة أو ناقدة، بل نموذج يُقتدى به ويُحكى عنه.. كانت جسرًا بين عالمين.. بين أمكنة وأزمنة مختلفة.

«نهاد» كانت الناقدة العضوية التى تلتحم بالفنانين فى المسارح، تشاهد «بروفاتهم» قبل العرض، وتبدى ملاحظاتها عليها، ترتحل لأبعد الأماكن من أجل عرض مسرحى، تدافع عن حقوق فنانى المسرح، خاصة الشباب وفنانى المسرح الحر، لذا سيظل دومًا ثمة كرسى شاغر باسم نهاد صليحة فى كل المسارح.. كرسى لن يستطيع أى منا أن يشغله.

وتحل هذا الشهر الذكرى السادسة لرحيل نهاد صليحة، عقب وفاة شريك عمرها، شيخ المترجمين والكاتب المسرحى الراحل محمد عنانى بأيام قليلة. وبهذه المناسبة، جمعت «الدستور» عددًا من الشهادات عن «سيدة النقد المسرحى» إحياءً لذكراها.

د. محمد سمير الخطيب 

استطاعت الراحلة الدكتورة نهاد صليحة أن تصنع لنفسها موقعًا نقديًا فريدًا فى النقد المسرحى منذ الثمانينيات، وعلى مدار ما يقرب من ٣٠ عامًا كانت وما زالت مقالاتها مرجعًا مهمًا للمبدعين الذين ينتظرون بشغف ما تكتبه عن إبداعاتهم. وتكمن فرادة مقالات نهاد صليحة فى أنها ليست فقط قراءة متعمقة للظاهرة المسرحية، لكنها بمثابة صك براءة لإبداعاتهم. لذا، فإن نهاد صليحة ظاهرة نقدية تستدعى علينا قراءة خطابها النقدى لمعرفة تجربتها، وكيف أسست حضورها فى سياقنا النقدى. بدأت نهاد صليحة الكتابة النقدية منذ بداية الثمانينيات تقريبًا، فى سياق نقدى يبحث عن تجديد أدواته. وشهدت هذه الفترة ظهور تيارات نقدية جديدة. وكرست نهاد صليحة مشروعها النقدى فى قراءة العروض المسرحية، بجانب الترجمة والدراسات الأكاديمية.

لذا، تأسس خطابها النقدى المسرحى على إعادة النظر فى بعض الإشكاليات التى كانت مثار جدل فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، مثل العلاقة بين الشكل والمضمون، وكشفت لنا أننا لا نستطيع الفصل بينهما. وانطلاقًا من وضعيتها كأستاذة أكاديمية، قرأت النظرية الدرامية عند أرسطو فى كتابها «المسرح بين الفن والفكر». كما تناولت- بالشرح والتحليل- العديد من التيارات المسرحية مثل «العبثية والتعبيرية والرمزية»، فى كتابها «المدارس المسرحية المعاصرة».

من ثم، كانت الخطوة الأولى لتأسيس خطابها النقدى هو الإدلاء برأيها فى المفاهيم النقدية الشائكة، والتأسيس النظرى لقراءة المسرح، فى قراءات بسيطة فى أسلوبها لكنها متعمقة فى فكرها.

وظلت تحافظ على هذا المنحى، وبدأت بعد ذلك فى قراءة النصوص المسرحية لكبار الكتاب المسرحيين بأدوات نقدية جديدة، مثل قراءتها لمسرحية «الفرافير» ليوسف إدريس من منظور علم العلامات وتبيان شفراتها الدرامية الثقافية، أو تفكيك الخطاب الإبداعى لدى توفيق الحكيم. وكانت أدواتها النقدية التى تنظر بها إلى المسرح هى ما جعلت منها ناقدة رائدة تهتم بظاهرة العرض المسرحى وتحليله بمنظور مختلف. يتضح ذلك فى تحليلها لعروض مهرجان المسرح التجريبى الذى بدأ منذ أواخر الثمانينيات، والتى ساهمت قراءتها للعروض المسرحية المختلفة فى تأسيس حضورها النقدى. كما ارتبط اسمها بهذا المشروع، خاصة فى ظل عجز كتابات بعض النقاد عن التعامل مع العروض المسرحية التجريبية، التى وصفها البعض بأنها «تغريب» و«تخريب للهوية المسرحية».

ويُحسب لـ«نهاد صليحة» أنها لعبت دورًا مهمًا فى تعريف المسرح المصرى والعربى للآخر الغربى، من خلال كتاباتها باللغة الإنجليزية فى جريدة «الأهرام ويكلى». واعترف بهذا الدور نقاد ومبدعون كبار مثل مارفن كارلسون وريتشارد شيكنر، اللذين قالا إنهما لم يعرفا المسرح المصرى والعربى إلا عبر كتاباتها النقدية. 

 

أحمد بلخيرى

 

تعد الباحثة المسرحية الراحلة نهاد صليحة من الباحثين المسرحيين العرب الذين أغنوا المكتبة المسرحية العربية بكتب ستبقى خالدة فى ذاكرة التاريخ. كما ستبقى كتبها شاهدة على حبها وعطائها الغنى لذلك الذى كرست له حياتها الثقافية والعلمية: المسرح، وشاهدة أيضًا على ثقافتها الواسعة والمنفتحة على ثقافة الآخر، قراءة وكتابة، فقد كتبت باللغة العربية وباللغة الإنجليزية أيضًا. كما تعكس قراءتها لمسرحية «الزير سالم» لألفريد فرج، حيث اعتبرت الناقدة أن تلك المسرحية مكونة من خيطين وصفتهما بالمتنافرين، الخيط الأول يتكون من التراجيديا كما هى معروفة عند اليونان مع تضمين مقصود، حسب قولها، لعبارات وصور مألوفة من «ماكبث» و«هاملت» على وجه أخص، أما الخيط الثانى فيتكون من الإطار البريختى الملحمى. كانت الغاية عندها من هذا الجمع بين الخيطين تقديم رأيه الفاحص للتراث من خلال «بناء درامى مركب تتحول فيه التراجيديا إلى معادل فنى للتراث، وتجسد فيه الصيغة البريختية الموقف النقدى الفاحص له». لم تقتصر إذن على وصف مكونى البنية المسرحية فى المسرحية المذكورة، بل فضلًا عن ذلك قدمت تفسيرًا لذلك التركيب، ولم تقتصر فى قراءتها على البنية الدرامية، بل شملت قراءتها أيضًا الموسيقى، والديكور، والملابس، والإضاءة، والإخراج المسرحى «المخرج هو حمدى غيث» الذى اعتبرته من «شباب مخرجى عصر التجريب»، وهذا يدل على اكتسابها ثقافة مسرحية حقيقية وليس مجرد ثقافة أدبية. 

وفى كتابها «المسرح بين الفن والحياة»، تشير نهاد إلى فكرة «التجريب المسرحى بين الحرية والتبعية» ولم تربط التبعية هنا بالغرب أو لأى ثقافة فى الخارج، لأن هناك «تبعية من نوع آخر» بل «تبعية المؤسسات المهيمنة»، لهذا أصرت فى ذات المقالة على الديمقراطية بوصفها شرطًا للتجريب. وعليه، فإن التجريب المسرحى عندها يجب أن يتحرر من كل تبعية، فالمسرح ليس أداة فنية للتسخير والتطويع بل هو إبداع حر، «هو مساءلة المألوف، وارتياد المجهول، والإبحار ضد التيار فى معظم الأحيان»، ولا تكون كلها إلا بعد توفر ثقافة عامة، وثقافة مسرحية خاصة، وهما معًا سلاحا المبدع المسرحى التجريبى فى معركة التنوير والحداثة، ومن أجل الإبداع المتفرد الذى يبقى ويدوم مثلما ظلت كتابات نهاد النقدية باقية ومخترقة للزمان، فقد ذهب جسدها ولكن بقيت آثارها شاهدة على اجتهادها وانفتاحها الثقافى.

باحث مغربى

لبنى إسماعيل

 

تقول نهاد «لطالما راودنى حلم التمثيل، أن أكون ممثلة على المسرح. ولكن الحياة فى كثير من الأحيان لا تدور حول ما نريد. لم أدع أبدًا إدراكى المبكر لتلك الحقيقة أن يهزمنى. كان لدىّ استعداد أن أرضى بنصف حلم.. وهو رغم نقصانه، حلم. ولهذا وجدت فى قاعة المحاضرات مسرحًا لنفسى. هناك، فى ثنايا فعل التدريس، ولد حلمى المبتسر. ولكنى وعن وعى، كنت أدرك فى كل مرة أقف فيها لأحاضر أنى أمارس فعلًا مسرحيًا. وما المسرح إلا فضاء، وجمهور، وقصة جيدة تُحكى أو محاضرة ممتعة يقوم الأستاذ بأدائها. وكان هناك أيضًا مقعدى وسط الجمهور، فى قاعة المسرح، بصفتى ناقدة، وكذلك مقعد سرمدى أجلس فيه دون الحاجة لتواجدى فى فضاء مسرحى ما، أو للحضور الجسدى الفعلى فى الأماكن. فأنا أجلس، وأكتب، وأمشى، وتناجينى الأفكار: كمشاهدة، كناقدة، كطيف شبح يتجول على خشبة المسرح ويسكننى حينما أكتب، وعندما أسكن كل خشبات العروض التى أكتب عنها. وحين أتمثل هكذا كل الأدوار التى أتجول فيها ومعها وحولها، يتجسد وجود متدفق هو أنا.. أنا على المسرح، أنا ذهابًا وإيابًا من ميكروفون قاعة المحاضرات لقاعة العرض لأوراق أفكارى. إنه ذلك الوجود الذى يكتفى به المرء عن العالم، والذى يهبك الحياة، وأحيانا ينقذك من براثن الحياة.. دائمًا.. وأبدًا». «من حديث شخصى مع نهاد صليحة، لشبونة، ١٨ يوليو ٢٠٠٩». 

هكذا تحدثت وهكذا كانت. وهكذا أعطت الحياة نهاد «المحظوظة»- كما وصفها بيتر طومسون، أستاذ المسرح بجامعة إكستر، الذى أشرف على رسالتها للدكتوراه عن مسرح بايرون- ما أرادت منذ أن امتلكت ناصية الثقافتين العربية والإنجليزية. وكان تزامن صدور جريدة الويكلى فى ١٩٨٩ التى احتضنت كتاباتها عن العروض المسرحية المصرية باللغة الإنجليزية مع انطلاق مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى الذى أثار فضول المسرحيين الأجانب للتعرف عليه والقراءة عنه بمثابة عتبات البهجة لهذين العالمين. وتبعتهما عوالم الترجمات والكتب النقدية ورحلات البحث عن المواهب والاحتفاء بالمسرح فى القاهرة وخارجها على مسارح الجامعات والشركات والنوادى، والفرق المحترفة والحرة، والبيت الفنى للمسرح ومراكز وقصور وبيوت الثقافة، والأوبرا وقطاع الفنون الشعبية والاستعراضية. هنا أو هناك، كانت نهاد صليحة نفس الحلم ونفس القلم: صائدة النور.

أستاذ مساعد الأدب الإنجليزى والمقارن بجامعة القاهرة

طارق الدويرى

بهجة، دهشة، طاقة متحركة تجول تصنع خيًرا ومعجزات.. تنشر بذور المسرح فتخلق للنباتات الصغيرة أذرعًا وقامة وأحلامًا. مثل الشمس تتحمس لهذه النباتات، تركض نحوها وتدفئها، حين يشتد الصقيع. مثل منزل آمن تحمى كيانها حين تشتد نيران الغى والكذب.. نهاد.. تحتفى بالمعنى الصادق، تبتسم حين تضىء شمعة، وتضحك لفضح العتمة وظلمات العقل والواقع.

تجول باحثة فى الأعماق عن جوهر، عن معنى متأصل، عن عيون تلمع، لتضىء لهم شمعة. نهاد أنشودة منحت روحها للجميع، ستسمع ضحكاتها فى كل مسرح فقط حين تسعى أنت للجمال وتشقى لكى تكشف عن ابتسامة.. ضحكات نهاد كدقات تشعل كواليس المسرح ابتهاجًا واحتفاءً.. نهاد طفلة تضحك وتمرح بالكلمات الحرة، الغائمة كاشفة عن السر ومحرضة على إيجاد المغزى.. نهاد شابة عجوز تئن وتشقى من فحيح الأكاذيب ورنينها المزعج، وقفت أمام الريح والغول والثعالب الكبيرة.

مخرج مسرحى