جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عصر المماليك.. و«التوظيف السياسى للدين»

تكرست فى العصر المملوكى فكرة «الشرعية الدينية» كمصدر للشرعية السياسية. فرحلة المماليك فى مصر والعالم الإسلامى ككل تأسست على معارك عسكرية خاضوا فيها حربًا ضروسًا ضد المغول والصليبيين الذين رأوهم عدوًا يستهدف القضاء على الخلافة الإسلامية ووحدة الأمة، من هذا المنطلق رفع المماليك فى حروبهم شعار الدفاع عن الإسلام ودولة الإسلام، وقد شكلت مصر منصة الانطلاق الكبرى لخوض هذه الحروب، ومثل سلاطينها من المماليك قادة تحرير البلاد الإسلامية من قوى الغزو التترى والصليبى، وبعد أن استتب لهم الأمر سرعان ما بدأوا يبحثون عن مصدر للشرعية السياسية.

كان المصدر الرئيسى للشرعية السياسية داخل الدول الإسلامية هو صك الولاية، الذى يمنحه الخليفة للأمير المملوك الذى اختاره سلطانًا لمصر. وبعد سقوط الخلافة العباسية على يد التتار حدث فراغ سياسى بعد اختفاء «الكرسى المانح للشرعية». ومن نافلة القول أن أذكرك بأن الظاهر بيبرس كان حريصًا على إجلاس أحد أفراد أسرة الخلافة العباسية الذين هربوا من بغداد إلى القاهرة على كرسى الخلافة، ولم يكن للخليفة هذا من وظيفة سوى إقرار شرعية المملوك الجالس على العرش كسلطان حتى تخضع له الرعية بالسمع والطاعة، وكان السلطان أعلى قيمة ومقامًا منه بكثير.

وبعد الحصول على الشرعية السياسية، كان أمراء المماليك ينطلقون فى رحلة بحث عن الشرعية الشعبية، واعتمدوا فى هذا السياق على نوعين من الأدوات: أدوات السيطرة الناعمة، وأدوات السيطرة الخشنة. على مستوى السيطرة الناعمة حرص أمراء المماليك على بناء المساجد والمدارس الدينية، وإغداق المال على الأهالى، وذلك فى المناسبات الدينية، بالإضافة إلى حرصهم على أداء العبادات الإسلامية من صلاة وصيام وزكاة وحج، حرصًا منهم على رسم صورة إيجابية لهم لدى الأهالى تؤكد على ارتفاع منسوب تدينهم.

اعتبر المماليك الدين وسيلة للسيطرة الناعمة على الرعية، تعمل كتفًا بكتف إلى جوار أدوات السيطرة الخشنة. ومثّل العلماء الأداة الأساسية للسيطرة الناعمة، قطاع منهم كان يتم ترويضه عبر إضفاء قدر كبير من الاحترام والتبجيل الرسمى عليه، أما القطاع الأكبر فقد تمت السيطرة عليه بالمال. يقول «منصور الصوفى» صاحب دراسة «الأوضاع الدينية للمسلمين فى العهد المملوكى» إن سلاطين المماليك حرصوا على استمالة واسترضاء العلماء وقدروهم وبوأوهم المناصب الإدارية والدينية الرفيعة فى الدولة، للاستفادة من خبراتهم فى السيطرة على الأهالى، ولإحياء فكرهم المذهبى الوارث حركة الإحياء السنى التى اتبعها الأيوبيون قبلهم فى مواجهة الفكر الفاطمى الشيعى. فعندما أطاح صلاح الدين الأيوبى بالملك الفاطمى ودمر دولة الفاطميين التى زاد تاريخها فى مصر على ٢٠٠ عام، اجتهد فى تأسيس شرعية دينية جديدة لحكمه، فلجأ إلى إحياء المذهب السنى فى مصر ليمثل غطاءً شرعيًا للدولة الجديدة التى بناها على أنقاض الحكم الفاطمى. 

ولم يكن الدين يوظف فى كل الأوقات كأداة للسيطرة الناعمة، ففى أحيان كان يتم الاعتماد على ممارساته ضمن أدوات السيطرة الخشنة، وذلك من خلال نظام «الحسبة». ولا يخفى عليك حالة اللمعان التى تميزت بها وظيفة «المحتسب» فى العصر المملوكى، وكان القائم بها يعمل تحت شعار محاربة الرذائل، ومواجهة المخالفات التى تُرتكب فى حق الشرع، ومراقبة الآداب العامة ودرجة التزام الناس بها.. وتحت يافطة الدفاع عن الأخلاق والآداب والتوجيهات المملوكية العامة، كانت عقوبات المحتسب تلهب ظهور الأهالى، بالحق وبالباطل.

الزينى بركات بن موسى أشهر محتسب فى أواخر عصر المماليك كان يلعب لعبة دعم موقعه لدى السلطان عبر التعسف مع الأهالى وفرض الضرائب عليهم، ومعاقبتهم على مخالفة أحكام الدين وأخلاقياته وتعاليمه. لعب هذا الدور فى عصر قنصوة الغورى كما لعبه فى عصر طومان باى، فتحت يافطة رفع المعاناة الاقتصادية عن الناس، وضع «طومان» تصريف الأمور الاقتصادية فى يد «الزينى» الذى اتخذ قرارات صارمة بالتسعيرة الجبرية للسلع، وألزم التجار بخفض الأسعار. 

وفى حالات كان الدين يستخدم كأداة لتبرير الاستبعاد الخشن للأقباط من المناصب العليا أو المناصب السنية بتعبير ذلك الزمان. تجد دليلًا على ذلك فيما كتبه «ابن إياس» وهو يترجم لسيرة السلطان الناصر حسن، حيث يمتدحه قائلًا: «ومن محاسنه أن استبعد الأقباط من الوظائف السنية وولى عوضهم جماعة من العلماء، منها وظيفة نظر الجيش، ونظر بيت المال».تبقى التجربة المملوكية شاهدًا على شكل جديد من أشكال العلاقة بين الدين والسياسة فى مصر. لم تعبر التجرية عن دمج بين الرئاسة الدينية والرئاسة الدنيوية، فى إطار نظرية الحاكم الإله، كما تحقق فى العصر الفرعونى، وهى النظرية التى حاول الحاكم بأمر الله الفاطمى استعادتها، حين اغتر، وحاول باقى خلفاء الدولة الفاطمية الاقتراب منها بشكل أو بآخر عبر تقديم أنفسهم كوكلاء لله على الأرض، عبر نظرية يمكن وصفها بنظرية «نائب الإله». ابتكرت التجربة المملوكية فكرة توظيف الدين فى خدمة أهداف الحاكم. فالسلطان المملوكى لم يتجرأ على تبنى نظرية «الحاكم الإله» ولا نظرية «الحاكم النائب عن الإله»، بل نظر للدين كأداة يمكن أن يستخدمها حاكم الدولة للسيطرة الناعمة أو الخشنة على الأهالى، وابتكر عددًا من الأدوات التى وظفها فرديًا ومؤسسيًا لتحقيق هذا الهدف، وتمثلت الأدوات الفردية فى العلماء الذين يحظون بقدر من التبجيل والاحترام لدى المصريين، والأدوات المؤسسة التى حرص المماليك على دعمها، مثل الأزهر الشريف والمؤسسة الصوفية، أو استحداثها مثل المدارس الدينية التى أنشأوها وما زالت آثارها باقية فى مصر حتى اللحظة.

فى عصر المماليك تكرست المعادلة الأشهر، التى ما زالت تعمل على الأرض حتى اللحظة، معادلة «التوظيف السياسى للدين»، التى تنظر إلى الدين والسياسة كصنوين، فحيثما ظهرت السياسة حضر الدين، وحيثما ظهر الدين حضرت السياسة.