جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عام طه حسين

فى هذا العام تحل الذكرى الخمسون لرحيل عميد الأدب العربى طه حسين «١٨٨٩-١٩٧٣» والذى رحل فى يوم ٢٨ أكتوبر بعد أسابيع قليلة من العبور العظيم.. والحقيقة أننى لا أستطيع أن أخفى دهشتى من تجاهل الدورة الرابعة والخمسين لمعرض الكتاب لهذا الحدث الهام والمفيد لمصر ثقافيًا وسياسيًا ومعرفيًا.. ومع كل التقدير للهيئة العامة للكتاب فقد خالفها التقدير فى تجاهل هذه المناسبة الهامة التى كان يجب أن تكون محورًا لمعرض الكتاب هذا العام ولسلسلة احتفالات ترعاها وزارة الثقافة احتفاءً بهذا المصرى العصامى الذى تحدى ظروفه وغير قدره وأفاد بلده وما زالت أفكاره مفيدة ومثمرة حتى الآن.. إن طه حسين هو عمود خيمة القوة الناعمة المصرية وهو مصطلح استخدم كثيرًا حتى شابه بعض الابتذال.. لكنه حقيقة واقعة.. فلو سألت مصريًا عاديًا ما الذى يحبه فى مصر؟ فمن الصعب أن يقول لك إنه يحب الصناعات المصرية مثلًا.. أو إنه فخور بالناتج المحلى المصرى أو بالصادرات المصرية.. لأن هذه المجالات اعترتها مشاكل كبيرة منذ نكسة يونيو وحتى وقت قريب.. لكنه بكل تأكيد سيقول لك إنه يفخر بكونه حفيد الفراعنة أو بأنه من بلد أم كلثوم وعبدالوهاب أو أنه من بلد نجيب محفوظ أو طه حسين.. أو من بلد النقشبندى وبليغ حمدى.. نفس الأمر بالنسبة للفن المصرى.. فهو السلعة المصرية الأكثر رواجًا فى العالم العربى.. فعندما تسير فى شوارع المغرب والعراق والكويت لا يسألك الناس عن السيارة المصرية أو الكمبيوتر المصرى لكنهم يسألون عن عادل إمام وسعيد صالح وأحمد زكى.. طه حسين هو عمود خيمة هذه القوة الناعمة المصرية لأنه أقام جسرًا بين الثقافة الأزهرية التقليدية وبين مناهج البحث الأوروبية فى العلوم الإنسانية.. أولًا.. ولأنه طرح على المصريين الحل للارتقاء بمصر وهو التعليم ثانيًا.. وأثبتت الأيام أن ما طرحه هو الحل الوحيد.. ولأنه طلب منا أن نتوجه شمالًا نحو البحر المتوسط فتوجهنا جنوبًا نحو البحر الأحمر وما وراءه من صحراء فى نفس عام رحيله ودفعنا ثمنًا غاليًا.. وتأكدت لنا خسارتنا حين وجدنا أهل البحر الأحمر يسعون لتنفيذ وصية طه حسين ابننا وأبينا وجدنا ويتجهون نحو البحر المتوسط بعد سنين كثيرة خسائرها كبيرة. 

أما السبب الرابع للاحتفاء بطه حسين فهو أنه رمز مصرى لا يملك أى بلد عربى مثقفًا فى ربع قيمته ولا نصف قيمته وهى مسألة ليست محل خلاف مع الاحترام لكل المثقفين العرب من تلاميذ طه حسين وتلاميذ تلاميذه. 

وأما السبب الخامس للاحتفاء بطه حسين فهو أنه على المستوى الفردى نموذج ملهم للشباب من حيث قوة الإرادة والتغلب على العجز والقدرة على تغيير المصير والارتقاء من خلال التعليم والعمل الجاد الشريف فهو الفلاح الفقير الذى جاء من ريف المنيا ليصبح بعد سنوات وزيرًا للمعارف وحاملًا لرتبة الباشوية ونجمًا عاليًا فى سماء الفكر والفن والكتابة.. وأما السبب السادس فهو أن الاحتفال به يرفع من الروح المعنوية للمصريين ويزيد من مشاعر الفخر القومى وهو أمر نحتاجه جميعًا فى هذا الوقت الذى تضغط فيه الأزمة العالمية على الجميع فيأتى إثراء الوجدان ورفع الروح المعنوية بمثابة بلسم يشفى الجروح ويطبطب على الأرواح.. وأما السبب السابع للاحتفال بالرجل فهو أنه رمز لإعمال العقل والاجتهاد فى البحث دون خروج على ثوابت الدين.. فقد طبق طه حسين مناهج البحث التى تعلمها على تاريخ الأدب العربى وتحمل النتيجة كاملة بعد صدور كتابه «فى الشعر الجاهلى» لكن هذا لم يمنعه من أن يكون مسلمًا صالحًا أفاد التاريخ الإسلامى كما لم يفده واحد من مهاجميه، فكتب تاريخ كبار الصحابة فى «الشيخان» و«عثمان» و«على وبنوه» وألقى الضوء على الأبطال المجهولين فى تاريخ الإسلام فى «على هامش السيرة» وسافر فى رحلة تاريخية للحج فى عام ١٩٥٥ استقبله فيها وجوه العلماء وأكابر الأسرة السعودية وخطب فيها خطبة مؤثرة عن معنى الحج وزيارة البيت الحرام.. وهو نموذج للمثقف الذى ينفتح على العالم دون أن ينسلخ من ثقافته الأصلية أو يسىء إليها على عكس ما يظن بعض المتطرفين وضيقى الأفق حتى الآن.

أما السبب الثامن الذى يدعو وزارة الثقافة وهيئة الكتاب للاحتفال بذكرى طه حسين فهو أن هذا هو دورها الأساسى وواجبها المهنى الذى تكون مقصرة لو لم تنتبه له وتضطلع به وتسبق الجميع إليه.. ومن حسن الحظ أن جهة تابعة للوزارة هى مشروع النشر فى الهيئة العامة لقصور الثقافة قد تصدى لإصدار ثمانية عشر كتابًا لطه حسين تشكل مجمل أعمالها بأغلفة بديعة وأسعار ميسرة لتسد نقصًا كبيرًا وتستر عيبًا لافتًا.. رغم أن النشر ليس هو النشاط الأساسى لهيئة قصور الثقافة وإنما هو مسئولية جهة أخرى هى الهيئة العامة للكتاب التى تعتبر الناشر الرسمى للدولة.. لكن اللافت أن مشروع النشر فى هيئة قصور الثقافة قد تصدى فى العام الماضى لإصدار سلسلة كتب الفكر اليونانى تزامنًا مع اختيار اليونان ضيف شرف المعرض رغم أنه كان أولى بالهيئة العامة للكتاب أن تصدر هذه الكتب.. وهو نفس ما تكرر هذا العام حين تصدى مشروع النشر فى قصور الثقافة بإمكاناته القليلة ورغم أنه لا يملك مطابع لنشر أعمال طه حسين فسد نقصًا وستر عيبًا وفاز بتقدير عارفى قدر العميد دون ضوضاء أو دعاية ومهرجانات أضواء تقام بالحق حينًا وبالباطل أحيانًا.. ولا يمكن فى هذا الإطار تجاهل مبادرة أهلية محترمة وهى مبادرة د. جمال شيحة العالم الكبير الذى سعى من خلال مؤسسة أهلية يديرها لإطلاق عام طه حسين عبر فعاليات وندوات ومؤتمرات مختلفة بدأها السبت الماضى بالفعل بندوة تحدث فيها أستاذ التاريخ د. محمد عفيفى.. ومن جهتنا فى «الدستور» فإننا نفخر بكل هذا الجهد الذى سبقنا إليه بإطلاق أسبوع للعميد على صفحات «الدستور» عقب الضجة التى صاحبت شائعة نقل مقبرته ويسعدنا أن نواصل الاحتفال طوال هذا العام بمجموعة من الوثائق النادرة عن عميد الأدب العربى فى ذكراه الخمسين.. وفى حب طه فليتنافس المتنافسون.