جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

رحلة عطالله.. عزف على أرغول الحجاوى

وسط أجواء احتفالية يعيشها قطاع كبير من المصريين والعرب المقيمين بالقاهرة بعودة معرض الكتاب.. حلّت فجأة روايح زكريا الحجاوى.. الرجل لا يعرفه الجيل الجديد ولا مترددو السوشيال ميديا.. قصته ليست حاضرة فى سهراتنا وحكاياتنا منذ زمن ليس قليلًا.. يتوحشه البعض فقط عندما تأتى سيرة زوجته المطربة الشعبية الشهيرة خضرة محمد خضر.. ربما يذكره سطر عابر فى كتاب عابر لأحد المضروبين بسيرة التراث الشعبى.. منذ سنوات بعيدة صدر كتاب تذكارى عنه ليوسف الشريف ومن يومها اختفت حواديته.. كيف نتذكره وقد أدمنّا موسيقى المهرجانات؟

نهاية الأسبوع الماضى.. تذكرته.. يبدو الأمر وكأنه صدفة.. لم يذكره أحدهم.. لكن برنامجًا جميلًا لا يمكن تصنيفه سوى بأنه برنامج مصرى معمول على مهل ومزاج أذاعت القناة الأولى فى التليفزيون المصرى اسمه «مصر تغنى» للموهوب أحمد عطالله، خطفنا فى رحلة إلى الجنوب وموسيقاه ومديحه وأذكاره، فهّل علينا الحجاوى، وكان الفتى قرر أن يعيد رحلته لاكتشاف مزاج المصريين مع الغناء بطريقة حديثة ومحترفة. 

تقول الحكايات إن الحجاوى رجل بسيط وغاوى غُنا من حتة بعيدة فى مدن القنال أو على بُعد كام قرية منها فى أوساط الصيادين.. بالتحديد فى قرية المنزلة.. كانت مجرد قرية وقتها.. أحب الكتابة والرسم والموسيقى والصيادين والبلد والسفر.. جاء للقاهرة ليبحث عن نفسه وعنها أيام الاحتلال.. تعرف على المثقفين وأهل العلم والسياسة ومنهم السادات الذى كان مطاردًا.. وقيل إنه ساعده فى التخفى فترة بين الناس الزحمة الذين يحملهم على كتفيه.. ثم امتهن الصحافة.. وعمل مع السادات نفسه عندما أصبح صحفيًا وناشرًا بعد الثورة.. لكن أولاد الحلال أو ربما هى أمور أخرى أغضبت السادات فأبعد الحجاوى.. الذى توارى قليلًا.. حتى قررت مصر أن تبحث عن ذاكرتها الشعبية عام ١٩٥٧، فتذكروه وأعادوه وأسندوا إليه مهمة تكوين أول فرقة غناء شعبى رسمية فى مصر، وخرج الرجل إلى ريفها وقراها بحرى وقبلى يجمع الحكايات والغناوى والآلات والمطربين، لتبدأ رحلة فرقة الفلاحين التى قدمت متقال القناوى وبنات مازن ومحمد طه وأبودراع وفاطمة سرحان وخضرة محمد خضر.. والأهم عشرات الملاحم والحكايات التى تلملم أشلاء إيزيس الباحثة عن شخصيتها فى ذلك الوقت.. ومضى الوقت وراح الحجاوى وفرقته وأغانيه وملاحمه.. وجاء زمن عدوية وكتكوت الأمير واستمر السقوط حتى وصلنا إلى شاكوش وحمو والذى منه.. ونسينا الحجاوى تمامًا.. حتى الخميس الماضى عندما قرر شاب صعيدى يكتب الشعر والرواية ويحترف الصحافة مثل الحجاوى تمامًا أن يستغل الفرصة التى قدمها له التليفزيون ليعيد الرحلة على طريقته.. عامان كاملان والفتى يجوب القرى والنجوع يختار ويُصنف ويقرأ ويسمع حكايات أهلنا.. البداية من الجنوب مع أولاد الرنان الذى كان تلميذًا لأحمد برين سيد المنشدين والمداحين فى حب الرسول.. حالة من الجمال الخالص أطلّت علينا لمدة نصف ساعة مرقت وكأنها ثوانٍ وهى تتلمس جلاليب المضروبين بالذكر والمديح فى قرى الجنوب المصرى.. لم يتفلسف عطالله الذى سمح لضيوفه بأن يكونوا أبطالًا، وهم يستحقون.. لم يغسل الحيطان.. قدم لنا جزءًا من مولد بسيط للشيخ الإدريسى فى قرية الدير.. وحكايات التفقير التى نسميها الذكر فى الحلقة المحمدية.. وبعض طقوس الفرح بالتحطيب أو ممارسة سباق الخيل بالمرماح، وهى ساحة سنوية للفرح والمبارزة تتكرر فى قرى مصرية كثيرة.. صورة مبهرة بإمكانات بسيطة قدمت لنا غناء مصر الحقيقى وسحقت أكذوبة المهرجانات.. من أول حلقة.. الرحلة التى تمتد من القنال إلى مطروح والصعيد لا تزال فى أولها.. وربما نحتاج إلى رحلات غيرها.. لكنها على كل حال تؤكد مجددًا أننا شعب لا يتوقف عن الإبداع والبناء والغناء.. شعب يحب الحياة ويغازلها بكل تفاصيلها.. حياته التى لا تشبه أى حياة أخرى فى أى بلد فى العالم.. هذا الشعب هو كنزنا العظيم.. ونحن نحتاج فى كل وقت إلى من هم مثل الحجاوى وأحمد عطالله لاستعادة ذاكرتنا وروحنا حتى نستطيع أن نعيش ونبنى ونحلم ونغنى.