جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

المكتبات العامة.. سلاح مصر المهمل

مكتبة مصر الجديدة
مكتبة مصر الجديدة

لا يدرك الكثيرون أهمية المكتبات العامة فى حياة الشعوب، وفى مصر فإن لدينا ثلاثين ألف مكتبة عامة يمكن أن تتحول إلى بؤر إشعاع حضارى إذا أدركت الدولة والشعب قيمتها، ففى الوقت الذى نشكو فيه أن عدد قصور الثقافة لا يزيد على ستمائة قصر فى مصر كلها لا ننتبه أننا نملك ثلاثين ألف مكتبة عامة يمكن أن تؤدى أدوارًا لا تقل أهمية عن أدوار قصور الثقافة إن لم تزد عليها فى أنها تحتوى على ثروة من الكتب.. أى مكتبة عامة يمكن أن تستضيف كل الأنشطة التى تستضيفها قصور الثقافة من تدريب مسرحى ومناقشات وندوات وورش لتعليم الفنون. 

من جهة أخرى وعلى مستوى الشعب لا يدرك الكثير من أولياء الأمور الدور الذى يمكن أن تلعبه المكتبة العامة فى تنمية قدرات أبنائهم وتأهيلهم لخوض سباق الحياة وحمايتهم من أشكال الانحراف المختلفة التى يتعرض لها الأبناء وقت خروجهم من طور الطفولة إلى طور المراهقة.. وفى الوقت الذى لا يتردد فيه الآباء من الطبقة الوسطى المصرية فى اصطحاب أبنائهم إلى مطاعم الوجبات السريعة والمولات التجارية تجدهم يتكاسلون جدًا عن اصطحابهم لمكتبة عامة مقامة فى قصر بديع على نيل القاهرة.. رغم أن زيارة المول تعلم الأبناء تربية «كروشهم» وزيارة المكتبة تعلمهم تربية عقولهم.. ورغم أن زيارة المول تكلف الأب المئات وزيارة المكتبة لا تكلفه شيئًا، ورغم أن زيارة المول تنتج مواطنًا يجد اللذة فى الاستهلاك وزيارة المكتبة تنتج مواطنًا يجد اللذة فى المعرفة.. ولكن الحقيقة أننا جميعًا ندفع ثمن عقود تعمد فيها الإعلام تجاهل قيم الثقافة والإساءة لها والسخرية منها.. وكانت النتيجة أننا فقدنا أحد أصول القوة المصرية وكانت النتيجة أيضًا أن التطرف والجهل أصبحا هما القاعدة، والمعرفة هى الاستثناء.. فى السطور التالية تعريف بأهم عشر مكتبات فى مدن مصر الكبرى مساهمة فى إلقاء الضوء على ثروتنا التى نسيناها. 

                                                                                                         وائل لطفي

مكتبة مصر العامة

يطلق الاسم على سلسلة مكتبات عامة فى ١٥ مدينة مصرية.. والمكتبة الأم موجودة فى الجيزة على بعد قليل من منزل الرئيس السادات رحمه الله.. والمكتبة مقامة فى فيلا ذات طراز معمارى خاص كانت مخصصة فى الستينيات لاستخدام بعض الشخصيات السياسية ثم أصبحت خالية لفترة قبل أن تخصص لاستضافة مكتبة مصر العامة.. المكتبة تم افتتاحها عام ١٩٩٥ نتيجة تعاون بين وزارة الثقافة وجهة مانحة ألمانيا مع وجود دور لجمعية الرعاية المتكاملة.. مبنى المكتبة يقع فى ثلاثة طوابق على مساحة ستمائة متر وتحيط به حديقة كبيرة مساحتها ٢٠٠٠ متر على النيل.. المكتبة توفر طرقًا مختلفة للمعرفة مثل الكتب والمجلات وأشرطة الصوت والفيديو، وتحاول فتح قنوات للجمهور لممارسة الأنشطة الثقافية والتسلية وهى تتميز بنظم فهرسة حديثة وعالمية.. وقد افتتحت المكتبة فروعًا مختلفة لها فى أحياء مختلفة بالقاهرة مثل الزيتون والزاوية الحمراء وفى محافظات نائية مثل الوادى الجديد وفى مدن مثل بورسعيد ودمياط والغردقة والأقصر ودمنهور والإسماعيلية والزقازيق وبنها والمنيا.. المكتبة يرأسها مصرى بارز وهو السفير عبدالرءوف الريدى وهو دبلوماسى مخضرم يبلغ هذا العام التسعين من عمره وربما كان فى حاجة لمساعدين من جيل الشباب لدمج المكتبة فى الفعاليات الشبابية المختلفة.. كما أن المكتبة وما تتبعها من مكتبات فى حاجة لرعاية رئاسية وربما لقيادة على علاقة بالحركة الثقافية العالمية مما يساعد فى تمويلها عبر المنظمات الثقافية المعنية.. من جهة أخرى مطلوب تغيير فلسفة عمل المكتبة من الترحيب بمن يذهب لها إلى اجتذاب من لا يذهب لها ولا يعرفها من الأساس.. وأظن أن هذا يتم بمساعدة وسائل الإعلام المختلفة والجماهيرية وعبر فريق تسويق شبابى يستطيع تسويق المكتبة على السوشيال ميديا.

مكتبة القاهرة الكبرى

لا ينافس مكتبة مصر فى الأناقة والموقع سوى مكتبة القاهرة الكبرى التى تحتل قصر الأميرة سميحة حسين على نيل الزمالك، والذى ظلت تقيم فيه حتى وفاتها فى ١٩٨٤ بعد أن أوصت بأن يخصص للأغراض الثقافية.. وقد ظل خاليًا عشر سنوات تقريبًا. 

حتى تقرر تحويله إلى مكتبة عامة على يد وزير الثقافة فاروق حسنى الذى أصدر قرارًا بتعيين الكاتب الكبير كامل زهيرى رئيسًا للمكتبة فى منتصف التسعينيات.. القصر الذى يستضيف المكتبة يعود تاريخ بنائه إلى عام ١٩٠٢ حين بناه قطاوى باشا، رجل المال المصرى، ثم اشترته منه الأميرة سميحة حسين ابنة السلطان حسين كامل.

وتعود فكرة المكتبة إلى استلهام نمط مكتبة بلدية باريس التى تضم كتبًا عن تاريخ المدينة نفسها وجغرافيتها أكثر من أى شىء آخر.. والمكتبة تحتوى على أكثر من ٢٠٠ ألف مجلد ومجموعة من الخرائط ترجع للقرن الخامس الميلادى وتضم كتبًا فى شتى مجالات المعرفة.. المكتبة يرأسها منذ فترة الكاتب خالد الخميسى وهى مثل مكتبة مصر العامة تبدو بعيدة عن الاشتباك مع الأحداث الثقافية باستثناء استضافتها بعض حفلات توقيع الكتب أو مناقشتها.

مكتبة الإسكندرية

تستمد المكتبة قيمتها من التاريخ القديم لمكتبة الإسكندرية فى العصر الهلينى، حيث كانت المكتبة بمثابة جامعة لعلوم الحكمة والفلسفة وعاش بين جنباتها كبار فلاسفة الإغريق المتمصرين وتراجع دورها بعد قتل الفيلسوفة «هيباتيا» وتوالى الأحداث حتى حريق المكتبة.. وقد تم إحياء المكتبة بالتعاون مع الأمم المتحدة وافتتاحها فى عام ٢٠٠٢، وهى تضم ما يقرب من ٢ مليون كتاب بمختلف لغات العالم، كثير منها عبارة عن منح من مؤسسات أكاديمية عالمية.. كما أنها تحتوى على أرشيف على الإنترنت يضم ١٠بلايين صفحة، فضلًا عن ألف فيلم مؤرشف وألفى ساعة من البث التليفزيونى المصرى والأمريكى و١٠٠ تيرابايت من المعلومات مخزنة على ٢٠٠ جهاز كمبيوتر، فضلًا عن نصف مليون كتاب باللغة الفرنسية هدية من فرنسا جعلت من المكتبة ثانى مكتبة فرانكفونية فى العالم بعد مكتبة نيويورك.. ولكن الانطباع العام عن المكتبة منذ سنوات أن هذه الإمكانات غير مستغلة، وأن أنشطة المكتبة مقتصرة على ضيوف مكررين من النخب يذهبون لمؤتمرات متكررة ويقولون كلامًا مكررًا وسط ظروف إقامة مميزة تستهلك جزءًا كبيرًا من ميزانية المكتبة.. لكن الأكيد أن تأثير المكتبة لم يمتد للمجتمع المحلى السكندرى أو للشباب السكندرى، فضلًا عن الشباب المصرى كله.. حيث هناك دائمًا ارتباك فى فهم دور المكتبة.. فهى فى البداية كانت مؤسسة عالمية بإرادة مصرية.. ثم اضطربت أحوالها بعد قيام ثورة يناير ٢٠١١ ثم بدا أنها تطمح لمنافسة وزارة الثقافة فى دورها بحكم أن إمكاناتها المادية أفضل.. ثم أثبتت الأيام أنها فشلت فشلًا ذريعًا فى القيام بمهمتها الأساسية، فضلًا عن منافسة وزارة الثقافة بسبب عدة عوامل أهمها استمرار سياسة المؤتمرات.. ودعوة المثقفين القاهريين للإسكندرية ليقيموا فى الفنادق المجاورة للمكتبة ويكرروا نفس الكلام فى كل المؤتمرات.. ثم يعودون للمكتبة مرة أخرى.. فى حين أن دور المكتبة هو الانفتاح على الشارع السكندرى.. ومقاومة المد المتطرف الذى استهدف الإسكندرية منذ السبعينيات لتغيير طبيعتها.. والانفتاح على جامعة الإسكندرية المجاورة للمكتبة وإتاحة الإمكانات الكبيرة المتاحة للمكتبة لطلبة المدارس وفق بروتوكول تعاون مع وزارة التربية والتعليم يجعل لكل مدرسة الحق فى استخدام المواد الفيلمية والمعلومات دون الاضطرار لزيارة مقر المكتبة «عبر شبكة معلوماتية».

مكتبة المعادى العامة

من مراكز الإشعاع الثقافى المطلوب مزيد من التفعيل لدورها.. تتميز بوجود أنشطة متنوعة للأطفال والشباب وتنظم دورات لتعليم الرسم واللغات وبعض أنواع الرقص الراقى، بالإضافة إلى تنظيم رحلات للأماكن التاريخية.. وربما تساعد طبيعة الحى والسكان فى الإقبال على المكتبة وأنشطتها المختلفة.. خاصة أنها تقدم مجموعة كبيرة من الخدمات المكتبية والمعلوماتية ودورات الكمبيوتر واللغات ونادى سينما، والمكتبة مرت بمراحل متعددة، حيث افتتحت كمكتبة للطفل فى ١٩٩١.. ثم أعيد افتتاحها فى ٢٠٠٢، وهى مثل باقى المكتبات فى حاجة إلى رعاية رفيعة المستوى واهتمام خاص يسمح لها ولغيرها بمزيد من تنوير المجتمع.

مكتبة مصر الجديدة

تم وضع حجر أساس المكتبة فى ١٩٤٥، وشهدت مراحل مختلفة، تقع فى مبنى معمارى مميز للغاية مثلها مثل معظم المكتبات العامة فى القاهرة، وتنظم دورات تدريبية وورشًا للتدريب على الفنون المختلفة، وبها مسرح كبير ومركز للدورات التدريبية ولها صفحة نشطة على فيسبوك.. وهى تنظم ندوات فى أمور تبدو بعيدة عن الثقافة بعض الشىء وإن كانت تسهم فى نشر الوعى التجارى.. فقد نظمت مثلًا ندوة للتعريف بـ«الفرنشايز» بالتنسيق مع مجلس الوزراء.. والفرنشايز هو كيفية الحصول على توكيل من ماركة تجارية أجنبية وفتح فرع لها فى مصر.. وهى قضية مهمة بكل تأكيد لكنها ذات طابع اقتصادى وخدمى بعيد عن الشأن الثقافى المباشر.. ولكن من الأمور الإيجابية أن المكتبة نظمت معرض فن تشكيلى لأبطال قادرون باختلاف وورشة لفن السايكودراما أو العلاج النفسى بالفن.. وهى تستضيف أحيانًا ندوات مناقشة الكتب بناء على طلب المؤلفين أو دور النشر.. والأكيد أن المكتبة بؤرة إشعاع ثقافى فى حى مصر الجديدة نطالب بتفعيل دورها والسعى لمزيد من التواصل مع الشارع والتأثير فيه. 

هل تؤسس الدولة وزارة للمكتبات؟

النظرة السريعة لواقع المكتبات العامة فى مصر يؤكد أنها هيئات مستقلة.. بعضها تابع لجمعيات أهلية.. وبعضها هيئة مستقلة فى حد ذاتها، مثل مكتبة الإسكندرية ومكتبة مصر العامة التى هى كيان تتبعه كيانات أخرى.. وبعضها تابع لوزارة الثقافة مثل مكتبة القاهرة الكبرى التى لا يتحدث رئيسها للصحف ولا يتواصل مع وسائل الإعلام ولا ينظم ندوات ثقافية بمبادرة من المكتبة.. ومع كل الاحترام لجهود المسئولين عن المكتبات العامة فى مصر.. فإن هذه المكتبات تبدو وكأنها سلاح صدئ أو مهمل لا تستخدمه الدولة فى معركتها لتحديث المجتمع وتوعيته ولا يستفيد منها المواطن العادى لأنها لا تصل إليه ولا يعرف عنها الكثير.. وهى من حيث انتشارها وإمكاناتها يمكن أن تلعب دورًا مهمًا للغاية إلى جانب قصور الثقافة.. فالدولة تتكلف الملايين لإعادة تأهيل قصور ثقافة مثل قصر ثقافة سيدى جابر وغيره.. فى حين أن مبانى المكتبات مؤهلة بالفعل لأنها أحدث من حيث العمر وتحظى بإمكانات أكبر، وبالتالى المفروض أن تدخل فى خدمة المواطن بأقصى قوة.. وأن تتحول لمراكز إشعاع لا تنطفئ فيها الأنوار ليلًا ولا تتوقف فيها الحركة نهارًا.. وقد لفت نظرى أن تنسيقية شباب الأحزاب سعت للاستماع لرئيس هيئة الثقافة الجماهيرية حول أنشطة الهيئة.. لكنها لم تسع للاستماع لرؤساء المكتبات العامة ولا تحريضهم على تفعيل أدوار المكتبات.. والخوف أن يكون الانطباع العام لدى المثقفين أن منصب رئيس مكتبة عامة هو منصب شرفى الهدف منه تكريم بعض الشخصيات التى تستحق التكريم.. لكن الحقيقة أن حالة الوعى فى الشارع المصرى تستدعى تعيين مقاتلين فى مناصب رؤساء المكتبات وليس شخصيات كبيرة يراد تكريمها.. المكتبات قضية مهمة سنواصل الحديث فيها بإذن الله فى مقبل الأيام.