جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

المبادرة بترسيخ صورة الأمومة الحرة

قرأتُ خبرًا منذ أيام يفيد بأن مسابقة الأمهات المثاليات المقامة كل عام يجرى الآن الاستعداد لها وفتح باب الترشيح للأمهات فى كافة أنحاء مصر.
إن معايير الأمهات المثاليات فى حاجة لإعادة تفكير يجعلها متناغمة مع التغيرات فى وضع المرأة ومسئوليات الأم، وفى انسجام مع متطلبات المواطنة والدولة المدنية، ومتوافقة مع ما أثاره الكاتب والإعلامى د. محمد الباز، فى برنامجه "آخر النهار"، عن مصطلح فقه الدولة.
فقه الدولة مصطلح يمكن أن يختصر مشوارًا حضاريًا وثقافيًا وأخلاقيًا طويلًا فى كافة المجالات.
وفقه الدولة أراه الطريق المختصر لتجديد الخطاب الدينى ويقربنا مما نتمناه للأم المصرية وأسرتها، حاضرًا ومستقبلًا.
فقه الدولة يضمن للدولة ألا تأخذ بأى فتوى دينية أو تفسر النصوص الدينية بشكل يناقض اختياراتها فى فصل الدين عن المجتمع والدولة وعن تطبيق العدالة بين كل المواطنات والمواطنين ومسايرة احتياجات العصر.

من هذا المنطلق، فإن إعادة التفكير فى معايير اختيار الأمهات المثاليات شىء مُلحّ وضرورى.
إن معايير اختيار الأمهات المثالية ربما أصابها الصدأ من عدم التحرك مع الزمن وأصبحت نوعًا من الشعارات المحفوظة، لا تضيف شيئًا يرتقى بحال المرأة، ويرفع من معاناة الأم، ويحقق التوازن فى علاقتها بالزوج أو الأب، لا أدرى مَنْ يضع هذه المعايير؟ أهى وزارة التضامن الاجتماعى، أم المؤسسات الثقافية، أم الإجماع الشعبى السلفى الذى اخترق كل مؤسسات الدولة؟

أنا لست ضد تكريم الأمهات، و"الأم المثالية"، ولست ضد النساء عامة فأنا أؤمن مثلما جبران خليل جبران (6 يناير 1883- 10 أبريل 1931): "على أكتاف النساء قامت الحضارات".
وأنا أعتقد أن كل شىء فى الحياة عبثى وغير مجدٍ، إلا "الأم"، وهناك فلاسفة وأدباء وعلماء لهم مكانة مرموقة فى مجالاتهم كتبوا عن فضل الأم، وحبها الاستثنائى غير المشروط، وحنانها الفياض، عليه يستيقظ البيت كله بهجة وفرحًا، وحضن الأمهات أكثر الأماكن راحة وبعثًا للطمأنينة والأمان والتوازن النفسى.
وعند كل إنسان ربما تصغر الحياة ويتضاءل العالم كله، إلا أن الأم هى فقط التى تكون وتبقى كبيرة، وإذا خُيّر بين العدل والحرية والحق، وبين أمه، سيختار أمه رغم إعلائه قيمة العدل والحرية والحق، وكل رجل ناجح إذا سُئل عن سبب نجاحه، قال شيئًا مثل: "أنا صنيعة أمى"، أو "هذا من عرق أمى" أو "من خير أمى" أو "لولا أمى لما سمعتم عنى" أو "أمى هى التى أنقذتنى" أو "أمى خط أحمر" أو "لا أسمح لأحد أن يؤذى أمى"، إلى آخر هذه المعانى التى تشهد على أفضال الأم ورقى عواطفها التى لا تتبدل تجاه الأولاد والبنات، وما تتكبده من تضحيات فى سبيل انتشالهم وتعليمهم وإعطائهم الأمان.

من منطلق إحساسى بعظمة الأمهات أطالب بتغيير النظرة إلى الأمومة المثالية، إذا تغيرت مقاييس الأمهات المثاليات فسوف نجد أن القائمة بالفعل سوف تطول، وأننا سنحقق ما نرجوه من إعطاء الكرامة، والإنسانية الكاملة، لنصف المجتمع، ونصف الحياة. 

ليس كافيًا أن نزهو بالتضحية التى تفعلها الأم دون مطالبة من أحد، ولكننا يجب أن نقوى أيضًا صورة المرأة التى لا تفعل إلا التضحية على حساب ذاتها، وكرامتها وإنسانيتها وحقوقها وحرياتها الخاصة والعامة.
إن "تربية الأبناء.. عطاء بلا حدود.. تضحية لا نهائية.. إنكار الذات.. حفاظ على تماسك الأسرة" هذه معايير حقيقية، لكننا يجب أيضًا تقديم صورة الأم التى رفضت الخنوع والخضوع وعدم احترام كيانها، لا بد أن نمجد الأم التى لم تنسَ نفسها وهى تنقذ الأطفال من أب سيئ، وقوانين الدولة، والعرف، وحقوق البشر. 

إن "العطاء بلا حدود" معناه مباشرة أن هناك طرفًا أو أطرافًا "تأخذ بلا حدود"، وهذا غير مقبول.
"العطاء دون حدود" معناه أن تتقبل الأم راضية بقضاء الزوج الأنانى، والأب المتهرب من مسئولياته، مستخدما سُلطته المطلقة التى يعطيها له الشرع، والقانون، والعرف. 
تنتظر الأمهات المقهورات على أبواب المحاكم، و«تتبهدل» وتدفع دم قلبها وصحتها وسنوات عمرها من أجل أن تحظى بكلمة عدل واحدة، ضد الأب الخائن أو المزواج أو المتهرب من نسب أطفاله أو الخاطف أطفاله لينتقم من الأم المطلقة أو التى خلعته، والمزور بياناته الشخصية حتى لا يدفع النفقة.
تضطر الأمهات إلى العمل بأدنى أجر، أو حتى العمل خادمات فى البيوت، لكى يحفظن كرامتهن، وحقوقهن المهدورة من آباء لا يهتمون إلا بنزواتهم الجنسية العابرة أو غير العابرة، ولكى يَعُلنّ أطفالهن وتحميهم من التشرد، والجوع، والبهدلة، وحتى يحافظن على الأسرة التى يبيعها الأب فى لحظة.

الحفاظ على الأسرة مهمة الأم وحدها، ومسئولية الأم وحدها، تقوم بها لأن الأب ليس من اهتماماته الحفاظ على الأسرة على الإطلاق، هى تحمى الأسرة، وهو يدمرها فى لحظة، ينطق بها بالطلاق الشفوى، أو غير الشفوى، حتى لو كان فى أنصاص الليالى، وليس هناك ملجأ للأم هى وأطفاله.. هى تفعل المستحيل للحفاظ على الأسرة، وهو لا يفعل الممكن للحفاظ على مصير  الأسرة.. أى منطق هذا؟ وأى عدل هذا؟ وأى أخلاق هذه؟.
إنها الأخلاق الذكورية، التى ترى المرأة ممسحة لخطايا وأخطاء وغطرسة وتسلط وعنجهية وأمراض وعُقد وإحباط الذكور داخل الأسرة، وتعتبر المرأة جارية جاهزة عند الطلب لأوامر السيد، الذى لا يقبل إلا كلمة "حاضر يا سيدى أمرك".. وهى فى قانون الأحوال الشخصية "ملكية خاصة"، يفعل الزوج بها ما يريد، متى يريد، كيفما يريد. وإن نطقت، وتمردت، وسألت عن حق إنسانى واحد، توصف «بالنشوز والجنون وأحيانا بالكفر».. نعم بالكفر.. أليس الرجل خليفة الله فى الأرض وبالتالى عدم الطاعة كفر واضح، لا بد من عقابه بأشد الطرق؟

كل معايير الأم المثالية، مع الأسف، ترسخ «المقهورة» للأمومة ولا ترسخ الأمومة الحرة، الأمهات كلهن يدفعن ثمن الأبوة المتسلطة بالقانون، والشرع، والعرف، وغياب العدالة بين الأم والأب، والاستهانة بكرامة المرأة.
ليس هناك معيار واحد يعدل الميزان ويرحم الأمهات ويحترم الأطفال، المهم أن تربى، وتعلم، وتضحى، وتتحمل الذل، والمهانة، من مخلوق ابن تسعة زيها، لا يزيد عنها فى شىء، بل هى الأفضل إنسانيًا وخلقيًا وإحساسًا بالمسئولية.

لا أحد يمس جذور معاناة الأمهات المقهورات سابقًا، المثاليات حاليًا، ألا وهى السلطات المطلقة للأزواج، والآباء، شرعيًا وقانونيًا. وتكفى نظرة واحدة على أبواب المحاكم لنرى طوابير الأمهات الواقفات منذ سنوات ينتظرن الحكم بالعدل والمنطق والرحمة، دون جدوى. إلى أن تُكسر هذه السُلطات المطلقة، سيكون الاحتفال بالأمهات المثاليات مجرد روتين سنوى، اعتدنا عليه، بينما هناك الكثير لكى نغيره.
إن "الأم المثالية" بكل بساطة هى منْ تهين نفسها وتتحمل فوق طاقتها الإنسانية والعصبية والنفسية لتتحمل "الأب غير المثالى"، لتربى وتحمى أولادها وبناتها، فقد بدأت البداية الخاطئة، وارتضت كما تريدها الثقافة الموروثة أن تكون وتبقى "معولة" من الزوج تطيعه طاعة الجارية أو المملوكة للسيد المالك.
تتحمل "المرأة المثالية" كل العيوب الذكورية الموروثة من أجل ألا تفقد فلذات أكبادها تفديهم بروحها وكيانها.
وبعد كل هذا نقول إن اسم "الأم" عار لا يحمله الابن أو الابنة، والشرف هو أن يحمل كل منهما اسم الأب الذى بهدل الأم ومسح بكرامتها الأرض، ولم يهتم بحاضر ومستقبل أولاده وبناته، ما هذا العوج والاختلال والتناقض والظلم والقهر والعنصرية الذكورية الفجة؟
أنا أعلم أنه منذ الآن يتم تسليم الترشيحات واختيار الأمهات المثاليات، لا يليق ونحن فى عام 2023 أن تظل فى الأذهان هذه الصورة التقليدية عن عطاء الأم، وأن نعتبر "التضحية بلا حدود وإنكار الذات" من أجل تربية وتعليم الأولاد والبنات هى محور الأم المثالية.
لا بد أن تدخل فى معايير الأم المثالية بداية اختيار الزوج والتعامل معه على أساس عادل، ورفض التحقير والمهانة من الأب، وتشبث الأم بكرامتها وكل إمكانياتها وقدراتها على أن تكون كاملة الأهلية والولاية.
وكما نقدر الأمومة التى تقبل، لا بد من تقدير الأمومة التى ترفض، بهذا نضمن جيلا مختلفًا فى النظرة إلى الأم وإلى الأب.

من بستان قصائدى 
مطاردة 
منذ أن كنت فى رحم أمى 
وأنا أشعر بأن أشخاصا يمشون ورائى 
يتربصون بحركة خطواتى  
يتلصصون على نظراتى  
يراقبون لمنْ ابتساماتى 
يسجلون رنات ضحكاتى 
أتمهل.. يمهلون 
أسرع.. يسرعون 
عند كل زاوية يختبئون 
لاهثة أبحث عن مأوى أقضى ليلتى 
يعرفون كل شىء إلا عنوان إقامتى 
أنا مطاردة 
منذ أن كنت فى رحم أمى 
من كل الأسلحة  مجردة    
أحن إلى بيت دافئ
يمنحنى الهدوء والأمان والسكن 
لكننى وباختيارى هاربة مشردة.