جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

بيتهوفن كرة القدم وروبن هود

قبل افتتاح كأس العالم الأخيرة بأيام، تدهورت الحالة الصحية لنجم كرة القدم البرازيلى العظيم بيليه، وقالت إحدى بناته لوسائل الإعلام إنه بخير ولن يفارق الدنيا إلا بعد رجوع البرازيل بالكأس من قطر، رحل الجوهرة السوداء بعد فوز الأرجنتين «الغريم التقليدى» بالبطولة بعشرة أيام، عن ٨٢ عامًا، واحتل خبر رحيله المرتبة الأولى إعلاميًا، ولمَ لا؟، وهو اللاعب الأسطورى الذى فاز مع منتخب بلاده بثلاث كئوس عالم، وتجاوزت نجوميته زمنه، ويعرفه الصغار الذين لم يشاهدوه فى الملاعب، كرة القدم تصنع أساطيرها، وتُخلّد من أخلصوا لها، رئيس البرازيل فى مقدمة المشيعين، رئيس «فيفا» هناك وقال إنه سيطلب من كل دول العالم إطلاق اسمه على ملعب فى كل بلد.. 

نجوم زماننا كتبوا فى رحيله كأنه واحد من أهلهم، أى مجد هذا يحققه لاعب ترك الملاعب منذ أكثر من نصف قرن؟، عاش نجمًا فى كل مراحل حياته وعُيّن وزيرًا للرياضة فى بلده، طاردته الحكايات التى لا تعجب عشاق اللعبة، ولكنه ظل وجهًا محببًا يطل فى المناسبات الرياضية وتتلقف وسائل الإعلام تصريحاته باحترام شديد، رغم أن توقعاته دائمًا عن الفرق المرشحة للفوز للبطولات لم تكن موفقة، ومع رحيله تجدد الجدل التاريخى أيهما أفضل: هو أم الساحر الأرجنتينى مارادونا؟، وهو جدل موجود فى العالم كله وليس فى بلد محدد.. فى مطلع الألفية أجرى «فيفا» استفتاء عن أفضل لاعب فى القرن العشرين، فاز بيليه بتصويت المدربين والصحفيين، وفاز مارادونا بتصويت الجمهور، فمنحهما «فيفا» اللقب معًا، ورغم التنافس الشديد بينهما على المجد، إلا أن كل واحد منهما يعرف قدر الآخر، الفارق بينهما عشرون عامًا، ولم تجمعهما الملاعب، ومع هذا تم وضعهما فى مقارنة دائمة، التقيا عام ٢٠٠٥ فى برنامج تليفزيونى كان مارادونا يقدمه لإحدى القنوات الأرجنتينية، فى هذا اللقاء لعبا الكرة برأسيهما فى الاستديو، وعزف بيليه على الجيتار وغنى: «مَنْ أنا يا مارادونا؟ مَنْ أنت؟ تريد أن تكون أنا، وأريد أن أكون أنت»، مارادونا كان يقول عندما يسأله أحدهم: أنت الأفضل أم بيليه؟: «بيليه هو الأعظم، أما أنا فلاعب عادى»، ولكن فى السنوات الأخيرة التى اشتغل فيها مارادونا مدربًا لنادى الوصل الإماراتى استفزه تصريح للبرازيلى العظيم قال فيه إنه ولد لكى يلعب كرة القدم كما ولد بيتهوفن ليكون موسيقيًا، فرد دييجو: «لا أعلم من أين يأتى بيليه بهذه التصريحات المضحكة؟!»، وأضاف ساخرًا: «إذا كان بيليه بيتهوفن كرة القدم، فأنا الملك جورج وروبن هود وملك كرة القدم». 

بعد رحيل مارادونا كتب بيليه أنه يتمنى أن يلعب معه الكرة فى السماء، رحل الجوهرة السوداء هو الآخر، واختار أن يُدفن فى الطابق التاسع فى المقبرة العمودية، ويقال إنه اختار هذا الطابق لأن والده، لاعب الكرة، كان يحمل القميص رقم ٩، أم بيليه لم تعرف أنه رحل، عمرها مائة عام، احتشد الآلاف من المشيعين لوداع الجثمان المسجى فى نعش بملعب ناديه السابق سانتوس فى ولاية ساو باولو، والجدل لم يتوقف: مَنْ من الراحلين العظيمين هو الأفضل؟، بيليه لا شك قد يكون الأفضل بمعايير الانضباط والبطولات والأهداف، ولكن مارادونا بموهبته ونزقه وانحيازه السياسى احتل مساحة فيها من الشعر والموسيقى والدراما أعرض من التى احتلها بيليه.. مارادونا يشبه الأحلام الكبيرة التى يتم كسرها مع سبق الإصرار والترصد، حضوره كان يتجاوز فكرة لعب الكرة، كان عنوانًا لشىء أكبر فى العالم الثالث، له علاقة بالفرح المنتظر، والغضب المحبب، لم يتعرض لاعب لما تعرض له، من مافيا، من فيفا، من الأمريكان، من عبء الأضواء المسلطة عليه، بيليه اختاره الصحفيون والمدربون، ومارادونا اختاره الجمهور.. والاثنان رغم فارق السن بينهما.. هما من أساطير أيامنا، وغالبًا يلعبان معًا الآن.