«من تراث الأزهر».. محمد المدنى يستعرض نظام مواجهة الاحتكار ورفع الأسعار في الإسلام
استعرضت مجلة الأزهر الشهرية التابعة لمجمع البحوث الإسلامية، في عددها الصادر يناير 2023، ملفًا تحت عنوان "الممارسات الاحتكارية المعاصرة بين الشريعة والقانون"، وشمل الملف عددًا من المقالات السابقة لإعلام الأزهر الشريف من تراث الأزهر الشريف.
وتحت عنوان "جانب من النظام الاقتصادي في الشريعة الإسلامية- الاحتكار والتسعير"، نشرت مجلة الأزهر مقالًا للعالم والمفكر الإسلامي الشيخ محمد محمد المدني، والذي جاء كالتالي:
يعاني الناس في هذه الأيام كثيرًا من المتاعب بسبب ارتفاع موجة الغلاء، واستغلال التجار حاجتهم الملحة، طمعًا في الربح الكثير، وجمع الثروات الطائلة على حساب الشعب، وتعمل الحكومات جهد طاقتها على إصلاح هذه الحال السيئة، التي من شأنها أن تشيع في الناس القلق والاضطراب، وأن تخلّ بما ينبغي أن يسودهم من الطمأنينة والهدوء؛ ليتمكنوا من التفرغ لأداء أعمالهم والقيام بواجباتهم في يسر وتناسق واطراد، وهي لذلك تحارب الاحتكار، وتسعر البضائع، وتتدخل حتى في تقدير القيمة الإيجارية للمساكن والحوانيت، إلى غير ذلك من وسائل متنوعة، تفرضها لمصلحة الشعب، باسم الهيمنة عليه والرعاية لشأنه، اللذين هما أساس الولاية العامة.
وقد يقوّي هذا الاعتبارَ ما جاء في الإسلام من إقرار القسامة، والدّية في جملتها، وإقرار بعض أعمال الحج، وبعض أنواع الزواج والطلاق وغيرها، فإنّ هذه كلها بلا ريب تعتبر من صميم الفقه ولبابه؛ كما يقويه أيضًا ما جرى به الاستعمال فيما يطلق على القوانين في القديم والحديث، من نحو قولهم: الفقه الروماني، والفقه الدستوري، والفقه القانوني، وما إليها، في حين أن هذه جميعها بعيدة عن مسمى الفقه الإسلامي، وعن استقائه من مصادره المعروفة.
ولا شك أنّ ما نُقل عن العرب في جاهليتهم من الأنظمة والضوابط- مهما كان شأنه- لا يخرج في ذاته أن يكون نوعًا من تلك الأنواع التي أوردناها في الاعتبار الثالث، وأمرًا من تلك الأمور التي سقناها تأييدًا له وتدليلًا عليه، وإذًا، فلا ضير بعد هذا على من يقول بوجود فقه عند العرب قبل الإسلام؟
وقد يظنّ أن هذه الوسائل التي تلجأ إليها الحكومات في هذا الشأن هي وسائل مبتكرة تفتقت عنها أفكار أهل النظم الاقتصادية الحديثة، وأخذتها عنهم الحكومات، وهي في الواقع من النظم التي جاء بها الإسلام منذ عهده الأول، وتكلم فيها الفقهاء، ووضعت بينهم موضع الدراسة والبحث حتى لم يبقَ في شأنها لمن جاء بعدهم جديد، ولا احتمال لمزيد.
وهأنذا أضع بين أيديكم «برنامج الإسلام» في معالجة هذا الشأن من نواحيه المختلفة؛ لِتَرَوْا كيف تشتمل هذه الشريعة الغرّاء على الحلول الإيجابية الفعالة لمشكلات الحياة.
الأصل في المعاملات والتصرفات هو أن كل إنسان حرّ فيما يملك، له حق التصرف في ماله على النحو الذي يرى أنه يحقق مصلحته، ويتفرع على هذا الأصل «حرية التجارة»، فللتاجر أن يبتغي الكسب الحلال من أي وجه، وأن يسلك إليه ما شاء من السبل، ولكن هذا كله إنما يكون حسنًا ومتفقًا مع خطة الإصلاح العامة إذا كانت أمور الناس تجري رخاء، فلا حرب، ولا مجاعة، ولا اضطراب، أما إذا حدث شيء من ذلك فإن الرأي والحزم أن يتدخل أولو الأمر فيحدوا من حرية الفرد في سبيل مصلحة المجموع.
- كيف عالجت الشريعة الاحتكار وإغلاء الأسعار؟
ولما كان أهم ما يسبب الاضطراب في الأسواق، ويحمّل الناس في الظروف الطارئة ألوان العناء، هو الاحتكار وإغلاء الأسعار، عالجتهما الشريعة الإسلامية علاجًا ناجعًا من شأنه أن يقضي عليهما، أو يخفف إلى حد بعيد من ضررهما، وإليكم البيان:
1 - الاحتكار
عن أبي هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله « مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً، يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ خَاطِئٌ». والحكرة: حبس السلع عن البيع.
وعن عمر- رضى الله عنه- قال: سمعت النبي يقول: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ، ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ».
وعن معقل بن يسار- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله « مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ( أي بمكان عظيم منها).
فهذه أحاديث ثلاثة، يبين أوّلها أنّ الاحتكار جريمة وذلك هو ما يعبرون عنه الآن بالتكييف القانوني للفعل، إذ يقول عليه الصلاة والسلام عن المحتكر: إنه «خاطئ»، وفي الحديث الثاني يذكر أنّ الله يعجل بعقوبة المحتكر في الدنيا؛ إذ يبشره «بالجذام» و«الإفلاس»، سواء أكان المراد بهما الجذام والإفلاس الحقيقيين، أو جُعلا رمزًا لنوعين من العذاب المعنوي يصاب بهما المحتكر، أما الحديث الثالث فيذكر عقوبة المحتكر في الآخرة، وهي ليست النار فحسب، وإنما «مقعد عظيم منها» أعده الله له وجعل ذلك «حقًّا عليه» جل جلاله.
بهذا استوفت المسألة جانب غرس الوازع الديني، ومن ذا الذي يرضى لنفسه أن يكون في نظر الشارع خاطئًا، معرضًا للبلاء والفقر في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة؟ وحقًّا إنّ للوازع الديني أثرًا في نفوس كثير من الناس، وإنه إحساس شريف يخالج المؤمن في جميع حالاته، ويجعل من نفسه رقيبًا على نفسه، فيريح المجتمع من كثيرٍ من ألوان المخالفات والمظالم؛ وقد أدركت الحكومات قيمته وآثاره فانتفعت به عن طريق تقوية الدين والخلق في النفوس ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا؛ ولكن الشارع لا يقف عند هذا الحد من العلاج، ولا يكتفي بالثمرات التي يجنيها المجتمع من هذا الوازع الديني، لعلمه أنَّ الناس قد تطغى عليهم أهواءٌ وأغراض تنسيهم أمر الدين، وتدفعهم إلى الاستهانة به؛ ولذلك خطا خطوة أخرى، فجعل من حق الوالي العام أن يُكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المِثل عند ضرورة الناس إليه.
روى مالك في الموطأ: «لا حُكْرَةَ فِي سُوقِنَا، لاَ يَعْمِدُ رِجَالٌ، بِأَيْدِيهِمْ فُضُولٌ مِنْ أَذْهَابٍ، إِلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللهِ نَزَلَ بِسَاحَتِنَا، فَيَحْتَكِرُونَهُ عَلَيْنَا، وَلَكِنْ أَيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ عَلَى عَمُودِ كَبِدِهِ فِي الشِّتَاءِ، وَالصَّيْفِ، فَذلِكَ ضَيْفُ عُمَرَ، فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ اللهُ، وَلْيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ اللهُ».
- التفريق بين المحتكر وجالب السلع
فرق عمر- رضي الله عنه- بين حالتين: حالة الذين يتربصون بالأسواق، ويعمدون إلى ما فيها من سلع، فيشترونها ويحتفظون بها احتكارًا لها وإغلاء أو انتظارًا لغلائها، وحالة الجالب الذي يجوب مواطن السلع في الشتاء والصيف ليجتلبها للناس، ويحتمل في سبيل ذلك عناء البرد والحر، وما يلقى فيهما من النَّصَب، فالأولون محتكرون ظالمون يدل تصرفهم على أنهم أصحاب نوايا سيئة، يعتمدون على ما في أيديهم من فضول «أذهاب» أي: أموال ذهبية يغرون الناس بها، ويستخدمونها في جمع السلع وإخفائها، كما يفعل اليهود الآن، ومن سار في المسلمين سيرتهم من التجار الذين لا يخافون الله؛ ولذلك يشتد عليهم عمر، ولا يعترف بأن فعلهم هذا مشروع، ولا يرضى بأن يترك لهم الحرية في سوق المسلمين، يعبثون بها، أما الجالب المغامر الذي يسعى في سبيل رزقه، ويبذل في سبيل المجتمع من راحته وجسمه وعرقه، فذلك هو ضيف عمر، أي: تحت رعايته يمنعه ويحميه، ويترك له الحرية في البيع على الصور التي يختارها؛ ذلك بأن الشبهة عنه منفية، فهو لا يعتمد كالأولين على ذهبه الذي فضل عنه، ولكن يعتمد على قوته وسعيه وعمله.
وقد دلت التجارب العملية على أن الجالب الذي يجلب لا يميل إلى اختزان ما جلب، ولكنه يؤثر أن يبيعه بما تيسر من الربح ليجلب غيره، وقلما جاء جالب بشيء ثم رجع به دون أن يبيعه بما يصادفه من السعر، فمثل هذا رأي عمر أن يتركه وما يريد، لأنه آمن من أن يعبث أو يسيء، ولأنه يخشى إذا تحكم فيه بدون داع إلى التحكم، أن ينصرف الناس عن التسوق والجلب فتقل السلع، ويضيق الناس بقلتها.
وللفقهاء تفصيلات واستدلالات وتفريعات تتعلق بهذا الشأن، وتبين متى يجب إرغام المحتكرين على البيع بثمن المثل، ومتى يجب أن يُتركوا أحرارًا، وما هي الأصناف التي يُمنع فيها الاحتكار، وغير ذلك من التفصيلات التي ترتب عليها بينهم بعض الخلاف في تقدير الحرية في التصرف والتجارة، ولسنا نطيل بذكر هذه التفصيلات، ولكن الذي ينبغي أن نعرفه هو أن الفقهاء قد اعتمدوا على هذه الأصول التي قدمناها من أحاديث الرسول، ومن عمل عمر الذي استنبطه من الشريعة، والمصالح التي تنبني عليها الأحكام في مثل هذه الشئون، اعتمد الفقهاء على ذلك في التفرقة بين الحالات، فليست الأحوال العادية، حين تكون الأمور ميسرة، والتجارة خاضعة لقانونها الطبيعي، كحالة الاضطراب والقلق التي تصاحب الحروب والمجاعات أو تعقبها، وتستلزم علاجًا حازمًا تقدم فيه مصلحة الأمة على حرية التصرف في الملك والتجارة.
كما أن أصناف البضائع ليست كلها مما ينطبق عليه قانون المنع من الاحتكار، وإنما القاعدة في ذلك هي حاجة الأمة إلى شيء ما، لا فرق بين طعام وكسوة، ومسكن، حتى إنه يباح لولي الأمر أن يجبر المالكين على تأجير بيوتهم التي تفيض عن حاجتهم، إلى المحتاجين إليها، الذين لا يجدون سواها، وغاية ما لهم في ذلك أن يأخذوا أجر المثل، كما يُباح لولي الأمر أن يقرر ما نعبر عنه اليوم «بتجنيد جميع القوى أو بعضها» كأن يحتاج الناس، أو يحتاج الجيش المحارب إلى صناعة أهل طائفة كالنجارة والنساجة والحدادة والسباكة والبرادة ونحوها، فلولي الأمر أن يلزمهم بهذه الأعمال، ويحشدهم لها بعوض المثل، وقل مثل ذلك في المهندسين والأطباء والصيادلة في حالة خطر عام كارتفاع النيل، أو انتشار الوباء في إقليم من الأقاليم.
ومن هذا يتبين أن الشريعة الإسلامية، وإن كانت تحترم الحرية الفردية لكل إنسان في تصرفه وتجارته وملكه وصناعته، لكنها تجعل لذلك حدًّا، فإذا دعا داع من مصلحة الأمة إلى وقف هذه الحرية، أو الانتقاص منه، لبَّتْه الشريعة الإسلامية، فجنَّدت في سبيل القيام به ما تراه من قوى في جميع النواحي المختلفة، ولم ترض في أي شيء منها بأي نوع من أنواع الاحتكار، أو الضن على الجماعة، أو التهرب من أداء حقها.
2- التسعير
وشأن التسعير في خضوعه للظروف والأحوال إباحة ومنعًا، كشأن الاحتكار؛ فقد منعه رسول الله #؛ وحمل أهل العلم هذا المنع على الحالات العادية التي لا يجوز فيها إكراه الناس على بيع أموالهم بغير ما تطيب به نفوسهم؛ لأن ذلك ظلم مناف للملكية وحرية التصرف، ولكن إذا طرأت أحوال خاصة من مجاعة أو اضطراب اقتصادي أو نحو ذلك، وامتنع أرباب السلع من بيعها- مع ضرورة الناس إليها- إلا بزيادة على القيمة المعروفة، وجب إلزامهم بقيمة المثل، ولا يكون هذا حينئذ جبرًا على البيع، وإنما هو- كما يقول أشهب المالكي- منع من البيع بغير السعر الذي يحدُّه الحاكم على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمبتاع، فلا يمنع البائع ربحه المعقول، ولا يقر ما يضر بالناس، أو هو كما يقول ابن القيم: إلزام بالعدل الذي ألزم الله به.
ولما كان هذا قد يجر إلى ظلم أو تضييع لربح أهل الأموال، فقد أحيط بضمانات استنبطها أهل الفقه والنظر؛ وفي ذلك يقول ابن حبيب من فقهاء المالكية: «ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم، استظهارًا على صدقهم، فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا به».
وهذه الطريقة بعينها هي التي تسير عليها كل الحكومات الراقية في عصرنا الحاضر، إذ تجمع ما يُسمى «بلجنة التسعيرة» في دار «المحافظة» أو «المديرية» أو ما إلى ذلك، برياسة حاكم الإقليم أو من يُنِيبه، وحضور بعض الوجوه من الأعيان والتجار، فإذا قررت هذه اللجنة بعد المشاورة والمحاسبة شيئًا حمل الناس عليه.
- المضاربة
ومما قررته الشريعة متصلًا بهذا الشأن أن التاجر الذي يعبث بمصالح إخوانه ونظرائه، فيرخص عن القيمة لتكسد سلعهم- وهو ما نسميه في عصرنا الحاضر بالمضاربة- يُلزمه الحاكم بأن يبيع كما يبيع به عامة التجار لئلا يفسد على أهل السوق بيعهم، وربما أدى ذلك إلى الشغب والخصومة، وهذا إذا انفرد الواحد أو العدد اليسير بحط السعر دون جمهور أهل التجارة.
ويدل على ذلك ما رواه يونس بن يوسف عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق، فقال له عمر: «إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا!» وذلك أنه كان يبيع دون سعر الناس، فأمره عمر أن يلحق بسعر الناس أو يقوم من السوق! أقول: هذا يشبه ما نعرفه في عصرنا بالحكم «بإغلاق المحل» عقوبة على ما ثبت للحاكم من التلاعب.
وإذا كان بين الفقهاء بعض الاختلاف فيما ذكرنا من الأحكام، فهو اختلاف في التطبيق، بعد الاتفاق على المبادئ المستمدة من الكتاب والسنة، وما تقضي به مصالح الأمة؛ وفي بعض ذلك اختلاف سببه اختلاف ما روي عن رسول الله مما صح عند البعض ولم يعرفه الآخرون.
بذلك يتبين أن الشريعة الإسلامية قد كفلت مصالح التجارة ومصالح الناس، ولم تسمح بإيذاء أحد على حساب الآخر، أو إثراء أحد بدون مبرر، فوضعت قسطاسًا مستقيمًا يكفل العدل ويمنع الظلم، ويقر في الناس أسباب الطمأنينة والرضا والحياة السعيدة.
وتلك هي الشريعة العادلة الرحيمة، التي لم يستطع العباقرة على مدى العصور والدهور أن يحيدوا عن مبادئها وأحكامها حين يكون العدل رائدهم، والإصلاح مقصدهم، وهذا لعمري هو الإعجاز.