جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

تعدد الرجال والقلب واحد

سيأتى عام جديد والرجال متشبثون بالذكورية، كيف إذن سيكون 2023 عامًا جديدًا؟ ما أفهمه أن العام الجديد يصبح جديدًا إذا غيرنا أشياء جذرية فى تفكيرنا وثقافتنا، لكن مع بقاء الفكر الذكورى مقيمًا فى بيوتنا وفى عقولنا متحكمًا فى انحيازاتنا وممارساتنا، فلا تغيير.
مع الأسف ما يشهده واقعنا ليس فى مصر فقط، ولكن على مستوى العالم العربى كله، يؤكد أن الرجال على اختلافهم هم "رجل واحد"، رجل تفوح منه رائحة العرق أو رجل تفوح منه أرقى العطور، رجل عالى المقام أو رجل بسيط، رجل على باب الله أو رجل مشهور، رجل يحب رابطات العنق المستوردة، أو رجل يفتح أزرار قميصه، رجل وسيم ورشيق، أو رجل خاصمته الوسامة والرشاقة، رجل إلى كل الأجواء يسافر، أو رجل كامن فى عقر داره،
رجل يعشق الكونشرتو والسيمفونية والسوناتا فى الموسيقى الغربية، أو رجل يعشق الطقطوقة والدور والمونولوج فى الموسيقى العربية، رجل يقرأ الكتب أو رجل يقرأ صفحة الوفيات، رجل موهوب أو رجل معدوم الموهبة، رجل يحب السجائر أو رجل ضد التدخين، رجل متخم بالخبرات أو رجل نحيل التجربة، عيونه لها لون البحر، أو لون العسل، أو لون الليل، رجل القرون الوسطى أو رجل نهايات القرن الواحد والعشرين.
ولكن كما تتعدد الأسباب والموت واحد، تتعدد أصناف وأشكال الرجال، والقلب والقالب واحد، يتعدد الرجال والجميع يفضلونها "خاضعة".
أكبر دليل على ذلك أن الرجل "المحب" والمرأة "الحرة"، أمران لا يتعايشان معًا تحت سقف واحد إلا إذا كان هذا السقف "خلوة غير شرعية"، مُحرمة، معاقبة، منبوذة. ويلجأ لها الرجل لفترة مؤقتة محدودة حتى يستقر تحت سقف واحد، فى "خلوة شرعية" مقبولة، حلال ربنا وشرعه مع امرأة مطيعة لا تأتى الحرية بخاطرها.
هكذا تتكون الأسرة الأبوية المحمودة المرضى عنها وعن ذريتها ونسبها الأبوى المشرف الذى يعتبر النسب إلى الأم عارًا وكفرًا وفضيحة.
وكلما زاد نصيب المرأة من الحرية أسرع الرجل فى الهروب، وكأنها  "فيروس" خطير أشد فتكًا من فيروس "كورونا" وتحوراته.
إن العجز الحقيقى للرجل ليس فى نقصان القدرة الجنسية، ولكن فى عدم القدرة على حب امرأة حرة التفكير والإرادة والمصير، وفى العجز عن إقامة علاقة مع امرأة ند له أو تفوقه.
إنه عجز تتوارثه الأجيال المتعاقبة من الرجال ليصبح مثل الجينات، وأصبح مرادفًا لمعنى الرجولة المزروعة داخله منذ أزمنة سحيقة، رجولة ترى أن المرأة التى تشتهى الحرية ولا تقبل المساومة عليها، زائدة وجودية الواجب استئصالها، والرجولة الكاملة، هى النفور من النساء الأحرار والتنديد بهن ومحاصرتهن بالشكوك والاتهامات.
تتحرك مشاعر الرجل لامرأة، لا تحب أن تطيع أحدًا إلا نفسها، ولكنه حين يقرر أن يكمل نصف دينه كما يُقال، يذهب إلى امرأة له عليها الكلمة العليا وتعتبره إلهًا يُعبد ويُسجد له.
لا يستطيع الرجل أن يتصور، كيف يكمل نصف دينه مع امرأة ترى الطاعة "رذيلة"، أو كيف يواجه على الملأ مجتمع الرجال بامرأة ضد مجتمع الرجال.
إن تعريف الزواج للرجل، هو كيف يعثر على امرأة مريحة لا تثير تساؤلات أو مشاكل، امرأة مغمضة العينين ومغمضة الكرامة ومغمضة الوعى ومغمضة الجسد.
أما المرأة الحرة التى تعول نفسها وتعول كرامتها، فهى وجع دماغ يزيد الحياة تعقيدًا وصراعًا لا داعى لهما، وهى امرأة خطر على سُمعة رجولته وكرامة ذكوريته.
وإذا كانت المرأة الحرة مغرية جدًا فإنه قد يستسلم للإغراء، ويقرر الزواج بها ولكن بعد أن يساومها على التخلى عن حريتها كلها أو عن أجزاء منها، الشرط الأساسى هو أن تصبح المرأة الحرة له كاملة بشكل مطلق.
قد يغفر الرجل للمرأة الخيانة والذهاب إلى رجل آخر- الطامة الكبرى فى عُرف الأخلاق الذكورية - لكنه لا يغفر لها الذهاب إلى مخدع "الحرية"، فالحرية للمرأة هى العشيق الذى لا يحتمله الرجال، وهى الخطيئة التى تقترفها المرأة فى لحظة طيش غير القابلة للغفران.
إذا اختارت المرأة أن تمد يدها وتقطف الثمرة المحرمة واسمها الحرية، فما عليها إلا أن تدفع الثمن راضية وتعيش فى استغناء عن الرجل المحب أو الزوج العاشق.
يعود جزء كبير من بقاء وضع المرأة دون تغير كيفى، أو ما نشهده من انتكاسات متكررة، إلى عجز منْ يسمين أنفسهن نساء أحرارًا أو المحسوبات على ذمة الحرية عن دفع ثمن الحرية.
عند أول فرصة يظهر فيها الرجل، فإنهن يقبلن دخول المزاد والمساومة، وينتهى بهن الأمر إلى الخضوع لشروطه فى الحب أو فى الزواج.
والغريب أنهن يزددن إصرارًا على أنهن على درب التحرر ولا يتوقفن عن إسداء النصائح لغيرهن من النساء، والأكثر غرابة أنهن يبدأن فى معاداة النساء الصامدات، والهجوم على أفكارهن وتصرفاتهن، ووصفهن بالتطرف أو الشذوذ أو الفهم الخاطئ للحرية ومعطيات الواقع، أو هن نساء ناقصات الأنوثة.
وبذلك تتشكل "جبهة تضامن" من رجال يكرهون حرية المرأة مع مدّعيات الحرية من النساء ضد كل امرأة لا تتنازل عن حريتها مقابل رجل.
ماذا تعنى حرية المرأة؟ سؤال يُستخدم لتضييع الوقت والجهد وسلاح خبيث النوايا للتشتيت والضرب والنبذ، بكل بساطة أقول لمنْ يسأل هذا السؤال، إن حرية المرأة هى أن ترفض "الطاعة" إلا لعقلها الحر وقناعتاتها الفكرية الشخصية وطموحها المتفرد، وتدرك أن الطاعة كلمة مهينة من ميراث العبودية وعصر الأسياد والعبيد، وأنها ليست مستعدة لإعادة انتاج هذا العصر بأشكال متلونة مستحدثة لكن الجوهر واحد.
لمنْ يسأل هذا السؤال، ما هى حرية المرأة؟ أقول هى بالضبط حرية الرجل والسؤال وماذا تريد المرأة الحرية وماذا ستفعل بها، يكون ردى هو بالضبط ما يريده الرجل من الحرية، وبالضبط ما يفعله بها، ويسألوننى بعد العجز عن إيجاد إجابة منطقية عادلة بشكل متعسف لا يخلو من لى الحقيقة والفساد الأخلاقى:
"يعنى المرأة تمشى على حل شعرها.. أليس كذلك؟ وبدورى أسألهم: هل الرجل الحر يمشى على حل شعره؟ وهنا يتلعثم أصحاب هذه الأسئلة المراوغة التى تنم عن جهل مخجل بمعنى الحرية ودورها وضرورتها، وتدل على مرجعية انفلات واستهتار النصف الأسفل من الجسد التى تهيمن على تفكيرنا وتخيلاتنا.
إن "الطاعة"، بالنسبة إلى النساء ليست مجرد عنوان للفضيلة في أسمى معانيها، لكنها هى التي تمنحهن أصلًا، انتمائهن البيولوجي، إلى جنس النساء، هي "الرخصة"، التي لا بد أن تُجدد يوميًا حتى لا يُسحب من المرأة وجودها الإنساني وتظل "مصنفة" في خانة "الأنثى". 
هى معادلة بسيطة يجب الحفاظ عليها، كلما زادت "طاعة" المرأة زادت "أنوثتها"، كلما زاد "ثمنها" فى سوق الزواج، أما بالنسبة للرجل فلا بد أن يكون له شخصية مستقلة نابعة من أفكاره، ومزاجه، وطباعه، ليبقى مسجلًا فى خانة "الذكر".
المرأة نفسها لا تحب الرجل "المطيع" بل "تزدريه" وتتجنبه ولا تجد سببًا واحدًا يدفعه إلى "الطاعة" التى تراها خادشة للرجولة معيبة للذكورة التى تسقطه من "عينها"، حتى الأطفال فى البيت لا يحترمون الأب المطيع أليست هذه كارثة أخلاقية وإنسانية وأسرية يجب تدميرها؟
الرجل على عكس المرأة لا بد أن يتحرر من "الطاعة" حتى يثبت رجولته، هو لا يطيع الناس، بل يطيع نفسه، وكلما تساؤل وجادل وناقش وعارض وتمرد وشاغب وشاكس، يعتبر بطلًا وشجاعًا، بالطبع يوجد دائمًا "خط أحمر" لعدم طاعته تحدده السلطات السياسية والدينية، لكنه على الأقل لا يُقذف بالاتهامات والإدانات التى تُقذف بها المرأة التى تسأل وتجادل وتعترض وتضرب جذور الطاعة فى مقتل فى البيت والدولة.
فالمرأة التي لا تطيع إلا عقلها وعواطفها ومزاجها هى "مريضة" مرضًا متأصلًا، لديها اختلال عقلي وارتباك عاطفي واضطراب في الهرمونات، عندها ميول انحرافية وعُقد منذ الطفولة، تعانى من تشوش البوصلة البيولوجية تكره الرجال.. تكره الحياة.. تكره النساء.. وتكره نفسها.
وهذا كله يجعلها "منبوذة" حتى تزف إلى العريس المتاح دائمًا "القبر"، وتصبح مغضوبًا عليها من الله والرسل والأنبياء، وتستنكرها الأعراف والعادات والتقاليد ومقررات التعليم ونظرات الجيران، وفى بعض الأحيان يجرها بالقوة واحد من ذكور العائلة لتصبح سجينة إحدى المصحات العقلية.
أليس تعبير "بيت الطاعة" يشد المرأة غير المطيعة لزوجها رغمًا عنها بقوة البوليس، وجبروت القانون الذكورى، وتسلط التقاليد الموروثة خير دليل على أن "الطاعة" هى "هوية" النساء؟ المفروض أن يكون هناك مقياس واحد للأخلاق يطبق على الرجال وعلى النساء.
فكما نمتدح الرجل الذى "لا يطيع"علينا أن نمتدح أيضًا وبالقدر نفسه المرأة التى "لا تطيع"، استثناء هى المرأة التى تدفع فى كبرياء وشموخ ضريبة الحرية وتتحمل البقاء نارًا متأججة، استثناء هى المرأة التى تكمل نصف دينها مع الحرية وتظل منتجة عاملة مبدعة متألقة وسعيدة ومتفلسفة.
واستثناء أيضًا هو الرجل الذى شطب كلمة الطاعة من قاموسه الفكرى والسلوكى وينفر من المرأة المطيعة التى تعطيه امتيازات الأسياد الفاسدة، إنها لبطولة صامتة أن تسبح المرأة المكتفية بحريتها ضد التيار دون أن تتشكك فى قواها على المقاومة والوصول شامخة إلى شاطئ التفرد.
ماذا يفيد المرأة لو كسبت حب العالم وخسرت نفسها؟ ماذا ينفع المرأة إذا ربحت رجلًا يموت وخسرت الحرية أبدًا لها الدوام والخلود؟
متى سندرك أن حرية النساء هى أساس ارتقاء ونهضة المجتمعات؟ إلى متى سنظل نخاف حرية المرأة ونحيطها بالخزعبلات والتشوهات والغرائز السفلية المتدنية؟ إلى متى؟
من بستان قصائدى 
منذ أن قذفنى رحم أمى 
إلى عالم شرب كل ما أعدته لإرضاعى 
وأنا أقاوم مثل الجبال 
من حرب الى حرب 
ومن قتال الى قتال 
أصوات تصرخ فى أذنى كل صباح وكل مساء:
"لا فائدة.. لا راحة.. لا معنى لكل الأشياء
ماذا تفعلين هنا؟ لماذا تبقين أيتها المغفلة الحمقاء؟
أشباح ترقص على إيقاعات صاخبة 
تدفعنى للقفز من الشرفة وأجرى 
أقع وأروح فى إغماءة طويلة 
أفيق على سؤال حائر:  
أيستحق العيش كل هذا العناء؟