جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«أثر الفراشة».. كتاب يسجل حياة رائدة مجهولة فى السينما المصرية

الكاتبة «عزة إبراهيم
الكاتبة «عزة إبراهيم

الكاتبة «عزة إبراهيم» تتقصى حياة «أبية فريد» أول مدير تصوير فى استديوهات مصر

حين تقرأ قصة «أبية فريد»، أول مدير تصوير فى السينما المصرية، كما سجلتها الناقدة عزة إبراهيم، ستشعر بأن هناك شيئًا خطًأ.. ليس فى تاريخ هذه السيدة الرائدة.. ولا فى جهد الكاتبة الكبير.. ولكن فى طريقة كتابة تاريخ المرأة المصرية منذ السبعينيات.. ستشعر بأن هناك من يحاول إخفاء إنجازات المرأة المصرية.. وطمسها.. والسكوت عنها.. وستجد أن المستفيد الوحيد من هذا هم أنصار الظلام.. الذين أقنعونا بأن المرأة عورة حتى يحرموا المجتمع المصرى من نصف قوته؛ ليسير على ساق واحدة.. فيبدو وكأنه مجتمع «أعرج» وتتعطل مسيرته.. بذلت الكاتبة «عزة إبراهيم» جهدًا كبيرًا فى تقصى حياة أبية فريد «١٩٤٨-١٩٨٢»، أول مدير تصوير فى السينما المصرية وشريكة حياة الفنان الكبير سعيد الشيمى وصاحبة اللمسات الهامة فى عدد كبير من أفلامنا السينمائية.. وقد أسهم القدر فى إلقاء ستائر النسيان على هذه الرائدة الهامة.. حيث اختارها الله إلى جواره وهى فى الرابعة والثلاثين من عمرها بعد سنوات قصيرة حافلة بالإنجاز.

لم يفجع خبر الموت أسرتها فقط ولكنه كان صادمًا للوسط السينمائى الذى عملت فيه مدة ١١ عامًا منذ تخرجها عام ١٩٧١ الأولى على دفعتها على مدار سنوات دراستها فى المعهد العالى للسينما بمرتبة الشرف الأولى، كما فجع طلبتها فى المعهد حيث عينت معيدة فى قسم التصوير بالمعهد.

وكأنها لحظة من نور مرت فى سماء السينما المصرية، ليخلد اسمها كواحدة من أقوى النساء فى مصر، وهى أول امرأة مصرية تخطط حياتها من البداية لتكون أول امرأة تشغل مدير تصوير فى السينما المصرية وعمرها الطويل.

وقالت الكاتبة: «عندما تنظر فى سجل أفلامها تدرك للوهلة الأولى دور هذه السيدة التى استطاعت أن تصنع مع عدسات كاميراتها صورة سينمائية مختلفة ومتميزة، وأن ترسخ أقدامها بثبات فى عالم سيطر عليه الرجال لسنوات طويلة منذ بداية السينما فى العالم على يد الأخوين لوميير فى فرنسا عام ١٨٩٥».

فرغم أن السينما الروائية المصرية قامت فى البدايات على أيدى نساء من مصر مثل بهيجة حافظ وعزيزة أمير، إلا أن دور المرأة كان فقط فى مجالات الإنتاج والإخراج وتأليف الموسيقى والأزياء، ولم يرتق قط إلى دخول عالم التقنيات السينمائية، وأن تقف المرأة المصرية خلف الكاميرا لتدير التصوير بثقة وثبات وموهبة يحسدها عليها الرجال، الذين وثقوا فى أبية فريد ومنحوها الفرصة تلو الفرصة.

خاصة بعد أن أثبتت جدارتها ومهارتها خلال فترة عملها كمساعد ثم مصور قبل أن تقف بمفردها مديرًا لتصوير العديد من الأفلام، مسلحة بالعلم والموهبة والثقة بالنفس، وتتمكن خلال سنوات معدودة أن تسجل اسمها فى سجل الشرف وأن تصنع صورة سينمائية تحمل توقيعها.

حفرت أبية فريد اسمها فى تاريخنا السينمائى كأول مصرية تتجرأ على قنص الضوء وتوزيعه بحرفية كبيرة، فقد تمكنت أن تصنع مع كاميرتها صورة كانت واعدة ومبشرة، وأن تقتحم مجالًا كان لفترة طويلة قاصرًا على الرجال، ويستبعد المرأة أو يحاصرها بصورة ذهنية مريضة، لا تعبر عن حقيقتها وقدراتها.

وتنتمى أبية فريد إلى زمن الستينيات والسبعينيات، الذى كانت المرأة فيه شريكة كاملة الأهلية للرجل فى خوض معارك الحياة، دون أن يستنزفها مجتمعها ومحيطها طويلًا فى قضايا مبتذلة، أو يحشر أنفه فى كل ما يشكل وجودها وكينونتها وصورتها وملابسها وحريتها وخروجها من البيت، أو يقحم نفسه فى مهاترات حول حقوقها البديهية فى العمل والحب والاختيار.

كانت أبية فريد هى ابنة المدينة فى ذلك التوقيت، وتنتمى إلى مصر المختلفة عن ما نراه حاليًا، التى نهضت فى الستينيات محتفية بإنجاز عريق صاغته الجدات فى ثورة ١٩١٩، واستكملنه قبل وبعد ثورة يوليو ١٩٥٢، فهى تنتمى إلى مصر التى شق نساؤها طريقهن بلا تمييز على أساس النوع.

فقصة حياتها تشبه قصص السينما وتراجيديات أبطالها وبطلاتها الذين عشنا معهم بكل كياننا وإحساسنا، فهى مثلهم، تجمع فى تكوينها وأقدارها كل التناقضات بين الرقة والهشاشة والقوة والتمكن والموهبة الكبيرة، وبجانب ذلك مفاجآت مرض نادر أصابها وأنهى حياتها فى أيام قليلة لا تتجاوز الـ١٧ يومًا بشكل مأساوى ومباغت مع الأسف، مما جعل رحيلها صدمة قوية لكل من عرفها.

كما تقول المؤلفة، فأبية فريد من مواليد عام ١٩٤٨، والتحقت بمدرسة السنية للبنات فى حى المنيرة، ووالدها كان يعمل مديرًا عامًا فى وزارة الخزانة «المالية»، وكانت تهوى الفن منذ طفولتها، وتميزت فى التصوير الفوتوغرافى قبل أن تدرس التصوير فى المعهد، والتحقت بالمعهد وضمت الدفعة ١٩ طالبًا من مصر فى كل التخصصات، وحظيت بالتميز والأهمية بين أبناء وبنات دفعتها.

كان مشروع تخرجها هو تصوير فيلم «ميرهام» مع زملائها فى قسم الإخراج، وكانت حاملًا فى ابنها الوحيد شريف شيمى..

وعلى الرغم من تفوق أبية فى دراستها إلا أنها كانت تعيش قصة حب كبيرة مع الفنان الكبير سعيد شيمى، حيث بدأت الحكاية عند لوحة إعلانات نتيجة القبول فى المعهد العالى للسينما للعام الدراسى ١٩٦٧/ ١٩٦٨، فأبية فريد وسعيد شيمى لم يلتقيا فى امتحانات القبول بالمعهد، وربما التقيا دون أن يلتفت أحدهما إلى الآخر، فكلاهما كان مشغولًا ومشحونًا بهدفه الكبير وهو دراسة السينما، فسعيد شيمى كان يتقدم بأوراقه للمعهد على مدار ثلاث سنوات متتالية ولا يتم قبوله، وكان يدرس كطالب منتظم فى كلية الآداب «قسم تاريخ» بجامعة القاهرة طوال هذه الفترة.

وربما كان القدر يؤخر قبوله فى المعهد من أجل ترتيب ذلك اللقاء الأول بينه وبين أبية فريد عند لوحة إعلان نتيجة القبول فى المعهد، وبحسب النتيجة المكتوبة فى اللوحة كان أول المقبولين هو محمد سعيد شيمى، والثانية هى أبية فريد الزغبى، التى سألت بصوت عالٍ: «مين محمد سعيد شيمى ده؟» فرد: أنا، كانت هذه هى المرة الأولى التى يلتقيان فيها، ولم يتفرقا حتى رحيلها.

وعلى مقاعد الدراسة، وفى المحاضرات العملى بالمعهد، ومع اتضاح شراكتهما فى هدف وحلم واحد بدأت تنمو المشاعر الجميلة التى ربطتهما، وربطت مصير كل منهما بالآخر.

وفى السنة الثالثة من الدراسة تمت خطبتهما، وتزوجا بعد ذلك وعاشا فى شقة الهرم بالقرب من معهد السينما، ومن مدرسة ليسيه التى التحق بها شريف ابنهما.

وتخرجت أبية فريد فى معهد السينما عام ١٩٧١، وكانت الأولى على دفعتها، وتم تعيينها كمعيدة فى قسم التصوير، صورت فيلمين كمشروع للتخرج وهما فيلم «ميرهام» وفيلم «هكذا تقتل النسور» مع زميلها الأردنى عمر العلى.

وبعد التخرج عُينت معيدة فى المعهد وقامت بتدريس دفعات عديدة، وتخرج على يديها كثير من المصورين السينمائيين الذين أصبحوا نجومًا كبارًا فيما بعد، ولم تكتف أبية فريد بعملها بالتدريس فى المعهد العالى للسينما لكنها مارست كل الأعمال التى لها علاقة بالتصوير السينمائى، فعملت كمساعدة وكاميرا مان، ثم مديرة تصوير.

فكانت تعمل ١٢ ساعة متواصلة، فعملت مع عبدالحليم نصر مساعدة له، وسبقا عصرهما، وصورا أجمل كليب فى تاريخ السينما المصرية فى أعياد الربيع لسعاد حسنى فى فيلم أميرة حبى أنا.

وتطرقت الكاتبة إلى سفر أبية، حيث سافرت إلى بلاد كثيرة لتصوير الكثير من الأفلام التى عملت فيها، وسافرت أيضًا لتسويق أفلام «شركة نفرتارى» التى تشاركت فى تأسيسها مع سعيد شيمى.

وعلى الرغم من النجاح الباهر الذى حققته وحياتها الزوجية المستقرة إلا أن الحياة لا تعطِى لأحد كل ما يريد وتدخل القدر ليقلب الأمور رأسًا على عقب، فقد احتفلت أبية فريد وسعيد شيمى بعيد الميلاد العاشر لابنهما شريف فى ١٤ فبراير ١٩٨٢، وبعد عيد الميلاد بأيام قليلة بدأت تهاجمها نوبات من الصداع المتكرر ثم المتواصل، فتم نقلها إلى المستشفى، ووقتها شخص الأطباء حالتها وقالوا إنها بسبب نوع من الحساسية النادرة فى الدم، تصيب واحدًا من كل مليون من البشر.

وفى خلال ١٧ يومًا تدهورت حالتها الصحية، وفى يوم ٣ مارس عام ١٩٨٢ قبل عيد ميلادها الرابع والثلاثين الذى يوافق ٢٠ مارس ساءت حالتها بشكل كبير، ورحلت عن عالمنا فى حالة من الذهول أصابت الجميع.

وفى نهاية الكتاب استعرضت الكاتبة الفيلم التسجيلى الذى تناول قصة حياة أبية منذ النشأة حتى الرحيل، وتطرق الفيلم إلى الأعمال الفنية التى شاركت فيها أبية، حيث عملت فى العديد من الأفلام التسجيلية منها: الهمس على النحاس، عباد الشمس، والبالية والزجاج المصرى وكهربة الريف.

كما شاركت فى عدد من الأفلام الروائية التى عملت فيها كمساعد للتصوير مع مديرى التصوير الكبار وحيد فريد وعصام فريد: شلة الأنس، خائفة من شىء ما، لا عزاء للسيدات، عيب يا لولو عيب، شفاه لا تعرف الكذب، لقاء فوق السحاب، شمس وضباب، حافية على جسر الذهب، وغيرها من الأفلام التى ما زالت حاضرة فى ذهن المشاهد العربى.