جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عبادة الميكرفون صناعة الكفار


هل "مصر" التى تمتد عبر آلاف السنوات، وهى أول حضارة عرفتها البشرية، نتغنى بها ونقيم لها المتاحف ليست مؤهلة لأن تقضى على ظاهرة الميكرفونات فى المساجد والجوامع؟ هل "مصر" عاجزة اجتماعيًا وثقافيًا وقانونيًا عن إيقاف الميكرفونات فى كل شِبر على أرضها؟
ليس معقولًا أننا منذ سنوات طويلة نشكو من الميكرفونات المستخدمة فى المساجد والجوامع، ولا شىء يحدث ليس مقبولًا أن يتم على مرأى ومسمع الجميع فى الفجر والصباح والمساء انتهاك الهدوء داخل بيوتنا وأجهزة الدولة المصرية المدنية الحديثة، ودن من طين وودن من عجين.
فى الفجر خاصة، حين تنام عيون المدينة المرهقة، تصحو الميكروفونات فى صفعات مفاجئة، زلزال مدمر ألف ريختر، يهدم طمأنينة النوم ويقطع خيوط الحلم.
إن التصدي الحازم للإرهاب الذي يقتل الأرواح، ويسفك الدماء، باسم الدين والجهاد في سبيل الله، - وننجح فيه بوضوح - أمر يقف معه ويؤيده كل الشعب المصرى، على اختلاف اتجاهاته الفكرية، وتباين نظرته لأمور الدين والدنيا.
لكن استمرار نجاح وفعالية هذا التصدى على المدى الطويل، مرهون بامتداده وتغلغله في كل نواحي الحياة الفكرية والاجتماعية، والفردية والجماعية، بطبيعة الحال - وبحكم تفرد تكوينها - تبرز أكثر الناحية الأمنية كتصد لا بد أن يؤتي ثماره على المدى القصير، حيث لا مهادنة في سلامة وأمن الوطن.
إن التصدي للإرهاب يحتاج إلى فلسفة أو نظرية، تحدد معناه وأبعاده، التي بقليل من التأمل، نجد أنها تشمل بعـض الظواهر والممارسات، التي لا يعقبها بالضرورة قتل الأرواح، وسفك الدماء. 
لا بد أن ننظر إلى الإرهاب على أنه في جوهره، كل ممارسة للعنف، واغتصاب حقوق الآخرين، وكل محاولة لفرض سلوكيات بعينها، وذلك تحت أي اسم من الأسماء، خاصة الدين، الذي بطبيعته وبحكم مساره التاريخي، يشكل قضية حساسة لدى قطاعات كبيرة من الناس، وجدير بالذكر، أن هذه الحساسية، تزداد وتصبح أقل عقلانية ومرونة وأكثر خشونة وتعصبًا في أوقات الأزمات.
الميكرفونات فى المساجد والجوامع، ظاهرة في حياتنا الاجتماعية، وهو إرهاب سمعى يمارس باسم الدين، نوعًا من العنف، والإيذاء النفسى واغتصاب الحقوق، وفرض السلوكيات، رغم أنه لا يريق نقطة دم واحدة، ولا يطلق القنابل أو الرصاص. 
كيف باسم الصلاة، أو أداء طقوس الدين، التي تستهدف أن يصبح الناس أكثر إحساسًا بالآخرين وأكثر رقة وجمالًا، تنتهك الميكرفونات خصوصية بيوتنا وحياتنا؟
جوهر أى دين، لا يمكن أن بأي حال من الأحوال، انتهاك مسـاكن الإنسان، دون استئذان وموافقة صاحبه، لكن الميكرفونات تضرب بهذا المبدأ عرض الحائط، وتنتهك دون استئذان آذاننا وأعصابنا وأوقاتنا وجدران بيوتنا، في النهار والليل وأوقات الفجر.
إن الميكرفونات لها نفوذ قوى متسلط، يجعلها غير مبالية، بأن تمارس ما حرمه الدين من إزعاج الناس، ولا يهمها أن تواصل هذا التحدى دون أدنى اكتراث. 
إن التصدي للإرهاب الدموى، لا بد أن يقترن بضرورة توعية الناس بجوهر جميع الأديان، وهو اسعاد الإنسان وتحريره، وهذا مرتبط بترشيد الممارسات الخاطئة التي تحدث باسم الدين، وتتخلل حياتنا من أصغر إلى أكبر تفاصيلها. أليس هذا هو بيت القصيد فى تجديد الخطاب الدينى، الذى فشلنا فيه منذ 2014 وحتى الآن؟
ليس هناك في الإسلام، ما يبيح استخدام الميكرفونات، لإتمام صلاة المسلمين والمسلمات، هو اختراع حديث ظهر بعد الإسلام بفترة طويلة وهو من اختراع "الكفار" حسب وصف المشايخ والدعاة والوعاظ، كل يوم، ليل نهار، عبر مليون منصة إعلامية، فضائية وأرضية.
إن مكبر الصوت، ممارسة خاطئة غير إسلامية وغير شرعية وغير دستورية، ممارسة يتوافر لها كل عناصر العنف وإيذاء الغير وهي ممارسة يعاقب عليها القانون، وجميع مواثيق حقوق الإنسان.
بعض خطباء الجوامع، يزعقون في مكبرات الصوت بآرائهم الشخصية، التي تناقض اجتماع مسيرتنا الحضارية، فهم يهاجمون النساء السافرات، العاملات، ويحرضون الشباب على عدم الاختلاط بالفتيات لأنهن فتنة ومفسدة، وفي كلامهم، يركزون على تخويف الشباب مـن عذاب القبر، ونار جهنم، وعلى تحريم كل استمتاع بالحياة.
فالحياة في نظرهم ليست إلا غرورًا ومفسدة تساعد على الانحراف (والانحراف في رأيهم هو فقط اجتماع الرجل بالمرأة)، وبالتالي، فإنهم يدعون الشباب إلى عدم الإقبال على الحياة، واقتصارها فقط على أداء العبادات، والتركيز على ما يرتدونه من زی، وعلى طول اللحية، هكذا يساعدون على التطرف والتشدد والتعصب أهذا يمكن أن يجدد الخطاب الدينى، الذى تحول الى شعار وكلام فى الهواء؟
قد يقول البعض إن قضية مكبرات الصوت، قضية تافهة أو ثانوية، وإن انتشارها أصبح أقل، ونرد على ذلك بأن ظاهرة مكبرات الصوت لا تنحسر، على العكس تتزايد وإذا كان الأمر، يتعلق بحقوق الإنسان، وحرمة مسكنه وحياته، فليس هناك قضية ثانوية تافهة وأخرى رئيسية مهمة.
وإذا كانت هذه قضايا تافهة، لما احتاجت المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وبنود القوانين والدساتير وكذلك مبادئ الأديان، أن تنبه إليها، وتقر عدم المساس بها، كذلك فإن أي قضية كبيرة لا تترجم نفسها إلا من خلال تفاصيل الحياة، التي يعيشها الناس ويعانون منها في الواقع الفعلى المتكرر يوميًا.
أعرف أشخاصًا تركوا منازلهم، وسكنوا فى مكان جديد، هروبًا من حصار الميكرفونات حولهم من كل الجهات، المنبثق من المساجد والجوامع، لكن ليس كل الناس لديهم هذه الامكانية أو الرغبة فى ترك حيهم ومنطقتهم.
إن ما تفعله بنا مكبرات الصوت، في أوقات الصلاة باسم الدين ، طلقات رصاص تؤذينا وترهبنا، دون أن تريق دماءنا، أو تقتل أرواحنا. لكنها تريق إنسانيتنا، ومشوارنا الحضاري، وتقتل تصورنا عن معنى حقوقنا وواجباتنا، في الدين والحياة على حد سواء.
هل لنا أن نحلم بيوم قريب تكون فيه مصر، بلدًا هادئا؟ وقبل أن نحلم لا بد أن يجيبنا أحد فى الدولة، لماذا تتحدى ميكرفونات المساجد والجوامع تجديد الخطاب الدينى، وترشيد السلوكيات المخجلة باسم الدين؟ هل هى أكبر من القانون؟ وأهم من راحتنا وأثمن من صحتنا؟ ولمنْ تعمل؟ وكيف جاءت بنفوذها والخوف من الاقتراب منها؟ وهى فى الأحياء الفقيرة الشعبية المزدحمة وباء لا يقل عن وباء التوك توك.
منذ سنوات وأنا أثير قضية الميكرفونات هذه ولا شيء تغير، المفروض أن تكون هناك جهات فى البلد، تقرأ وتجمع وتتابع، ما نكتب من آراء وقضايا وشكاوى لا تنسجم مع القانون وحقوق البشر وتجديد الخطاب الدينى والثقافى والأخلاقى، ثم تنفذ ما عليها تنفيذه. لكن أن نظل نكتب فى الهواء وتتحرق أعصابنا وتنتهك بيوتنا سنوات وراء سنوات  فهذا أمر محزن يثير الأسى والأسف والتشاؤم ولا أدرى لمصلحة منْ؟ أكيد ليس فى مصلحتنا نحن الشعب المصرى وليس فى مصلحة النهضة الثقافية التى نريدها لمصر.
من بستان قصائدى 
صحوت من أرق الليل 
أبحث عن غرفة هادئة
وجرائد تخاطب مشاعرى
وموسيقى تداعب ذكرياتى 
وخطابات لم أفتحها 
ومكالمات لم أرد عليها 
وأوراق تنادى أصابعى  
وقهوة تعدل مزاجى 
لم أجد شيئا من هذه الأشياء
فعدت إلى أرق الليل