«علاقات خطرة».. النفس البشرية على المسرح
قبل أن تطلق الفتاة النار مباشرة على رأسها تقول لأبيها بعد أن حاولت قتله ولم تطاوعها يدها: «بابا.. كل اللى إنت عملته فيا ما خلنيش أكرهك.. لكن خلانى أكره نفسى». ومع صوت إطلاق الرصاصة ينتهى العرض المسرحى «علاقات خطرة» وقد تركت الرصاصة أثرها فى قلب وعقل كل المتفرجين.
العرض المسرحى «علاقات خطرة» لفريق «بيتر شو» هو من كتابة وإخراج مايكل مجدى عن مادة حقيقية مستقاة من كتاب بذات العنوان للطبيب النفسى الدكتور محمد طه، الصادر عن دار الشروق، والذى حقق رواجًا كبيرًا، وقد قدم العرض مؤخرًا على مسرح الهناجر خلال مهرجان آفاق وحصد عدة جوائز، أهمها أفضل عرض متكامل، كما حصد من قبل جائزة أفضل عرض جماعى من المهرجان القومى للمسرح.
يدق العرض ناقوس الخطر، فمؤخرًا انتشر عدد من حوادث الانتحار التى كانت مرجعية معظمها قسوة الأهل، وبعض المنتحرين تركوا رسائل مكتوبة أو مصورة قبل الانتحار تشير لذلك، وبعضهم أوصى بألا يشارك أهله فى جنازته، وتتعدد الأسباب: فمنهم من عانى من عدم تقبل أهله له، أو من وصمه بالفشل، ومنهم من كان خائفًا من عدم اجتياز امتحان، ومنهم من شعر بالخذلان وافتقاد الدعم، ومنهم من ارتعبت من تهديد بنشر صور على الإنترنت ولم تتوقع مساندة أقرب الناس لها، تتعدد الأسباب لكنها جميعًا تشير إلى غياب إظهار المحبة وانتهاج أساليب ومناهج تربوية خاطئة.
ويتتبع العرض تعامل الآباء والأمهات بامتلاك أبنائهم وعدم إدراكهم أنهم ذوات مستقلة لها إرادتها وشخصيتها وميولها، لذا لا يكفون عن محاولة تشكيل ورسم ملامح حاسمة تشبههم لابنهم وكيف يعيدون تدوير نفس أساليب التربية المشوهة التى تربوا عليها ليعيدوا إنتاج وتوريث ذات القهر وذات العقد ومركبات النقص التى عانوا منها.. إنهم يحاولون تحديد حتى مقاس شهوته واستمتاعه الجسدى.. عبر عملية الختان: الجريمة التى ما زال الأهل فى مجتمعاتنا يرتكبونها يوميًا بأريحية رغم حملات التوعية المستمرة بخطورتها وآثارها النفسية والجسدية المؤلمة.
يحاول العرض عبر عرضه لنماذج من العلاقات المريضة التى تخلف وبالضرورة نماذج نفسية معقدة غير نافعة لا لذاتها ولا لأسرتها ولا لمجتمعها، توعية الجماهير بأساليب التربية الخاطئة التى ينتهجها الآباء فى تربية أبنائهم، معارضًا هذا التدوير الأزلى والمستمر لطرق التربية المشوهة.
فالشاب الذى يشعر بأنه تم محوه لصالح إعادة إنتاج صورة طبق الأصل من أبيه، يسائله لماذا فعل به ما فعله؟ فتكون إجابة الأب:
■ كنت عايز أشوفك أحسن واحد فى الدنيا.
■ بس أنا ما كنتش عايز أبقى أحسن واحد فى الدنيا.. ليه حطتنى فى المنافسة دى أصلًا؟ ليه كان لازم أكون أحسن واحد فى كل حاجة ليه ما حبتنيش زى ما أنا. يتناول العرض أيضًا تأثير الإعلام والسوشيال ميديا على تسليع البشر عبر برامج التوك شو، وتطبيقات السوشيال ميديا، التى تحفزنا على الفضح وانتهاج السلوكيات الشاذة وغير المتوافقة مع طبيعة وفطرة الإنسان وتحولنا لأداة دعاية لحصد أكبر قدر من المشاهدات، عبر شاب وشابة يفضحان أسرارهما للحصول على جائزة، حيث تختلط القيم والمعانى وتصبح الوقاحة صدقًا والفضح شفافية.
جماليًا، فقد قدم العرض فى إطار المسرح الفقير المعتمد بشكل أساسى على الممثل وقدراته، وتراجعت كثيرًا جماليات الصورة «الإضاءة والديكور»، لكن احتل الصدق كطاقة نور كل مفردات العرض المسرحى.
كما اتسم العرض بتناغم سيمفونى جماعى، فلم يحاول أى من المؤدين البروز على حساب الآخرين بل أدرك كل منهم دوره فى منظومة المعنى ولم يتجاوزها برغبة ظهور أو سعى وراء إضحاك أو إرضاء الجمهور، وينسحب ذلك على كافة مفردات العرض الأخرى على نحو ما من ديكور وأزياء وماكياج وموسيقى.
أما على مستوى الموضوع فيمكن تصنيف هذا العرض فى منطقة بينية: بين السيكودراما والسوسيودراما، والسيكودراما هو هذا النوع من المسرح الذى يستخدم الدراما فى العلاج النفسى وتحرير المريض من عقده حين يؤديها على خشبة المسرح ويجسدها أو حين يشاهدها وتتجسد دراميًا أمامه، أما السوسيودراما فهى نوع من المسرح يقوم بأدوار توعوية اجتماعية لدق ناقوس خطر وتوعية الناس بقضايا ذات أولوية مجتمعية.
لذا وجبت تحية تجربة هذه الفرقة لتصديها لهذا النوع من المسرح المنهك، ولاستعانتها وفق علمى بمختصين، لأن السيكودراما خاصة أو المسرح النفسى هى من أنواع المسرح الخطيرة التى لا يجب التصدى لها إلا عبر الاستعانة بمتخصصين لأنه ربما خلف كارثة إن لم يتم التعامل معه بحذر.
فيقال إن مورينو مؤسس السيكودراما حضر صفًا لفرويد، وسأله فرويد عما يفعل؟ فأجابه مورينو: «أنتَ تحلل أحلام الناس وأنا أعطيهم الدافع ليحلموا من جديد، أنتَ تقطعهم نفسيًا (عبر تحليلهم) وأنا أساعدهم ليقوموا بإعادة لصق هذه الأجزاء مع بعضها البعض».
فى النهاية نشد على أيدى المسرحيين الشباب الذى صار العديد منهم يطاردون الصور الجاذبة دون اعتناء بالموضوع والأفكار.. وندعوهم بمحاذاة هذا العرض أن يكونوا أكثر اتصالًا بواقعهم وقضاياه وأن يعالجوها فما أحوجنا إلى مسرح يقوّمنا ويغنينا فكريًا مثلما يؤثر فى أرواحنا جماليًا.