جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

غنيتُ مكة.. فى القاهرة

في مطلع الستينيات غنت القيثارة فيروز لمكة المكرمة من كلمات الشاعر اللبناني سعيد عقل قصيدتها الخالدة "غنيتُ مكة" وهي الأبيات التي تقول في مطلعها: غنيتُ مكة أهلها الصيدا.. والعيدُ يملأ أضلُعي عيدًا. وهي كلمات تصف فيها أهل مكة بالشجاعة وبأنهم من ذوي الكبرياء والأنفة الذين يتصيدون الضيفان لأجل إكرامهم ومن جماليات النص أن يقول عقل غنيت مكة في حين لم يقل غنيت لمكة، فصار الغناء - فيما يرى أهل اللغة - أكثر قربا وحميمية.
كما شدت كوكب الشرق السيدة أم كلثوم لمكة من كلمات بيرم التونسي، في رائعتها من ألحان رياض السنباطي القلب يعشق كل جميل: مكة وفيها جبال النور.. طالّة على البيت المعمور. كما غنّى لمكة أيضًا الرائع وديع الصافي قائلًا: بها كعبةُ الله طافت بها قلوبٌ تحنُ وأزهت عُصُر. فيا جبلَ النورِ كم ذا شهدْتَ من المعجزات وكم ذا ظهر تحدثْ ففي الغار شعّ اليقينُ وقد تٌنطق الذكرياتُ الحجر.
وعلى هذا النهج، تغنى لمكة كثير من الشعراء والمطربين، فقد غنى لها محمد عبده مؤخرًا "يا مكة" من كلمات ضياء خوجة ومن قبل غنت أسمهان وغيرها من كبار المطربين العرب وإن لم يكن الغناء لمكة مباشرة وإنما احتفاءً بموسم الحج الأكبر، والغريب أن طلال مدّاح وهو واحد من أبناء مكة وفيها دُفن لم يشدو لمكة كما فعل غيره! ولكن من مشاهير مكة من احتفى بها حتى ولو لم يكن بالغناء أو بالشعر ولكن بالنثر وقديمًا قال المثل العربي: "أهل مكة أدرى بشعابها".
وهكذا فعل الإذاعي الكبير عدنان صعيدي، رئيس إذاعة مكة المكرمة الأسبق، فقد وضع كتابًا احتفل بتوقيعه مؤخرًا في القاهرة حمل عنوان "سليمانية مكة وحكايات من زمن لن يعود" والسليمانية هو حي سكني تابع لبلدية مكة المكرمة يحده من الشمال حي الجميزة ومن الجنوب حي الروضة ومن الشرق حي المعابدة ومن الغرب حي الغزة.
وفي الكتاب - فيما يرى المعلق الكروي السعودي الأشهر علي داوود وأحد أبناء مكة المشاهير - يحكي المؤلف حكايات مكة، أكثر من اهتمامه بأن يروي حكاياته الشخصية، فجاء الكتاب سيرة للمكان أكثر من كونه سيرة إنسان.
وهو نفس ما فعله قبل أشهر الكاتب السعودي أحمد بوقري حين كتب هو الآخر كتابا أسماه "ظلال مكة" روى خلاله مجموعة من حكايات السير الذاتية، فجاء كتابًا عن المكان وليس توثيقًا لسيرة مؤلفه، وهو ذات المعنى الذي أكده صعيدي حين وصف كتابه على الغلاف بأنه كتاب سيرة ذاتية، مستدركًا: "إنه ذكريات عامة شهد أقراني أكثر منها فحفظت ذاكرتي ما استهواني، واهتم آخرون بما هو أجدى وانفع.. الحارة كانت كل حياتنا: ولادة ونشأة وتعليمًا وتزاوجا وربما عملًا لبعضنا".
وعن الكتاب يضيف صعيدي: "مكة المكرمة هي العالم كله خاصة في الحج، وفِي السليمانية نشأت وتربيت فالحارة تلعب نفس دور البيت في التربية في ذلك الزمن. ويتوقف عدنان صعيدي عند واحد من أهم معالم سليمانية مكة القديمة بالنسبة لأهل تلك الحارة. إنه دكان عمّ سالم العميري والذي كان - فيما يرى صعيدي مستودع أسرار أهل الحارة ووكالة الأنباء الموثوق بها.
فعمدة الحارة الشيخ عبد القادر جانشاه أودع الختم الرسمي عند عّم سالم ليختم أوراق أهل الحي دون مقابل مادي ولَم يذهب أي من سكان الحارة للعم سالم ليختم أوراقه دون كلمة سر من العمدة.
ويضيف: "دكان عّم سالم العميري مصدر رزقه و"جوجل" أهل السليمانية وصندوق بريدهم الذي تلقيت عليه رسالة القبول من إذاعة جدة بعد نجاحي في الاختبارات الإذاعية".
وهكذا يمضي بك الكتاب مستعرضًا الكثير من الذكريات المشوقة، والتي ترسم ملامح مدينة مقدسة تبدلت كثير من معالمها القديمة بعد أعمال التطوير والتوسعة المستمرة التي أدخلتها المملكة في محيط الحرم المكي. وهو التطوير الذي استدعى إزالة العديد من الآثار والمباني التراثية.
وبقدر أهمية الكتاب بالنسبة لأبناء مكة، فهو في ذات الأهمية لغيرهم بما في ذلك نحن المصريين وغيرنا من ضيوف الرحمن، إذ لم نشغل أنفسنا كثيرًا حين زرنا مكة بالتجول في حواريها القديمة أو التنزه في شوارعها بغرض السياحة، أو حتى بالتعرف على أهلها. فنحن حين نقوم بتلك الرحلة المقدسة لا نعبأ إلا بمقصد واحد، بيت الله الحرام ففيه نقضي الساعات الطوال آملين استغلال كل لحظة في رحاب الحرم لعلنا ننال من لطف الله وكرمه على ضيفانه فتمسنا رحمات الله وتجلياته.
أما من حضر حفل توقيع الكتاب من الشخصيات العامة من المصريين فقد كان مكمن سعادتنا - علاوة على الكتاب ذاته - هو اختيار كاتبه أن يكون حفل التوقيع الأول في رحاب القاهرة. وأنا أعلم كم هي بالنسبة للكاتب والإذاعي عدنان صعيدي، فهي موطنه الثاني - كما يقول دائمًا - وفيها يقضي أشهرًا طوالًا من كل عام وخاصة بعد أن بلغ سن التقاعد.
وهي كذلك بالنسبة لعدد كبير من الإعلاميين والدبلوماسيين ورجال الأعمال السعوديين الذين شاركوا الرجل الاحتفال بإصدار كتابه الرابع، فالقاهرة لا تزال هي حضن العرب ومحل اهتمامهم ومنصة انطلاق إبداعاتهم، وهكذا تتحول علاقة العرب بقاهرة المعز من مجرد الكلام الجميل إلى الفعل والمعايشة. وعلى هذا فنحن نتشوق إلى كتاب لهم يتشاركون في إبداعه عن علاقتهم بالقاهرة وندعو الناشر المثقف صالح الديواني أن يكون هذا المشروع على رأس قائمة اهتماماته في المرحلة القادمة.