جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

مصر فوق الجميع

أى حادثة لا يمكن الحكم عليها إلا بعد تحقيق قضائى موثق يبحث التفاصيل ويستمع للشهود ويدقق الوقائع ويتثبت من الروايات لكن هذا لا ينفى أن هناك عدة ثوابت لا بأس أن نتذكرها جميعًا ونذكر أنفسنا بها.. وأول هذه الثوابت أن السلطة عبء أخلاقى على صاحبها ما دام حريصًا على أن يلقى الله بوجه سليم.. بمعنى أنه يلزم نفسه بأشياء لا يلزم الشخص العادى نفسه بها.. فإذا كان الشخص العادى من حقه أن يغضب فإن الشخص القوى عليه أن يكبح غضبه.. وإذا كان الشخص العادى من حقه أن ينفعل فإن الشخص فى موقع السلطة عليه أن يضع أعصابه فى ثلاجة ويتحلى بالثبات الانفعالى لأقصى درجة ممكنة.. وإذا كان للشخص العادى أن يستجيب للاستفزاز ويشتبك مع من استفزه فإن الشخص فى موقع السلطة عليه أن يلتزم بالقانون طريقًا وحيدًا لاسترداد حقه.. خاصة أنه يملك من الوعى والتعليم والمكانة ما يجعل الحل القانونى سهلًا بالنسبة له.. تتضاعف هذه المسئولية إذا كان الشخص القوى ينتمى لمؤسسة يضعها المصريون تاجًا فوق رءوسهم ونبضًا فى قلوبهم.. إنه هنا ممنوع عليه أن يدخل فى خصومة مع أى من أفراد هذا الشعب لأنه ينزل بمكانته من مكانة الرمز الحامى إلى الند أو الخصم أو المعتدى.. وهى إساءة كبيرة يسىء بها هذا الشخص لنفسه أولًا وللمؤسسة العظيمة التى ينتمى إليها ثانيًا.. يضاف إلى هذه المسئولية الأخلاقية مسئولية أخرى عامة.. وهى أن الجميع يدرك- بمن فيهم الشخص صاحب القوة- أننا مستهدفون من أعداء كثيرين- وأنهم يجوبون الفضاء الإلكترونى ليل نهار بحثًا عن واقعة يمكن استخدامها فى الإساءة لمؤسسات الدولة المصرية الوطنية أو لأى شىء فى مصر.. وإنهم فى سبيل هذا سيضخمون أى حدث مهما كان ضئيلًا.. ويشعلون النار فى أى حادثة مهما كانت فردية وسيستغلون أى حادث لبث مشاعر الكراهية تجاه من يقدمون التضحيات بالدماء والأرواح لحماية أمن البلد.. والمعنى هنا أن تصرفًا واحدًا خاطئًا من الشخص صاحب السلطة استخدم فى الإساءة لأرواح شهداء أبرار قدموا أرواحهم فداءً لهذا الشعب على عكس ما يحاول أن يصور طيور الظلام. 

ومع ذلك فإن علينا أن لا نعلق المشانق لمن أخطأ- إذا أثبت التحقيق أنه أخطأ- فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.. وكلنا بلا استثناء نواجه هوى النفس أو مشاعر الكبر التى يزينها لنا الشيطان بعد أن نحرز نجاحًا ما فى حياتنا.. كأن نحقق ثروة كبيرة أو منصبًا مهمًا أو وظيفة ذات رونق.. إن من أكثر القصص التى أحبها للشيخ الشعراوى، رحمة الله عليه، قصة قال فيها إنه ذهب لمحاضرة فى جامعة القاهرة فوجد عشرات الآلاف فى انتظاره ويهتفون باسمه.. فتركهم ودخل إلى دورة المياه وشرع فى تنظيفها حتى يذكر نفسه بأنه بشر وأن العظمة لله وحده.. وهو تصرف أظنه من تأثير الرافد الصوفى فى شخصية الشيخ الشعراوى.. والمعنى أننا جميعًا نشعر بالكبرياء والخيلاء والعظمة وهذا كله من فعل الشيطان أو من فعل النفس الأمارة بالسوء.. وأن الأذكياء والصالحين هم من يقاومون هذه المشاعر التى تسىء للإنسان قبل أن تسىء لغيره وتورده موارد الهلاك من حيث لا يدرى، وتبدل مشاعر من يتعامل معه من الحب والتقدير إلى الكراهية والمقت.

ويبقى بُعد ثالث وعام ولا علاقة له بواقعة محددة وهى أننا نعيش منذ حكم الرئيس السيسى فى دولة القانون.. فلا استثناءات ولا خواطر شخصية ولا مراكز قوى من أى نوع.. ذلك أن تعهد الرئيس السيسى للمصريين وهو وزير للدفاع بأن أحدًا لا يمكن أن يمسهم لم يكن يشمل الإرهابيين فقط بقدر ما يشمل أى شخص تزل قدمه عن دوره الصحيح والمرسوم له لسبب أو لآخر.. إننى من المؤمنين بأننا فى مصر أقرب لأسرة واحدة تقوم العلاقات بين أفرادها على الحوار والتراحم والتضامن شريطة ألا يخل ذلك بسيادة القانون وبمبدأ الكرامة الإنسانية ولكنى من المؤمنين أيضًا بأن الصلح هو خير الحلول وأن العفو من شيم الكرام شريطة أن يعتذر من أخطأ وأن يطيب جراح من أساء إليه وأذاه وأن يكون اعتذاره لنفسه أولًا لأنه أساء لها إساءة بالغة لن يعرف مداها إلا بعد أن يخط الشيب فوديه.. وللمؤسسة العظيمة التى ينتمى إليها والتى لا ترحم من يثبت خطؤه من بين أبنائها والشهداء الأبرار الذين اُستخدم الحادث الذى كان طرفًا فيه فى محاولة الإساءة لهم ولمكانتهم فى قلوب الشعب.. وأن يعتذر أخيرًا للناس العاديين الذين حول نفسه من سند ودرع لهم إلى خصم يطلبون عقابه ويرجون حسابه.. وهى خسارة كبيرة جدًا جدًا له قبل أن تكون لأى أحد آخر.