جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الدولة المدنية وصلابة البنية الداخلية للوطن

لا شك في أننا نعيش لحظات حرجة من تاريخ مصر، لحظات تنادي كل قلم مصري أن يسكب ذروة مصريته على الورق، لحظات تستنفر فينا مصريين ومصريات، أعز ما نملك وأشرف ما نكون، ألا وهو الرأي الحر الخالص لوجه مصر.
علينا في البداية أن ندين ما تشهده مصر من إشاعات وتشهير و"صيد فى الماء العكر"، على وسائل التواصل الاجتماعى إلكترونية وغير إلكترونية، تقوم بها جماعات سياسية إرهابية مع جنودها المرتزقة المضحوك عليهم أو المقتنعين بفضل الدولارات المنهمرة عليهم، ترتدي عباءة الدين تتكلم باسم الله، تهدد وتروع وتشكك وتحرض حسب أهوائها ومصالحها.
تدفع الشباب والشابات المجهلين إلى إثارة الفوضى، بينما هم يعيشون خارج مصر فى رفاهية ورغد العيش، لديهم الزوجات والمال والبنون والقصور والمدخرات والجوارى وما ملكت أيمانهم، ولديهم أيضًا خطط للتخفى والتنكر والهروب أينما شاءوا، ومتى أرادوا.
يريدون العودة إلى عصور ما زالت في ذاكرتنا من حيث كان الدين سوطًا، يضرب جسد وعقل الإنسان في حركته المبدعة نحو التقدم والحرية، أزمنة من التاريخ، لا علاقة لها بمصريتنا المتصالحة مع الفرح والفن والضحك والحب والانفتاح والانطلاق واحترام النساء.
كثيرًا ما تغنينا أن "حب الوطن" فرض علينا، نحن الآن في وقت نحتاج فيه أكثر من أي وقت مضى، إلى أن نترجم فريضة حب الوطن إلى تساؤلات جريئة، تطرح التردد والتجزئة جانبًا، لنواجه الأمور مواجهة مباشرة متكاملة الأبعاد.
إلى أي مدى، نقول إن ما يحدث هو مؤامرة دخيلة مصدرة إلى مصر، تحركها قوى خارجية، تهدف إلى ضرب الاقتصاد وتخريب السياحة وإشاعة جو من الإرهاب، وقبل أي شىء آخر عرقلة  النهضة المتصاعدة؟
والعرقلة تعني في المقام الأول، وضع تجربتنا فى النهضة والبناء في مأزق حضاري، يجعلها تتصور- ولو لفترة مؤقتة- أن إنجازات النهضة وتوفير الأمن، أمران لا تناغم بينهما، ويدعوها للتشكك في أساسها الجوهري "والذي تدعمه خبرات الشعوب" ألا وهو، أن البلد الأكثر نهضة هو البلد الأكثر أمنًا.
وإلى أي مدى نقول إن ما يحدث هو تراكم أو رد فعل، لإحباط بعض الشباب ووصولهم إلى طريق مسدود، حيث غياب الاحتياجات الأساسية في حدودها الدنيا تلك الاحتياجات التي تخلق بدورها الحد الأدنى الضروري للإحساس بالكرامة الإنسانية؟
والحديث عن الكرامة في الوطن ليس حديثًاً مترفًا كما قد يظن البعض، فكرامة الرجل في وطنه، وكرامة المرأة في وطنها هي التي تصنع الانتماء الفعلي كإحساس، ثم يجسد في سلوك يظهر الخوف على الوطن، والاستعداد لتحمل ما يمر به من مشاكل أو أزمات، ولن نبالغ ونقول إن سعادة الإنسان هو الوجه الآخر لإحساسه بكرامته في وطنه، ولكننا على الأقل نستبعد السعادة دون دخول الكرامة كأحد مكوناتها الأساسية.
نحن أبعد ما نكون عن استبعاد قوي خارجية منظمة تتحرك على نطاق العالم بأسره، شبكة محكمة فاسدة خيوطها هي إحياء الحروب الطائفية والأهلية لترويج الأسلحة وبلبلة الاستقرار، تدعيم وتمويل حركات إحياء التراث الدينى والثقافى واستخدام جسد المرأة إما لمخاطبة الإباحية، وإما مخاطبة العصور السلفية، تشجيع بؤر المخدرات والبغاء ونشر روح العنف والعدوانية.
ولأن هذه القوى تملك الأموال والنفوذ وآخر منجزات العلم والتكنولوجيا، فإنها تستثمر هذا كله، في إخضاع وإضعاف الشعوب السائرة نحو النهضة، ليس بالاستعمار العسكرى التقليدى الذى انتهى، ولكن بإشعال النعرات الدينية بالإعلام والثقافة والاستفادة من أى ثغرات تستطيع اختراقها.
هذه العناصر في علاقات ارتباط وتداخل، ولكن قد يبرز عنصر على حساب عنصر آخر حسب طبيعة وظروف البلد المستهدف.
ولأن مصر كانت ولا تزال نقطة مضيئة في منطقتها وبين جيرانها، ولأنها ليست استثناء لما يحدث في العالم، فمن الطبيعي أن تمتد إليها خيوط هذه الشبكة.
لكننا مع اعترافنا بشراسة هذه القوى، نرى أن المسئولية الأكبر، إنما تقع على البيئة الداخلية. فهي التي تخلق التربة الخصبة الملائمة لأن تجد الشبكة منْ يتحمس لها، ويمسك بأحد خيوطها "الأكثر ملاءمة لظروفه" ومنْ يصدق ما تروجه من شائعات وأكاذيب ويستجيب لما تقدمه من إغراءات، وما تنشره من عنف يناسب الطاقة الغاضبة التي بداخله والتي لابد لها من منفذ، إما تجاه الداخل أو تجاه الخارج.
نحن نشبه هذه القوى الخارجية بالفيروسات الكثيرة المتنوعة التي تملأ الجو المحيط بنا، وتقع خارج أجسامنا. هل إذا دخل أحد الفيروسات الجسم وتمكن منه، أنلوم الهواء أم  نلوم جهاز المناعة الداخلي؟
المنطق يقول أن مسئولية جهاز المناعة داخل الجسم، هو المسئول الأول، فالهواء لن يتغير، والفيروسات ستظل منتشرة فيه.
وهناك جسم تمر بجانبه الفيروس نفسه ولا يصيبه بشىء تمامًا مثل محاولات ضرب الشعوب التي يتجدد ظهورها أو كمونها حسب درجة مناعة الشعب المستهدف، هناك بلاد تعلمت الدرس من التاريخ وأغلقت جميع الثغرات التى يمكن أن تخترق، أى أنها ضاعفت مناعتها وقدرتها على المقاومة.
والدليل على ذلك، أن جماعات التطرف والإرهاب والإفساد ظهرت وترعرعت في البلاد وفي المناطق التي يتضح فيها أكثر من غيرها، مظاهر عدم العدالة الاجتماعية، وغياب الحدود الدنيا للحياة الآدمية الكريمة، تمامًا مثل أي مرض عضوي حين يبدأ بأضعف الأماكن في الجسم، ويركز عليها.
فأقطاب هذه الشبكة الدولية لهم تاريخ طويل من التدريب والخبرة، يؤكد لهم أن النجاح يكون مضمونًا أكثر، إذا كان العدو من الداخل وهى حقيقة، أحيانًا ما تنساها الشعوب.
فبعد استقلال المستعمرات عن الدول الإستعمارية بفعل الثورات وحركات التحرير، اختفى العدو الخارجي الظاهري والملموس في شكل احتلال مباشر للأرض، ولأن العلاقة بين الدول الكبرى والصغرى لن تتغير في جوهرها، وبقيت بعد الإستقلال علاقات تسعى إلى السيطرة والاستغلال أكثر منها إلى التعاون والعدالة، فمن المنطقي ظهور عدو أو مجموعة من الأعداء غير ظاهرية، تقوم بأنواع مستترة من الممارسات التي- جوهرها- نسخ معدلة من الفكر الإستعمارى، نسخ أكثر مرونة، وأكثر قدرة على التخفى، والتأقلم مع الظروف المتغيرة، عالميًا وداخل كل بلد على حدة.
وهذا الفكر الاستعمارى فى نسخته المستحدثة لابد أن يقوى ويتحالف بالضرورة مع التيارات الدينية بجميع أطيافها وامكانياتها ونطاق نشاطها.
إنها إذن البنية الداخلية التي لابد لنا أن نواجهها ونوليها الإهتمام والأولوية، حتى تكون بحق الدرع الواقية لسلامة الوطن، والصخرة الصلبة التي تتحطم عليها هذه المحاولات الخارجية.
لست أحب كلمة "المؤامرة" لكن تدلنا صفحات التاريخ، أن التاريخ قديمًا وحديثًا هو حرب لنهب الموارد وفرض السيطرة، إما سلمية أو بالدم، إذن هى ليست مؤامرة بقدر ما كونها حركة مصالح استغلالية بين "قوى" و"ضعيف".
في مواجهة للبنية الداخلية، قيل وكتب الكثير عن الفقر والبطالة وحصار المشكلة الإقتصادية التي يصاحبها ويزيد من خطورتها الإنفجار السكاني، نحن لا نتجاهل  قيمة الخوص في مشاكل الإقتصاد، لكننا نعتقد أن الدول جميعها بأشكال ودرجات متفاوتة، ستظل تواجه تحديًا مستمرًا فيما يخص العلاقة بين البشر والموارد وفيما يتصل بالتوازن المطلوب بين الاستهلاك والإنتاج.
نحن نفضل مناقشة البنية الداخلية للمجتمع المصري، من منظور الفكر وليس الاقتصاد، أو من منظور ما سنسميه إشكالية الفكر، أكثر منه إشكالية الاقتصاد، ونقصد بإشكالية الفكر، الفلسفة التي اختارتها مصر،  لتكون عنوانها في الحاضر وفي المستقبل.
نحن نزعم أن غياب الفلسفة أو عدم استقرارها أو عدم وضوحها أو عدم تغلغلها في صميم تفكيرنا ومشاعرنا وسلوكنا، لهو من الأسباب الرئيسية التي تصيب مناعة الشعب في مقتل، وتؤثر في مدى رخاوة أو صلابة البنية الداخلية، الآن أكثر من أي وقت مضى، لابد أن نتساءل عن البوصلة الفكرية التي تحدد بطاقتنا الحضارية.
وهنا أقصد أننا فكريًا وفلسفيًا اخترنا "الدولة المدنية" هذا صحيح لكن الواقع- وهذه هى الأزمة- يتأرجح بين الدولة الدينية والدولة المدنية، وهذا أكثر خطورة من ارتفاع الأسعار والسكان الذين يأتون بطفل كل 20 ثانية وتدهور البيئة والمناخ.
لقد آن الآوان أن تتجمع كل القوى الوطنية العقلانية المستنيرة في مصر بكل اتجاهاتها، وقطاعاتها، وفئاتها ومجالاتها، لترفض عبر حوار ديمقراطي مفتوح، هذا التأرجح بيد الدولة الدينية والدولة المدنية.
وهذا الرفض الذى يجب أن يتم تفعيله من كل مؤسسات الدولة، وهنا أقترح ما يلى:
1. إلغاء قانون ازدراء الأديان.
2. تغيير المادة الثانية من الدستور، فالدول لا ديانة لها.
3. تجنيب المؤسسات الدينية عن الادلاء بدلوها فى شئون المجتمع والقوانين والتشريعات، وإصدار فتاوى تعارض التوجه المدنى، وترسخ  التأرجح بين الدولة الدينية والدولة المدنية أو إذا قالت فتوى، فلابد أن تتماشى مع الاختيار المدنى، ومع صالح ترسيخ دولة الصواب والخطأ والقانونى وغير قانونى، وليس دولة الحلال والحرام.
4. اعتماد قانون الأحوال الشخصية والمواريث وشهادة النساء فى المحاكم، على أسس مدنية منسجمة مع المواطنة والعدالة الكاملة بين الجنسين.
5. وقف الانفجار السكانى- 3 مواليد كل دقيقة- لأنه يزيد الفقر والبطالة وهما التربة الخصبة لشغل جنود الدولة الدينية والمنظمات الإرهابية، لابد من تشريع قانون يعاقب من ينجب أكثر من طفل واحد أو طفلين عقابًا رادعًا عاجلًا.
6. انشاء شركات مملوكة للدولة، شركات وطنية تنتج المزيد من الأفلام الروائية التى تنسجم مع ترسيخ مفاهيم الدولة المدنية المتكاملة دون تأرجح.
7. انشاء جهة رقابية على الفنون المرئية والسمعية والمقروءة، التى تهين الفن وتحقر من شأن الفتيات والنساء والسفور.
8. إصدار تشريع عاجل بعقاب صارم رادع عاجل ناجز لذبح الفتيات والنساء بسبب عدم وجود غشاء البكارة، فكما هو معروف أن دار الإفتاء المصرية قد أصدرت فتوى العام الماضى بأن ترقيع غشاء البكارة للفتاة يجوز شرعًا.
9. إلغاء كشوف العذرية للفتيات والنساء.
وسوف أعطى مثلًا واضحًا يحدث كل يوم، مثلًا علاقتنا بالفن، مصر رائدة وملهمة لكل منطقتها، بفنونها المختلفة وآدابها، السينما والمسرح والأغانى والمسلسلات والرقص والروايات والشِعر وغيرها من الابداعات التى جعلتها وردة الوطن العربى، وأطلقوا عليها "هوليوود الشرق".
وهى تسمية حقيقية تعكس واقعنا الذى يحترم ويقدر ويثمن الفن وأهل الفن رجالًا ونساء، هل مازالت مصر "هوليوود الشرق"، وكل يوم نسمع ونشاهد التشهير والشتائم للفنانين والفنانات على الأخص؟
وأعتقد أن رأى المؤسسات الدينية الذى نعرفه جيدًا من تصريحاتها وفتاويها أن الاشتغال بالفن خاصة من قبل الفتيات والنساء وخاصة لو كن غير محجبات هو أمر يستلزم التوبة والاعتزال، كما حدث مع الكثير من الفنانات بالفعل.
والكثير من وسائل التواصل الاجتماعى مخصصة فقط  للتطاول البذئ على النساء الفنانات، وكيف أن الفن حرام وفسق وفجور وانعدام أو قلة دين وعدم خوف من ربنا ونار جهنم.
وكيف أن هذه القنوات الإعلامية تنتظر وتتربص بأى خطأ بسيط من أى فنانة بخاصة غير المحجبة، لكى تنهال عليها بالإشاعات الرخيصة التى تسئ إلى سمعتها، وسمعة الوسط الفنى بأكمله.
مثال آخر، رأى المؤسسات الدينية أن الحجاب فرض وليس عادة فى زمن معين، فى الدولة المدنية ليس من المفروض أن يحدث هذا ولا أن تسمع النساء أنهن عندما يلبسن ملابسهن، يجب أولًا أخذ الفتوى الشرعية.
ماذا نسمى هذا، أليس تأرجحًا بين الدولة الدينية والدولة المدنية؟
وهناك أمثلة كثيرة وعديدة، تؤكد هذا التأرجح بين الدولة الدينية والدولة المدنية ويجب أن تتوقف تمامًا، فهى السبب الرئيسى الأساسى فى أضعاف البنية الداخلية التى ذكرتها سابقًا، وشل مقاومتها على إغلاق الثغرات الداخلية الصالحة للاستغلال والتحدى واللعب فى عقول الناس، وتعطيل مسيرة النهضة.
نحن على يقين بأن مصر ثرية بالعقول المبدعة الشجاعة المخلصة رجالًا ونساء من جميع شرائح وفئات ومهن وأعمار وتخصصات العلوم والفنون والآداب، التي يمكنها حسم هذا التأرجح نهائيًا لصالح الدولة المدنية لكى تقوى مناعتنا الذاتية لصد أشرس الهجمات حاضرًا ومستقبلًا.
وهذا بالتأكيد سيؤدى إلى الثورة الثقافية والأخلاقية التى توازى الثورة السياسية التى قام بها الشعب المصرى وانحاز له الجيش المصرى الوطنى فى جميع مراحله التاريخية فى 30 يونيو 2013.
من بستان قصائدى 
عندما يجيئكم خبر مماتى 
لفونى بصفحات قصائدى 
اعطوا خصلات شَعرى 
لمنْ أحبنى وعشق كلماتى  
لا تضعونى فى نعش مغلق 
بل احرقوا جثتى 
وفى البحر الفيروزى  
القوا بكل رفاتى 
عندما يجيئكم خبر وفاتى 
غنوا ارقصوا 
حتى ثمالة الفرح 
مارسوا عناق الحب 
حتى ولادة توأم متطابق 
ذكر اسمه العدل 
أنثى اسمها الحرية 
تشبثوا بذواتكم المتفردة 
هكذا تحققون نبوءاتى