جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

غواية المستديرة التى سحرت العالم

أكثر من ٢٥٠ مليون شخص فى العالم يلعبونها.. فما بالك بأولئك الذين يتابعونها فى الملاعب والمقاهى وفى البيوت.. كرة القدم صارت كونها أكبر من مجرد لعبة.. صارت صراعًا عالميًا من نوع جديد وعادت كما بدأت.. أو هكذا تبدو فى بعض الأحيان. كثير من المتعة. قليل من الفوضى التى تحتاج إلى آلاف الحكام لضبط إيقاع ما يجرى.

لا أحد يستطيع أن يهرب من محبة هذه المستديرة التى قيل إنها بدأت بكرة من الحجر- بعض الباحثين يؤكدون وجودها فى زمن الأسرة الحادية عشرة فى مصر القديمة- وهناك دلائل منها «كرة حجرية» فى المتحف المصرى بالتحرير، هذه القطعة من الحجر.. أصبحت قطعة من الكتان ثم سرعان ما تحولت إلى المطاط.. حتى وصلت إلى شكلها الحالى.

لعبها الصينيون فى زمن قبل الميلاد.. يقال بحوالى مائتى سنة.. ولعبها اليونانيون قبل أن يدركها الإنجليز وتصبح غايتهم الأولى ويصبح قانونها إحدى سمات شوارعها.

من كامبريدج.. خرجت أول قوانين كرة القدم.. قيل إن المدرسين فى مدارس هذه المدينة الإنجليزية.. هم الذين دعوا عام ١٨٠١م إلى قانون يحكم هذه اللعبة ويمنع الفوضى.. فما يذكره الباحثون أن البدايات كانت من أجل الاحتفال.. ثم تطور الأمر إلى مساعدة الرجال فى تقوية أجسادهم ليتم تأهيلهم للرماية والفروسية، وقيل إن الجنود الإنجليز احتفلوا بفوزهم فى الحرب على الدنمارك بتقاذف أجساد الجنود المهزومين.. الرقص بالجثث يعنى.. وقيل أيضًا إن النساء فى الأزمنة القديمة لعبن كرة القدم لإرضاء الرجال.

أيًا كانت الغاية.. لم يكن هناك قانون، كان الأمر كله متروكًا لاختراعات اللاعبين وأمزجتهم وحالتهم ساعتها.. ولأن كل شىء لا يضبطه القانون يتحول إلى كارثة فلا بد من أن يتدخل الساسة وأهل الحكم.. وهو ما فعله الملك إدوارد الثانى عام ١٣١٤ ميلادية عندما أصدر قانونًا يجرم لعب كرة القدم.. ثم عاد الملك جيمس الأول عام ١٥٥١ وسمح بعودتها بعد رجاءات متكررة من شباب الإمبراطورية البريطانية.. ثم عادت الملكة إليزابيث لتمنع ممارسة هذه اللعبة المجنونة عام ١٥٧٢ وقررت معاقبة من يخالف قانونها بالحبس لمدة أسبوع، لكن الشعب فعلها وتمرد على قانون الملكة.

سنوات طويلة من الفوضى.. من اللعب حتى تم تنظيم اللعبة.. وأصبحت لها قوانينها التى تطورت من عام إلى آخر.. لكن «الفوضى» لم تتركها.. كثيرًا ما اخترقت النظام.. خاصة حينما دخلت إلى عالم الكرة ظلال من عالم السياسة.. وكثير من عالم الاقتصاد.. لم يعد الأمر مجرد لعبة.

لماذا نعود إلى تلك القصة فيما العالم يراقب من سيصعد إلى دور الستة عشر.. ومن سيرحل عن «الدوحة» عائدًا إلى بلاده مهزومًا؟ لماذا نتحدث عن القانون والمال والسياسة فيما تلك الملايين من الأطفال والنساء والعجائز يقفزون فرحًا لأن «كريستيانو» أحرز هدفًا؟

لأننا دومًا ما نجد هذه الظلال الرمادية الشخصية تحاصرنا وتقذف بنا فيما يريده بعض الذين لا يدركون معنى «الحياة» بتفاصيلها الصغيرة ومنها كرة القدم.

لأننى أجد الدهشة فى عيون الكثيرين ممن يتمنون فوز الفرق الإفريقية والنامية فى مواجهة «أصحاب الدم الأزرق».. لقد حول بعض المعلقين الملاعب إلى ساحات حرب.. وسادت مفردات مثل «الموقعة الكبرى».. و«مباراة الثأر» ودخل أحدهم بحماره وهو يدعو فى الافتتاح من منصة «بين سبورت» برد الكيد إلى النحر لمن أسماهم من يريدون السوء بالبلد المنظم.

سيطرت السياسة على مباراة إيران وأمريكا.. قبل أن تبدأ المباراة.. وبمجرد أن انتهت كان الكثيرون يعلقون بأن لاعبى الفريقين خرجوا «حبايب» وأن لاعبى أمريكا كانوا يواسون لاعبى إيران بلطف!! قالوا ذلك فى دهشة.. مثلما اندهش العالم لأن منتخب السنغال الإفريقى صعد مع الكبار.. وربما يصعد المغرب وغانا أيضًا.. وكتب بعضهم «الفقراء يمتطون كرة كأس العالم».

لقد وضع «الله» محبة هذه المستديرة فى قلوب الجميع.. ولم يقل إنها للأغنياء فقط.. يلعبها الجميع فى الشوارع الغنية وفى الشوارع الفقيرة.. فى البلاد التى تمطر.. والبلاد التى تحرقها البراكين.. لكن الساسة وأهل الاقتصاد لا يريدونها كذلك.. مثلما هو الحال فى أشياء كثيرة.

تطور الكرة فى إفريقيا ليس دليلًا على أن إفريقيا نفسها تنمو.. ونجاح مئات اللاعبين العرب والأفارقة فى ملاعب أوروبا وتميزهم ليس دليلًا على تميز بلادهم التى جاءوا منها.. لكن المؤكد.. أن المشاهدين- ونحن منهم- أمام الشاشات يريدونها كذلك.

يفرحون بفوز فريق إفريقى.. ربما لا يعرفون أين تقع دولته على الخريطة لمجرد الإحساس بأنه.. «شعب» مظلوم مثلنا.. شعب يكافح مثلنا ليعيش ويفرح.. الناس يريدون «عدالة السماء» فى ملاعب الكرة عوضًا عن عدالة مفقودة فى الشوارع والمصانع وغرف التجارة والبنوك ومقاعد البرلمان.

الناس ينتصرون لما يؤمنون به على المقهى لأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك فى العمل.. أو فى الحياة المهنية أو السياسية عمومًا.. لكن الذى يتفق عليه الجميع.. الذى يؤمن به الجميع هو أن «السماء واحدة» و«الأرض واحدة» وأنه يمكن «للفرقاء» أن يلتقوا ولو على ذلك «النجيل الأخضر».

فى هذه الحياة ما يستحق أن يعيش من أجله.. أن نحيا دون «ألم».. دون معارك أو ثأر أو ساحات حرب كما يردد بعض المعلقين الجهلة.. فى الحياة ما هو «أمتع» من مجرد «ركل كريستيانو» الكرة.

على كل حال هى مناسبة «جيدة».. لأن يعرف البعض أن تلك المستديرة التى نركلها بأقدامنا لتذهب إلى «الشباك» هى من «صنع أيدينا» مثلما هو العالم الذى نحيا.. نحن من نصنع السعادة نحن من نخلق الألم.. فافعلوا ما شئتم أو على الأقل فلنسع إليه.