جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

قراءة نقدية فى التفسير الماركسى لوسائل التواصل الاجتماعى

انهار كل التجارب السياسية التي اعتمدت على الماركسية وإضافات لينين في بناء الدولة وتنظيم المجتمع، وأثبت فشلها، ومع ذلك بقي كثير من أفكار ماركس حاضرًا ومؤثرًا في العلوم الاجتماعية والآداب والفنون. 

في هذا الإطار ظهرت مقاربات لتحليل وتفسير وسائل التواصل الاجتماعي من منظور ماركسي، أتصوَّر أنّ من المهم لباحثي الإعلام العرب والمتخصصين في وسائل التواصل الاجتماعي والمثقفين الاطلاع عليها، وهو ما سأحاول القيام به في عجالة مكثفة من خلال مناقشة أفكار أحد أهم ممثلي دراسات التواصل الاجتماعي من منظور ماركسي، وهو كرستيان فوكس Christian Fuchs، عالم الاجتماع الإعلامي النمساوي الأصل الذي يعمل أستاذًا في جامعة وستمنستر، ومدير معهد البحوث الإعلامية والاتصالات بها.

وعلى الرغم من أهمية إسهامات فوكس النظرية، وما أثاره من نقاشات علمية حول وسائل التواصل الاجتماعي ومجتمع المعلومات أو ما يطلق عليها من وجهة نظر يسارية عصر الرأسمالية الرقمية، فإنها تحمل كثيرًا من التأويلات والمبالغات والأخطاء، وهو ما سأوضحه في هذا المقال.

لم يعاصر ماركس وسائل التواصل الاجتماعي ولم يتوقع ظهورها أو حتى تخيّل طريقة عملها، لكن فوكس وبعض المنظرين من علماء الاتصال والإعلام والاجتماع أعادوا الحياة لماركس من خلال استخدام نظريته الأساسية عن فائض القيمة والعمل الاجتماعي المجاني غير مدفوع الأجر، في تفسير أرباح عمالقة التواصل الاجتماعي (تويتر، فيسبوك، إنستجرام، تيك توك وغيرها) والذين يعملون وفق النموذج الرأسمالي المعتمد على تكنولوجيا الاتصال والإنترنت وإمكانيات الويب 2، الذي أتاح للجمهور إنتاج المحتوى وتداوله.

ويعتبر فوكس Fuchs أهم مَن قدّم مقاربة ماركسية لوسائل التواصل الاجتماعي، حيث يفترض أن المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي، الذين تصل أعدادهم إلى أكثر من 5 مليارات إنسان أي ما يزيد على نصف سكان الكرة الأرضية- لأن بعض المستخدمين لديهم أكثر من حساب على وسائل التواصل الاجتماعي- يعملون دون أجر لدى عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي، حيث ينشرون أفكارهم وتعليقاتهم وصورهم ومقاطع فيديو ولا يتقاضون عنها مقابلًا ماليًا، وبعض المستخدمين يقضون ساعات طويلة في إنتاج ونشر هذه المضامين التي تجذب اهتمام مزيد من المستخدمين ومزيد من شركات الدعاية والإعلان.

والمفارقة أن هذا العمل المجاني لا يتوقف ليل نهار، ويجري في جو من السعادة والرضا، فالعمال هنا بحسب وصف فوكس هم المشتركون في وسائل التواصل الاجتماعي ومعظمهم يعمل بجدية وفي رضا ودون شكاوى، فهم لا يدركون أن هناك من يقوم باستغلال قيمة عملهم، وأن عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي تبيع المعلومات الشخصية والتفضيلات المختلفة لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لشركات التسويق والدعاية والإعلان، هكذا يصل فوكس إلى ما يطلق عليه الرأسمالية الرقمية، التي صنعت عالمًا خاصًا بها على المستويين المادي والرمزي، في هذا العالم ظهرت أشكال جديدة غير مدفوعة الأجر من العمل- مثل استخدام الفيسبوك وتويتر وتيك توك وغيرها للعمل الجماعي  للمستخدمين- فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يمكن أن نتعلمه من دراسة العلاقة بين الاستغلال في إطار العمل الرقمي غير المأجور؟.

بداية تجدر الإشارة إلى أن شركات التواصل الاجتماعي العملاقة تستثمر وتضخ أموالًا هائلة في تطوير خدماتها وتأمينها، وإتاحتها للجميع مجانًا، وتدفع في ذلك للعاملين بها رواتب مجزية، لكن كل هذه الاستثمارات أقل بكثير من أرباحها الناتجة على نحو رئيسي من بيع المستخدمين للمعلنين، والاستفادة من العمل المجاني غير مدفوع الأجر للمشتركين الذين ينتجون فائضًا من الصور والتعليقات، ولنا أن نتخيل وضعية يتوقف فيها المشتركون عن إنتاج مواد وصور وتعليقات، إذا حدث ذلك ستصبح وسائل التواصل الاجتماعي فارغة من المحتوى، وغير جاذبة للمعلنين أو المستخدمين، وسينهار عمالقة التواصل الاجتماعي خلال أيام قليلة. 

إن وسائل التواصل الاجتماعي تتسم بطابع خاص، إذ لا يتم استخدام المعلومات في الاستهلاك ومن الصعب استبعاد الآخرين من استخدامها ونسخها، وبالتالي فإن العمل الذي ينطوي عليه إنتاج الوسائط يتخذ أشكالًا غريبة، وعلى سبيل المثال يُعد الإعلان المستهدف نموذجًا مهمًا جدًا لتراكم رأس المال في عالم رأسمالية الإنترنت، ويعتقد فوكس أن الطبقة والنظام الأبوي والعنصرية هي أبعاد مهمة في عصر الفيسبوك والعمل الرقمي، لأن الأعمال المنزلية الرقمية هي أحد أشكال العمل اليومي الجمهور، وذلك رغم أن المستخدمين لا ينظرون إليها على أنها عمل وإنما نوع من التسلية أو الترفيه، لكن الحقيقية أنها في جوهرها عمل يدر أموالًا لعمالقة التواصل الاجتماعي، إنها مثل الأعمال المنزلية، غير مدفوع الأجر ومستغل، وينتج عنها سلع غريبة.

كما تلعب العبودية والعنصرية أيضًا دورًا مهمًا في الرأسمالية الرقمية، حيث أثبت كثير من البحوث أن منصات التواصل الاجتماعي تنشر وتروج لقيم عنصرية وتميز بين المستخدمين على أساس اللون والجنس.. إلخ.

ويشدد فوكس من وجهة نظر ماركسية جديدة على أن الرأسمالية الرقمية ممثلة في وسائل التواصل الاجتماعي والعمل الرقمي والاتصالات المتنقلة والبيانات الضخمة المرتبطة بها جزء من أحدث التطورات في الرأسمالية المعاصرة.

ويشكل العمل الجبري التطوعي غير المدفوع الأجر- وبخاصة عمل الأطفال- بعدًا مهمًا من أبعاد التقسيم الدولي للعمل الرقمي. كما تشكل العنصرية البنيوية والتمييز على أساس الجنس التقسيم الدولي للعمل الرقمي، حيث يرصد فوكس حقيقة أن الأشخاص الملونين في البلدان النامية يقومون بأكثر أنواع العمالة استغلالية كما أن أغلبها أعمال غير مستقرة، في المقابل تتشكل ما يطلق عليه فوكس «الطبقة الأرستقراطية العمالية الرقمية» التي تتكون من مهندسي البرمجيات عالية الأجر وهي في الغالب من الذكور البيض.

ويمكن القول إجمالًا إن الأعمال الإدارية والمعرفية التي تتطلب مهارات عالية وذات أجور عالية تميل إلى أن يهيمن عليها البيض في المقام الأول، بينما تميل مثلًا وظائف الخدمة غير المستقرة منخفضة الأجر في الولايات المتحدة إلى أن تكون مجالًا للسود.

كما تميل الخوارزميات التي تشغل وسائل التواصل الاجتماعي إلى إعادة إنتاج الأيديولوجيات العنصرية التي تميز ضد الأشخاص الملونين بناءً على افتراض أنهم فقراء، وبالتالي مستهلكون أقل قيمة من المستخدمين البيض. 

وتبدو أفكار فوكس هنا مبهرة خاصة أنها تستند إلى تحليل منطقي ومشاهدات يومية صحيحة، لكن عندما نفكر فيها بعقل بارد، وبمنهج نقدي، نكتشف أن هناك مغالطات عديدة أهمها أن استخدام المشتركين وسائل التواصل الاجتماعي ليس عملًا إجباريًا، أو عملًا إجباريًا تطوعيًا كما يقول، لأن هذا التعبير ينطوي على مغالطة منطقية، إذ كيف يكون هناك عمل إجباري وتطوعي في آن واحد؟، ولا شك أن إجبار العمال على العمل في المصانع بحسب النموذج الماركسي التقليدي، ومسألة فائض القيمة، تختلف تمامًا عن إقبال الجمهور على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي دون إجبار مادي أو معنوي. كذلك فإن الحديث عن التحيز الطبقي في تشغيل العمال والمهندسين لدى شركات التواصل العملاقة، علاوة على تحيز الخوارزميات، يتضمن بعض المغالطات لأن اختيار العمال والموظفين يتم على أساس التعليم والكفاءة، وبالتالي نجد مهندسين من السود يعملون في تلك الشركات دون تمييز أو استبعاد، كما أن الخوارزميات توزع الإعلانات على أساس القدرات الاقتصادية وعادات الاستهلاك للجمهور بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الثقافة.

ويمكن القول إن بعض أفكار فوكس ليست جديدة تمامًا فقد سبقه علماء اتصال واجتماع منذ الثمانينيات في الحديث عن أن توفير الوصول إلى وسائل الإعلام يعتبر هدية للمستخدمين ويتم بيع انتباه الجمهور كسلعة للمعلنين، لذلك ركزوا على شرح ونقد فكرتين مترابطتين عن عمل الجمهور وتسليع الجمهور، لكن فوكس يطور من هذه العلاقة، ويحلل تراكم رأس المال القائم على الإعلانات المستهدفة على منصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى يوتيوب وجوجل، ويقول استنادًا إلى المراقبة المستمرة وتحليلات البيانات الضخمة، يتم تخصيص الإعلان عبر الإنترنت، بمعنى إرسالها إلى نوعية محددة من الجمهور، كانت قد أبدت اهتمامًا بسلع أو خدمات معينة.

بكلمات أخرى ينتج عمالقة التواصل الاجتماعي البيانات كسلع تباع وتشترى، وتصبح بيانات وصور تفضيلات واهتمامات الجمهور من أهم مكونات تلك السلع.

ويشير فوكس إلى أن عمالة المستخدمين تنتج سلعًا من البيانات والصور، والأهم سلع من الاهتمام، هكذا جرى تسليع الاهتمام، والمتعة والتواصل بين البشر في عصر الرأسمالية الرقمية.

وفي كتاب حديث لفوكس صدر عام 2021 بعنوان عصر الرأسمالية الرقمية، يوضح سمات هذه الرأسمالية وعمليات الاحتكار وتركيز السلطة، ويعتقد أن ثورة الاتصالات والويب 2 أنتجت الرأسمالية الرقمية. 

وبالتالي لا بد من الانتباه والحذر والتفكير في بدائل أكثر عدالة وعقلانية عن النسخة الأحدث من الرأسمالية، أي الرأسمالية الرقمية.

ويرى فوكس أن ما يسمى الاشتراكية التواصلية هي البديل للرأسمالية الرقمية، لكنه ومن وجهة نظري يقع في مبالغات ترجع لتحمسه الأيديولوجي لكتابات ماركس، وقد أوقعه هذا الحماس في تفسيرات وتأويلات متعسفة لبعض العبارات والأفكار التي وردت في أعمال ماركس، مثل الادعاء بإمكانية استخدام كتابات ماركس لمناقشة الاشتراكية الاتصالية والشيوعية الرقمية، وبالتالي اقتراح أفكار وممارسات ممارسة اشتراكية قد تؤسس سياسة تحررية.

باختصار يرى فوكس أن الاتصالات الرقمية من مكونات المجتمع الرأسمالي المعاصر، ومن ثم يقترح من دون أدلة واضحة وعملية- أي يمكن تطبيقها- تعميم أفكار ماركس ابن القرن التاسع عشر على الثقافة الرقمية والاتصالات ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ويدعو فوكس إلى تسليط الضوء على كيف أن التكنولوجيا الرأسمالية هي وسيلة لزيادة الإنتاجية ووسيلة للتحكم والاستغلال.

ويخلص فوكس بدون براهين مقنعة أن ماركس توقع ظهور اقتصاد المعلومات.

أتصور أن مبالغات فوكس وتحيزه تتجلى في إصراره على اعتبار أن المعلومات والاتصالات هي أشكال من المادة، وأن إنتاج المعلومات جزء من عملية الإنتاج المادي، وهو أمر غير متفق عليه، ويدور حوله جدل كبير، حيث ناقش كثير من الباحثين هذه القضية وشككوا في إمكانية التعامل مع إنتاج البيانات وتسييلها على كونها أمور مادية.

على أي حال حاول فوكس كشف استغلال عمالقة التواصل الاجتماعي لجمهور المستخدمين، في سياق الاقتصاد الرقمي والثقافة الرأسمالية المعولمة، لكنه بالغ في الاعتماد على إطار نظري ماركسي تقليدي للغاية، يركز على مسائل الملكية والسلطة والهيمنة من دون اهتمام بالجوانب الثقافية ورؤية المستخدمين وحساباتهم.

إن الجوانب الثقافية في عمل وسائل التواصل الاجتماعي واستخدامات الجمهور لها، يطرح إشكاليات خاصة بثقافة وسائل الإعلام، وهي قضايا آثارها ريموند ويليامز في الخمسينيات، لكنها تبدو إشكاليات غير قابلة للحل، بمعنى ما إذا كان العنصر الاقتصادي في أي تحليل للثقافة يمكن أن يحدد أم لا، مضمون وشكل هذه الثقافة، أو بكلمات أخرى مدى ثقل وتأثير العنصر الاقتصادي ضمن عناصر أخرى. 

يقفز فوكس فوق هذه الصعوبة ولا يناقشها ويستعمل في تحليله مصطلحات مشتقة من حيث المبدأ من اعتبار الملكية والسلطة، وبالتالي الاستغلال في المقدمة، لكن هذه المعادلة قد لا تعمل بكفاءة لتفسير ما يجري في عالم التواصل الاجتماعي والراسمالية الرقمية ذات الطابع السائل وغير المادي، من هنا فإن أفكار فوكس الإصلاحية عن اشتراكية تواصلية تبدو خيالية تمامًا أو نوعًا من اليوتوبيا.