جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الكيل بألف مكيال

منذ نعومة أظافرى وأنا أقرأ أن الغرب يكيل بمكيالين فى موضوع حقوق الإنسان عمومًا، وفى التعامل مع العرب خصوصًا، لكننى عندما كبرت تأكدت أن الغرب يتعامل معنا بألف مكيال ومكيال وليس بمكيالين اثنين فقط، إن تقرير البرلمان الأوروبى عن حقوق الإنسان فى مصر يدفع للتساؤل أولًا عن نظرة الغرب لنفسه كناظر لمدرسة البشرية.. ووصى على شعوب الأرض، وطرف ثالث بين الحكومات وشعوبها وبين الشعوب وبعضها البعض.. إن حقوق الإنسان هى «قميص عثمان» الذى يرفعه الغرب وهو يهدف لأهداف أخرى تمامًا غير تلك اللافتة التى يرفعها.. تمامًا كما رفع بعض أقارب سيدنا عثمان، رضى الله عنه، قميصه الذى مات فيه فى حين أنهم يطلبون الحكم لا ثأر عثمان.. إننى أفهم أن حقوق الإنسان كل لا يتجزأ.. فأين كانت حقوق مليون عراقى راحوا ضحية الحرب الغربية على العراق والتى شنت نتيجة معلومات كاذبة عن وجود أسلحة دمار شامل اتضح أنها غير موجودة من الأساس؟.. وأين كانت حقوق آلاف الإيزيديات اللاتى تم اغتصابهن وبيعهن على يد تنظيم إرهابى ظهر بمباركة الغرب ونتيجة للأوضاع التى خلقها فى المنطقة؟ وأين كانت حقوق ملايين من اللاجئين السوريين الذين أجبروا على مغادرة بلادهم نتيجة حرب أهلية شجعها الغرب ومولها ودرب بعض أطرافها ليحول شعبًا مستقرًا ومنتجًا إلى شعب يعانى من آثار الدمار والتخريب، ويستخدم بعض أبنائه فى سد الفجوة العمرية فى بعض البلاد الأوروبية، ويجبروا على التخلى عن ثقافتهم وهويتهم الأصلية مقابل فرصة للحياة والعمل كتروس فى ماكينات الإنتاج الغربية؟.. أليس هذا اعتداءً على حقوق الناس فى الحياة والسكن والشعور بالأمن وعدم تغيير المعتقدات الأصلية؟.. إن محاولة تطبيق معايير أى ثقافة على ثقافة أخرى هى ضرب من الخبل والتفكير القاصر يشبه تركيب رأس إنسان على جسد إنسان آخر.. فتكون النتيجة مسخًا مشوهًا.. لقد تحدثت عشرات الكتب عن استخدام الغرب لحقوق الإنسان فى السياسة، إنها مطواة صغيرة يخرجها من جيبه ليبتز بها الأنظمة والشعوب.. ويضغط عليها لتحقيق مصالحه.. وهو فى سبيل هذا لا مانع لديه من إنفاق بضعة ملايين من الدولارت لخلق نخب تابعة، وعملاء فى صورة نشطاء يمدونه بالمعلومات اللازمة لصياغة تقاريره، وهم فى هذا يشبهون طائفة «الخرتية» وهى طائفة كانت تعرفها مقاهى القاهرة فى التسعينيات.. شبان عاطلون عن العمل وفقراء.. يكسبون رزقهم بالتعرف على السائحين والسائحات الأجانب وتأدية أى نوع من الخدمات لهم.. أى نوع.. ما دام هناك دولارات سيتم دفعها فى النهاية.. لو كان الغرب ينظر بعين الإنصاف لأشاد بالخطوات الواسعة لإقرار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمصريين، ولأشاد بمشروع مثل «سكن كريم» وبالقضاء على العشوائيات، وبأشكال الرعاية التى ينالها أبناء هذه المناطق بعد تطويرها ونقلهم منها.. لو كان الغرب ينظر بعين الإنصاف لشجع الإصلاح المتدرج، ولقال إنه يتفهم الدوافع التى دعت للإجراءات الاستثنائية، حيث كان كيان الدولة فى خطر، والإرهاب يحاول إسقاط مصر والدول المعادية تعمل ضدها، ولقال إنه بمجرد السيطرة على خطر الإرهاب تم إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وإلزام جميع الوزارات والهيئات على العمل بها، لو كان الغرب ينظر بعين الإنصاف لثمن خطوات الإفراج عن المعتقلين وأشاد بفكرة الحوار الوطنى، ولكنه يترك الإيجابيات ليضخم فى ما يظنه سلبيات.. شىء غريب جدًا أن يعتبر الغرب أن دعوة شخص ما لاغتيال ضباط الشرطة أمر يندرج تحت حرية الرأى والتعبير، أو أن يعتبر أن دعوة الناس لممارسة العنف هو نشاط سلمى ما دام صاحبه لا يملك مخزن أسلحة سريًا أو لا ينتمى لتنظيم القاعدة مثلًا.. لا توجد دولة فى العالم تسمح بالدعوة لإسقاط مؤسساتها وقوانينها بما فيها الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى.. وحل هذه الحالة وغيرها هو الحوار السياسى بحيث تطمئن الدولة أن من تفرج عنه لن يعود للدعوة إلى العنف مرة أخرى.. الفكرة أن تقرير الاتحاد الأوروبى يسوق أقوالًا مرسلة ويتبنى آراء أهالى بعض ضحايا الحوادث، أو المحبوسين، ومن الطبيعى جدًا أن يتعاطف هؤلاء مع ذويهم.. لكن هل يملك الاتحاد الأوروبى أجهزة تحقيق وجمع معلومات؟ إنه فى هذه الحالة يمارس نشاطًا تخابريًا لا حقوقيًا إذن.. هل سأل الاتحاد الجانب المصرى وسمع إفادته قبل أن يصدر التقرير.. هذا إذا قبلنا أن هذا من حقه؟ أو لو قلنا إن سؤاله مجرد استفسار؟ فى الحقيقة لا.. هو يجمع بعض معلومات من بعض «خرتية» حقوق الإنسان ويضعها فى تقرير ثم يعلنه فى وسائل الإعلام.. أهلًا وسهلًا.. تقريركم بلا مصداقية، ولا احترام، ولا قيمة أدبية.. إلا إذا كنتم تريدون استخدامه فى الضغط والابتزاز.. هذا موضوع يخصكم.. من فضلكم ادرسوا ملفات النازيين الجدد.. وكراهية المهاجرين.. والاعتداءات الجنسية على الأطفال فى أكبر المؤسسات، وإجبار النساء على تقديم الرشاوى الجنسية بالإجبار.. وأشياء أخرى كثيرة جدًا.. فتعالوا نتعاون من أجل الإصلاح عندكم وعندنا إذا أحببتم.. فهذا أفضل بكثير.. هذا إذا كنتم تريدون الإصلاح فعلًا..