جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

لغز اختفاء «الوقائع» فى دار الكتب

منذ ما يقرب من عام هاتفنى مدير أحد المستشفيات الحكومية بالصعيد يستنجد بى.. لقد ضاع «ختم» المستشفى وتعطلت أحوال المرضى.. والمديرية تبعهم طلبت نشر محضر بواقعة اختفاء «الختم» فى صحيفتين قوميتين واسعتى الانتشار.

طمأنت الرجل بأن الأمر لا يوجب كل ذلك الذعر وهذا أمر معتاد فى مثل هذه الأحوال.. الأهم ألا يتوقف حال المرضى الذين يحتاجون إلى قرارات علاج، والمستشفى الذى يحتاج إلى طلبيات أدوية وغيره مما يحتاج إلى ذلك «الختم» العتيق ودونه لا يمكن أن يتحرك شىء من مكانه حتى لو كانت «علبة لبن» لطفل صغير.

وكان أن فعل الرجل ما طلبوه.. إلا أنه فوجئ بعدها.. وبعد شهور اضطر فيها المستشفى إلى ختم أوراقه فى مكان بعيد بعشرات الكيلومترات.. وبعد فتاوى عدة من الموظفين «القراريين».. اكتشف الطبيب المدير أنه يحتاج إلى نشر خبر اختفاء «ختم المستشفى» فى جريدة الوقائع المصرية.. ودون ذلك لن يتم إصدار «ختم» جديد.

ولأننى لم أكن أعرف كيف يتم ذلك الأمر.. وقد كنت أظن أن الوقائع لا ينشر بها سوى قرارات رئيس الجمهورية وما هو جديد من قوانين.. وعدته بالسؤال.. وما زلت حتى هذه اللحظة لم أتلق إجابة من أحد.. فالصحيفة الأولى التى صدرت فى مصر بتعليمات مباشرة من محمد على عام ١٨٢٣ لا يعرف الناس فى بلادها عنها شيئًا إلا إذا اضطرتهم الظروف كما هو فى حالة صديقى مدير المستشفى الجنوبى.

نهايته الأسبوع الماضى.. أصبح اسم «الوقائع المصرية» طرفًا فيما يمكن تسميته بالجريمة.. فقد تداول مهتمون بمجال النشر خبر اختفاء ستة مجلدات كاملة من «الوقائع» وزاد اللغط ليشير إلى «عمدية» اختفاء هذه المجلدات والتى لا تقدر بثمن بالتأكيد.. الغمز واللمز راح يشير إلى أحد الوفود التى زارت دار الكتب واطلعت على تلك المجلدات فى عملية يحدث مثلها كل يوم لتصوير بعض الصفحات من هذه المجلدات والمشاركة بها فى معرض ثقافى قادم.

من جهتها وبعد انتشار خبر «الاختفاء» لا نستطيع القول بأنها عملية سرقة حتى الآن.. قامت إدارة دار الكتب بإحالة عدد من الموظفين إلى تحقيق داخلى.. ثم إلى إبلاغ الشرطة ومباحث الأموال العامة.. لتتم إحالة الأمر برمته إلى النيابة، وسواء انتهى الأمر إلى تحديد السارق من عدمه.. وقد يستغرق الأمر ربما سنوات أخرى حتى يتم الكشف عن «اللغز».. وقد تنسى القصة برمتها أصلًا.. أسأل: هل توجد نسخ أخرى من هذه المجلدات التى اختفت أم أنها نسخة وحيدة.. أصلية؟! وهل تغير شىء من طريقتنا فى التعامل مع «تاريخنا» بعد هذه الواقعة التى تتكرر فى أماكن مختلفة ولا نشعر بأن شيئًا قد حدث؟.

لقد هالنى.. أن تقوم دول فى منطقتنا وفى مناطق أخرى من العالم باختراع تاريخ يخصهم يصرفون المليارات ليس من أجل المحافظة على ما يملكونه من تراث، ولكن من أجل اختراع «تراث» هو غير موجود أصلًا.. لا تستغرب أن الصين وهى دولة عظمى صاحبة تاريخ وحضارة كبيرين خصصت منذ سنوات مبالغ غير محددة للبحث فى «التراث الشعبى» للصين القديمة.. ووضعت خططًا وجداول وأهدافًا لسنوات طويلة قادمة من أجل ذلك الهدف. 

يحدث هذا فى الوقت الذى نهدر فيه نحن، أو قل البعض منا تحديدًا.. قيمة ما نملك حتى صار البعض يرى فى الثقافة وفى التراث وفى الآثار رفاهية وترفًا لا نستطيعه فى ظل ذلك المناخ المثقل بمشاكل اقتصادية جمّة.. وكأن هذه الثقافة لا تساوى شيئًا فى عالم الاقتصاد.

نحن، وحتى وقت قريب، لم نتمكن من تسجيل آلاف القطع الأثرية.. وبعضها كان، ولا يزال، مرميًا فى المخازن وكأنه لا شىء.. فما بالك بالتراث الثقافى!.. والغريب أن الدولة كانت قد اتخذت مسارات متعددة لحماية هذا التراث، فالذى يحاول المعرفة يدرك أن عشرات المتاحف جرى إنشاؤها فى السنوات الأخيرة وتم وضع استراتيجية كاملة لبناء الإنسان المصرى. ذهبت إلى «المجلس الأعلى للثقافة» منذ سنوات فما الذى يحدث بالضبط؟.. ومَن هؤلاء الذين يسيرون عكس ما تريد الحكومة؟.. ومَن هؤلاء الذين يتعمدون العبث بتاريخنا؟.

أى طفل صغير يدرك الآن أن آلاف الكنوز الغنائية والسينمائية تم نقلها من مصر إلى جهات معلومة وأخرى غير معلومة.. بطريقة وكأنها كانت ممنهجة.. لا نتهم أحدًا.. ولا نحتاج إلى ذلك.. فالسماوات المفتوحة.. كشفت أين ذهب ذلك التراث وكيف يستفيدون منه.. لذلك لا أعتقد أن عملية اختفاء المجلدات الستة من «الوقائع المصرية».. ستمر مرور الكرام هذه المرة.

صحيح أننا نملك الكثير.. وربما بهذا المنطق لم نهتم لسنوات طويلة بهذا الذى نملكه- عندنا منه كثير- وصحيح أن قيمة «الثقافة والتاريخ» تتراجع فى أعين وأذهان شبابنا وأبنائنا من عام إلى آخر.. لكننى أنبه إلى أن دار الكتب فى مصر لا تحوى فقط مجرد «مجلدات» أو نسخ من «وثائق».. هى تحوى ما هو أخطر من ذلك بكثير.

لقد لفت نظرى أحد شباب الباحثين فى علوم النبات إلى أن «خريطة الغذاء» فى العالم تتغير.. وأن مافيا شركات «التقاوى» تتحكم فى «جينات النبات»، وأن كل بلد يسعى إلى الاحتفاظ بما يملك من «خريطة للنبات»، وأذهلنى أن قال إن مصر تملك خريطة نباتات نادرة ولا مثيل لها فى العالم بعضها يُستخدم فى الطب والعلوم العسكرية وغيرها من علوم المستقبل.. يا سادة العلم والثقافة مش ببلاش.. دى بفلوس والله وبفلوس كتير جدًا.

ووثائق مصر.. سواء كانت فى «الوقائع» أو غيرها أغلى بكثير مما يتخيل البعض ومنهم أولئك الذين «أهملوا» فأضاعوا ما أضاعوا.