جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الطريق إلى نهضة التعليم المصرى «1-2»

جذور التدهور تعود لما بعد نكسة يونيو وتراجع خطط التنمية

مشكلة الدروس الخصوصية أدت إلى تحول المدرس إلى أجير لدى الأطفال والطلاب

أحد أخطر مشكلات التعليم المصرى تتمثل فى انهيار التنشئة الاجتماعية فى داخل نظام الأسرة والمدرسة

الخطابات السائدة عن التعليم منذ عقود عديدة من القرن الماضى، وإلى الآن، تركز على بعض التفصيلات، والجزئيات، وما حولها يركز على بعض اهتماماته دون غيرها، مثل ارتفاع تكلفة التعليم، وتعدده إلى أنظمة متعددة، أو الدروس الخصوصية ومراكزها، أو الكتب المثقلة بالحشو والتكرار، أو تعليم الحفظ والاستظهار، أو نقص المدرسين والمعلمين فى المدارس، أو عدم كفاءة غالبيتهم، وفشل الإدارة التعليمية، أو تديين الشروح لمناهج من المدرسين، والمدرسات، ذوى التوجهات الدينية والسلفية.. إلخ.

ثمة عدم اهتمام سائد ومسيطر على الانفصال بين مشكلات التعليم، والواقع الاجتماعى المتغير.

واقعة وفاة تلميذة، انهار السور عليها، وأخرى سقطت من الدور الثالث لتدافع التلاميذ، وانتقلت إلى رحمة الله.

فصول دراسية يجلس الأطفال المكتظون على الأرض فى انتظار تلقى دروسهم. أعداد ضخمة من الطلاب صغار السن يزيدون على سبعين طالبًا وطالبة فى الفصل الواحد، ذى الحيز الضيق!

كلها وقائع حفل بها «الفيسبوك» محمولة على الصور، وتشير فى تحليل كل منها على حدة إلى جوانب من أزمات التعليم الابتدائى فى مصر، وهى واقعات نمطية، تحدث فى العقود الماضية، وتطويها الأيام، والتعليقات الصارخة والغاضبة، ولا تنتهى أمثالها من الوقائع! 

إعلانات مراكز التعليم الخصوصى، ودروسه، والكمية الشارحة للكتب المدرسية، وصراخ الأسر المصرية من ارتفاع تكلفة التعليم العام، أو الخاص كل عام، وعدم قدرة الفقراء، والفئات الوسطى على مواجهة هذه الأعباء، من رسوم مدرسية، وكتب ولوازم، ومافيا الدروس الخصوصية فى التعليم العام، والتعليم الخاص سواء للقادرين، أو متوسطى الحال، أو الأثرياء فى المدارس الأجنبية الخاصة.

الإنفاق على التعليم ومتطلباته ولوازمه اليومية بات يشكل أحد أبرز هموم الأسرة المصرية، مع الصحة، ومع عسر الحياة كنتاج للمشكلات الاقتصادية الكبرى التى تواجه الاقتصاد والحياة فى بلادنا.

صراخ محمول على الألم والأسى يبدو داخل كل أسرة مصرية من الفئات الفقيرة، والمتوسطة، لكن دائمًا ما يتم التركيز على المنظور الرسمى، ونقد سياسة النظام السياسى، والسلطة الحاكمة، التى تتحدث كثيرًا عن تطوير التعليم، ولكن واقع كل سياساتها ومناهجها، وأدائها، يكشف عن فشل ذريع يقوم على أنه تعبير عن ضيق ذات اليد الحكومية، وأن المتاح من موارد لتطوير التعليم محدود للغاية، ولا يكفى قط! بينما التحليل السياسى والاجتماعى يشير إلى فشل الثقل السياسى المسيطر خلال نظام يوليو من عهد السادات، وإلى الآن، عن مواجهة المشكلات الكبرى والهيكلية من جذورها، وأن الثقل الأدائى السطحى يركز فقط على تسيير النظام التعليمى، وغيره من القضايا، والأنظمة الأساسية واحتواء بعض المشكلات العارضة والسطحية، دون تناول جذورها، وعلى رأسها التعليم.

أحد جذور مشكلة الفشل الإدارى البيروقراطى، والتكنوقراطى يتمثل فى نزعة التواطؤ مع الجماهير الغفيرة واتجاهاتها وسلوكها تجاه عديد المشكلات، ومنها التعليم كظواهر الغش الفردى والجماعى، والدروس الخصوصية، ومقاومة أية محاولة لإصلاح المناهج المقررة، والاعتداء على المدرسين، أو الطلاب.. إلخ!

إن نظرة على الوقائع الدامية لافتتاح العام الدراسى، ووفاة الفتاتين تشير فى ذاتها إلى علامات على دور الأسرة، والفئات الاجتماعية العريضة فى إعاقة تطور النظام التعليمى وسياساته ومناهجه، بل والفوضى السائدة فى سلوك الجموع الغفيرة للقطاعات الاجتماعية العريضة فى المجتمع المصرى.

الفتاة الأولى، سقطت كنتاج لازدحام الطلاب وتدافعهم، وهم صغار السن من الدور الثالث! ما الذى يعنيه ذلك؟

أولًا: غياب تنشئة الطلاب على النظام فى كل مناحى الحياة فى الأسرة والحى والطريق، كجزء من ثقافة الفوضى المسيطرة فى حياة المصريين، وهو ما يظهر فى تواطؤ الأسرة، وتدليلها لأطفالها، فى الشارع، والحدائق العامة، وأثناء ركوب عربات المترو، أو الميكروباص أو التوكتوك، أو السيارات العامة، حيث لا توجد تنشئة على النظام، واحترام الملكية العامة أو الخاصة، واعتبار أن الفوضى للأطفال جزء من التدليل، وحرية الطفل أو الطفلة، وهو يعبر عن سطوة ثقافة الفوضى والأنانية فى التعامل مع الملكية العامة والخاصة، وأنشطة الحياة اليومية، والأخطر أنها تعبير عن الأنانية السائدة فى قيم مسيطرة على «المواطنين»، ويشيعونها بالإجمال على أنها من طبائع الحياة فى المجتمع لأطفالهم، والأخطر عدم إعداد الطفل للتعلم فى إطار منظم فى المدرسة، يعتمد على التنظيم فى الجلوس على المقاعد للدرس أو الخروج المنظم من الفصول إلى خارج المدرسة، أو إلى ما يطلق عليه الفسحة، أو الانضباط أثناء إلقاء المدرس/ المدرسة الدرس المقرر، أو تنظيم جلوس الطلاب بحسب أطوالهم، حتى يمكنهم الاستماع للدرس المقرر من المدرسين!

ظاهرة الفوضى فى الفصول الدراسية، تبدأ من المدارس الابتدائية، إلى الثانوية، وهى ظاهرة ممتدة تاريخيًا، بل واعتداء بعض الطلاب فى الإعدادى والثانوى على المدرسين مستمر اعتمادًا على «بلطجة» بعض الطلاب، أو اعتمادهم على دعم أسرهم فى هذا الاعتداء داخل المدرسة، أو خارجها!

وقوع حائط على تلميذة، وأخريات، هو وجه آخر لمشكلات تنظيم التعليم فى مصر، ألا وهو غياب المتابعة، وإعادة تأهيل الأبنية المدرسية من قبل السلطات التعليمية، دلالة صارخة على ظاهرة الإهمال لدى مسئولى التعليم، وفى أحد أبعادها عدم تأهيل المدارس وصلاحيتها، ويقابل دائمًا بنقص الموارد للإيفاء بالتأهيل للمدارس أيًا كانت ابتدائية أو إعدادية أو ثانوية!

إهمال الإدارة المدرسية، والمسئولين، والمدرسين ظاهرة عامة، وخطرة، لأن غالبهم يعتمد على الدروس الخصوصية، وظاهرة مراكز التعليم الخصوصى الموازى الذى بات ظاهرة مصرية أهم من الوزارة، ووزرائها، وقادتها أيًا كانوا! وفشلهم ومعهم السلطة «الحاكمة» فى التصدى لهذه الظواهر التى تواطأ المجتمع معها، ويتعامل معها على أنها الأساس فى العملية التعليمية، فى ظل فصول تعليم ابتدائى مكتظة بها ١١٠ تلاميذ وتلميذات على سبيل المثال!

ما دلالة ما سبق؟

أولًا: إننا إزاء مشكلة متفاقمة ذات بعد سلطوى/ حكومى، وبعد آخر لا يقل أهمية بل أخطر، وهو البعد الاجتماعى.

ثانيًا: إن نقد السياسة التعليمية الحكومية وخطاياها ليس كافيًا على نحو ما يسود فى هذا الصدد، وإنما نقد الأبعاد السوسيولوجية أيضًا واقعيًا! 

ثالثًا: غياب نقد السياسة والمناهج التعليمية، وما تؤدى إليه من إنتاج عقل الطلاب! ووعيهم السياسى والاجتماعى الجمعى.

رابعًا: ظواهر تديين المناهج المقررة فى الدرس حول الدرس المقرر الذى يقوم به معلمون غير مؤهلين تربويًا وتعليميًا فى الغالب الأعم.

خامسًا: التغير فى القيم الاجتماعية السائدة إزاء التعليم، ودوره كآلية فى الحراك الاجتماعى.

سادسًا: الانفصال بين التعليم والتنمية وبينه وبين سوق العمل.

السؤال الذى نطرحه هنا: ما هى المصادر السوسيو سياسية لانهيار النظام التعليمى العام، بل والجامعى وما بعده فى مصر؟

هل يعود ذلك إلى مجانية التعليم، واتساع قاعدته الاجتماعية فى ظل الناصرية كما يشاع فى الخطاب الذى ساد من عصر السادات لمبارك إلى الآن من برجوازية الانفتاح وأثرياء عهد مبارك وإلى الآن، ومعهم جماعة الإخوان المسلمين؟! يبدو لى أن انهيار النظام التعليمى، يعود إلى ما بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧، لأنها أشاعت مستوى من الإحساس والإدراك شبه الجمعى باللامبالاة حينًا، خاصة فى ظل هزيمة المشروع الوطنى المصرى ما بعد المرحلة شبه الليبرالية، وبدء حالة من التشتت الجماعى حول مسألة الانتماء الوطنى، والصراع على الهوية المصرية من خلال محاولة تديينها من السلطة الحاكمة، ومن المؤسسة الدينية التابعة، والإسلاميين!

بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، وسياسة الانفتاح الاقتصادى لا السياسى لأنور السادات، بدأ التغير فى القيم الاجتماعية حول قيمة التعليم، والثقافة كآليات للحراك الاجتماعى، وبناء المكانة للفئات الاجتماعية العريضة فى المجتمع المصرى.

مع الانفتاح، والفساد السلطوى فى أجهزة الدولة والقطاع العام، وفوائضه المالية، وتحول قياداته إلى القطاع الخاص، وسفر المصريين إلى النفط سعيًا وراء الرزق، ومراكمة المدخرات والثروات، ثم عودتهم لاستثمار مدخراتهم فى مشروعات خاصة، بدا واضحًا أن الصمود الاجتماعى، لا يرتبط بالتعليم، أو الثقافة- التى كان يقف منددًا بها وبالمثقفين أنور السادات وجهازه الإعلامى من الموالين، وإنما القيمة والمكانة الاجتماعية هى بالثروة- أيًا كانت مصادر جمعها وتراكمها شرعية أو من خلال آليات الفساد.

من هنا تحول الطلب السياسى والاجتماعى من التعليم والثقافة إلى الثروة أيًا كانت. لا شك أن هذا الاتجاه تنامى من السادات إلى مبارك، ثم تنامى إلى المرحلة الراهنة لا قيمة للإنسان إلا بثروته، والتعليم تحول إلى محض شهادة رسمية لا قيمة لها، سوى القيمة الرمزية بقطع النظر عن الضحالة التعليمية لمن حصل عليها سواء من التعليم العام إلى الجامعى إلى ما بعده!

أحد أخطر مشكلات التعليم المصرى تتمثل فى انهيار التنشئة الاجتماعية فى داخل نظام الأسرة والمدرسة خاصة فى ظل تهتك الأنسجة الاجتماعية داخل الأسرة والعائلة، وجماعات الرفاق، من الأهل، أو الجيران، أو الأصدقاء، الضغوط الاقتصادية والبطالة وتناول المواد المخدرة، بهدف التوازن النفسى، والإدمان، وتأنيث بعض الأسر المصرية، من خلال عمل الأم، وأحيانًا بطالة الأب، أدى إلى ظاهرة العنف الأسرى الذكورى، الذى يؤدى إلى مشكلات نفسية للأطفال والأبناء، على نحو يؤدى إلى خلل فى تنشئة الأطفال والأولاد، وغياب الانضباط الأسرى، وتعلم الأطفال النظام فى تفاصيل الحياة اليومية فى المنزل، والمجال العام، فى الطريق، والسيارات العامة، والمترو، فى اللعب، والأهم فى متابعة الدروس فى المدرسة، والعلاقة مع الزملاء والمدرس والإدارة المدرسية.

الأسرة انحصر دورها فى إعطاء الطفل أو الطالب المصروف اليومى، والدرس الخصوصى، ومصاريف المدرسة، والكتب المدرسية الخارجية الشارحة لدروس المقرر المدرسى، ولم تعد تركز على متابعة الأطفال والأبناء فى نظام الحياة اليومية والمدرسية، أو القيم الاجتماعية التى يتعين عليهم أن توجه حياتهم إزاء أنفسهم والآخرين- مرجع ذلك هو حجم وكثافة الضغوط على الآباء والأمهات النفسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلًا عن أثر التصدع الأسرى والتفكك مع استمرارية الأسرة لصالح الأولاد والبنات شكلًا، مع بروز أشكال الخيانات الزوجية المعلنة، أو المستورة ذات الأثر على تماسك الأسرة، والعلاقات الموازية للزواج! لا شك أن بعض هذه الظواهر مؤثرة على تماسك البناء الأسرى والتنشئة الاجتماعية، وبينها التعليم.

لا شك أيضًا أن الفوضى فى المجال العام عمومًا، وتراجع الانضباط، واحترام القانون فى العلاقات الاجتماعية، ومع أجهزة الدولة فى الحياة اليومية، والتحايل عليه، وانتهاكه أدى إلى التأثير المباشر على الأطفال والأبناء، وترسخت لديهم ثقافة اللانظام، وانتهاك أية قواعد منظمة للحياة اليومية خارج الأسرة وفى المدرسة.

يبدو أيضًا أن مشكلة الدروس الخصوصية، أدت إلى تحول المدرس إلى أجير لدى الأطفال والطلاب سواء أكان الدرس فى المراكز المعدة لهذه الدروس، أو فى المدرسة أو فى منزل المدرس أو منازل الأطفال والطلاب. هذا الدفع الناتج عن محدودية أجور المعلمين والمعلمات أدى إلى اهتزاز جسيم فى صورة المدرس كقيمة ورمز للتعليم، والقيادة، وإدارة الدرس المدرسى المقرر، وحولته من موظف عام إلى موظف قطاع خاص لدى الطلاب، وهو ما جعل المدرس هدفًا للسخرية حينًا، والعنف الموجه ضده حينًا آخر فى بعض الأحيان، ولم تعد الصورة القديمة لضرب المدرس لبعض الطلاب هى السائدة فقط إلا قليلًا!

ظاهرة العنف المدرسى خطيرة لأنها تربط نفسيًا بين التعليم والعنف، من طرفى المعادلة المدرس، والإدارة المدرسية، والأسر، والطلاب!

ثمة غياب لما سبق أن أطلقنا عليه فى دراسة لنا «خطاب الطالب» حول العملية التعليمية فى كل مكوناتها، لصالح خطاب الإدارة المدرسية، والمدرس/المدرسة، وأولياء الأمور، ووزارة التربية والتعليم!

سيادة الفوضى فى الثقافة الشعبية، إزاء قانون الدولة، وأنظمتها، وشيوع قيمة انتهاكها، وتجاوزها، سواء بالرشى من تقديمها أو أخذها على أنها أمر مشروع أثرت سلبًا على سلوك غالب الجموع الغفيرة للمصريين إزاء العملية التعليمية من خلال مشكلة الغش الفردى والجماعى وتحبيذها، ودعمها بالقوة فى بعض المناطق بطول البلاد وعرضها، تشجيع ظاهرة الغش، انعكاس لسيادة قيمة الغش فى الحياة العامة فى أجهزة الدولة والتعامل اليومى فى البيع والشراء وتفاصيل الحياة، وهى مشكلة مرجعها أن قيمة العمل المسئول فى ذاته لم تعد قيمة فاعلة وحقيقية فى سلوك غالب المصريين، ومن ثم انتقلت هذه القيمة إلى مجال العملية التعليمية، حيث تحولت الشهادات العامة، وامتحاناتها إلى مجرد الحصول على محض ورقة ترخص للطالب الغشاش الانتقال إلى مرحلة أعلى فى السلم التعليمى! الأسرة المصرية فى غالبها على الرغم من إنفاقها الكبير على التعليم فى الفئات الوسطى- الوسطى، والوسطى- العليا، تدرك التعليم على أنه شهادة، ورمز اجتماعى فقط، وليس بوصفه عمليات تكوين للعقل والشخصية والإدراك، والوعى الاجتماعى والسياسى ومدخل للعمل المسئول فى سوق العمل، لأنها تدرك أن الشهادة لم تعد مدخلًا للعمل، وأن البطالة تنتظر الكثيرين لعدم ملاءمة الشهادات والتخصص لا سيما فى العلوم الإنسانية لفرص العمل المتاحة فى السوق، ومن ثم نرى أن الشهادة والحصول عليها هى فريضة والتزام على الأسرة لأولادها! لا يتم إدراك التعليم على أنه مهم فى ذاته فى تحرير عقل الطلاب والطالبات، وبناء الشخصية المستقلة المسئولة، ولا أنه جزء من الحقوق الدستورية، ولا بوصفه دعمًا لحقوق المواطنة فى دولة حديثة ومعاصرة تحكمها القوانين الوضعية المتوازنة!

إنها حالة فوضى وارتباك وتشويش فى الوعى شبه الجمعى للجموع الغفيرة للمصريين!، وإنما يدرك وكأنه عادة، أو عرف تلجأ إليه الأسر المصرية إزاء أبنائها! لم يعد التعليم إحدى أبرز آليات الحراك الاجتماعى الأعلى ولبناء المكانة داخل المجتمع، وفئاته الاجتماعية!

إحدى أبرز مشاكل العملية التعليمية ما سبق أن أطلقت عليه «الدرس حول الدرس»، ونقصد بذلك شرح المدرسين والمدرسات للمقررات فى المدرسة، ومحاولات بعضهم- إن لم نقل غالبيتهم- تديين الدروس وتحويلها إلى مجال المرويات الدينية الوضعية والشعبية السلفية والإخوانية والتدين الشعبى الشائع!

يميل غالب المدرسين/ المدرسات فى التعليم العام إلى تقديم مفاهيمهم عن الدين فى شروحهم للطلاب والطالبات بما فى ذلك الحِكَم والمقولات الدينية الوضعية السائدة، ومرجع ذلك أنهم يتصورون أن المنهج ملك خالص لهم، وهم يدرسونه، وفق تصوراتهم، وأن تعليم الطلاب للدين مهم، والتزام وواجب عليهم رغم أنهم ليسوا فى حصص لتدريس مادة الدين! هذا التصور مرجعه تفشى تعاليم الجماعات السلفية والإخوانية، وسط المدرسين والمدرسات، وبعضهم كان ولا يزال جزءًا من النشاط التجنيدى لهم! لأن اختراق النظام التعليمى عن طريق تجنيد المدرسين والمدرسات ومديرى المراكز جزء من سياسة التجنيد الإخوانى والدعاة السلفيين.

إن مخاطر الدرس حول الدرس، هى قلب العملية التعليمية رأسًا على عقب، وتحويلها إلى تكوين العقل الدينى النقلى لدى الطلاب من رياض الأطفال إلى الثانوى العام.

لا شك أن هذا الاتجاه السائد يقوض العملية التعليمية تمامًا، بل ويرتكز على جوهرها، من خلال مناهجها التى تعتمد على الحفظ والاستظهار، والنقل والمقولات الشائعة، وإغفال تكوين العقل النقدى الذى يعتمد على ثقافة الأسئلة، والتحليل والاستنتاج والتركيب! ثقافة الحفظ والإجابات الجاهزة داعمة فى تشكيل العقل الدينى النقلى، مثلها فى ذلك مثل التعليم الدينى بالمعاهد الأزهرية، وفى الجامعة يعتمد على الحفظ والتكرار، والمرويات وتقديسها رغم وضعيتها التاريخية، من هنا يتشكل العقل الساكن المتطرف فى التعامل مع أسئلة وظواهر التغير السياسى الاجتماعى فى الحياة ومشكلاتها المعقدة، فى عالم مختلف جذريًا عن عالم تشكل السرديات الدينية التاريخية والفقه وعلم الكلام، الفتاوى والخطابات الدعوية... إلخ!

لا شك أن التقنيات الرقمية باتت مؤثرة على التعليم والتلقى، لكن التجربة التعليمية المصرية فى هذا الصدد لم تكن موفقة، وتأثرت بالفوضى السائدة فى التعليم والدروس الخصوصية، وشكل المدرسون والمدرسات جماعة ضغط فى مواجهة التطبيق الفعال لها فى العملية التعليمية لاعتبارات مصالح هذه «المجموعات»، فضلًا عن أن هذه التجربة أدت إلى انفصال الطلاب والطالبات عن متابعة بعض الآباء والأمهات لهم/ لهن!

من ثمّ فتحت المجال أمام الكسل، وعدم المذاكرة إلا قليلًا، واللعب فى عالم الوسائط الاجتماعية والمواقع الإباحية لبعض الطلاب والطالبات على نحو أثر على سلوكهم الاجتماعى.

المدارس كمؤسسة اجتماعية، للتنشئة الاجتماعية والسياسية، هى مؤسسة قمعية عمومًا حتى فى الدول الديمقراطية المتقدمة، ويزداد غلواؤها وقمعها فى الدول الاستبدادية والتسلطية على نحو ما هو سائد فى عالمنا العربى، لأن تفرض منظومات من القيم والرموز والأساطير السياسية والتاريخية من منظور السلطة السياسية، القائمة، وتابعيها فى السلطة الدينية الرسمية وجهاز الدولة الإعلامى الأيديولوجى!

من الشيق ملاحظة أن ظواهر التدين السلفى والإخوانى المتطرف، وظفت ولا تزال المؤسسة التعليمية لصالحها، ولم تستطع الدولة ونظامها السياسى، أن تحدث تغييرًا فى ذلك، لأنها توظف الدين كإحدى أدوات الضبط السياسى والاجتماعى. هذا التواطؤ أو الإهمال أسهم فى نشر العقل الدينى المغلق والأخطر التطرف الدينى بين الطلاب!

المدرسة فى المجتمعات الأكثر تقدًما لا سيما فى الغرب هى مؤسسة تعليم على المواطنة والحقوق والحريات الأساسية، ودولة القانون، والديمقراطية التمثيلية، وفق النظام الدستورى السائد برلمانى أو رئاسى أو برلماسى أو نظام الجمعية فى المثال السويسرى- أى نظام يكرس الوحدة فى إطار التعدد فى ظل الليبرالية السياسية، والنظام الرأسمالى مؤسسة تنشئة سياسية، وضبط سياسى واجتماعى فى إطار الحريات العامة والشخصية. المؤسسة التعليمية هى أداة قمع أيضًا من حيث النظام، والقيم.. إلخ، إلا أنها تعتمد على سياسة تعليمية تعلى من شأن العقلانية والنزعة النقدية، والدراسة التاريخية فى حدها الأدنى من الموضوعية، ومن ثم لا يدرس التاريخ من وجهة نظر السلطة السياسية الحاكمة وإنما التاريخ وسردياته دونما تحذيرات معلنة وصارخة على نحو ما يتم فى دروس التاريخ فى مصر والعالم العربى، من وجهة نظر مؤرخى الحكام!

فى فرنسا المدرسة الجمهورية، تكرس الحريات والعلمانية على النمط الفرنسى والوحدة القومية الفرنسية.

فى المدرسة المصرية لا تؤدى إلى الوحدة القومية، من خلال تديين بعض المناهج المقررة- والدرس حول الدرس للمدرسين والمدرسات، وبعض التمييز بين الطلاب بحسب انتمائهم الدينى.

المدرسة المصرية تمييزية بحسب الانتماء الطبقى للطلاب بين المدارس الأجنبية الخاصة، وبين المدارس الحكومة، وهذا التمييز الاجتماعى يكرس الانقسام الطبقى بين الطلاب من المدارس الابتدائية إلى الثانوية ثم الجامعات، مع نشأة وتمدد الجامعات الخاصة ذات الرسوم باهظة الثمن!

المدرسة المصرية، والسياسة التعليمية بعيدة عن المكون الثقافى فى مناهجها المقررة، من حيث دمج الفنون الجميلة والموسيقى والغناء ونظام الأكل ودراسة الفلسفة، لكل الطلاب فى الإعدادى، والثانوى بين دارسى القسم الأدبى، والعلوم والرياضيات لتحفيز العقل النقدى لدى الطلاب قبل المرحلة الجامعية، وأيضًا تدريب الطلاب على القراءة للأجناس الأدبية، وما يتعداها من سرديات أدبية، ومنها دراسة الثقافة الشعبية دراسة علمية ضمن المقررات، وهو ما أدى إلى إفقار المناهج التعليمية المصرية، ناهيك عن غياب عيون الأدب العالمى فى الدراسة المقررة!

المدرسة المصرية فقيرة فى ثقافتها مثلها مثل المعاهد الأزهرية، من هنا سهولة هيمنة العقل الدينى النقلى، والمغلق أحيانًا لدى عديد من الأساتذة والمدرسين والطلاب، لأن الثقافة غائبة عن المدرس/ المدرسة، والمناهج المقررة، والإدارة المدرسية. من هنا شيوع ثقافة القبح، وكراهية وجوه الجمال فى الفن والحياة وشيوع العنف اللفظى فى محادثات الطلاب والطالبات والمدرسين، والمدرسات.

نستكمل الجزء الثانى غدًا