جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

مذكرات سيد مرعى.. فصول مهمة من السياسة المصرية فى ثلاثة عهود

يعتبر سيد مرعى السياسى المخضرم من طبقة الملاك، وهو من القلائل الذين عملوا بالسياسة بمعناها الكامل طيلة ثلاثة عهود، فقد كان عضوًا برلمانيًا قبل الثورة، ثم وزيرًا لفترة طويلة فى عصر عبدالناصر، ومات ناصر ولم يترك مرعى السلطة، فقد تقلد العديد من المهام منها رئاسته مجلس الشعب، قبل الثورة كان سيد مرعى من أسرة من الملاك والأعيان، وكان عضوًا فى المكتب السياسى لحزب السعديين، وفى عام ١٩٤٤ انتُخب عضوًا فى البرلمان عام، ولم يكن قد تجاوز الثلاثين عامًا، وقامت الثورة عام ١٩٥٢ فتنقلب الأوضاع السياسية والاجتماعية رأسًا على عقب، يوم ابيضت وجوه واسودت وجوه، ويكتب سيد مرعى فى مذكراته، التى صدرت فى ثلاثة أجزاء، أن والده حتى عام ١٩٤٤ كان برلمانيًا عن دائرة العزيزية بمنيا القمح، وفى يذكر سيد مرعى مناقشة طويلة جرت بين النقراشى باشا القطب السعدى وصديق والده، وبين سيد مرعى الذى لم يكن تجاوز الثلاثين عامًا، وراح الباشا يحث سيد لكى يرشح نفسه نائبًا فى البرلمان عن السعديين، وأكد له الباشا أن البرلمان هو المكان الوحيد الذى تعبر فيه عن نفسك ومبادئك وتفيد أهلك وبنى وطنك، وكان سيد مرعى آنذاك مهندسًا زراعيًا ويعمل مزارعًا فى أرضه الشاسعة، اقتنع سيد مرعى بكلام النقراشى باشا، ورشحه الحزب فى العزيزية نفسها، الدائرة التى تعرفه وتعرف أباه نائبًا برلمانيًا عنها، وبدأ مرعى جولته الانتخابية باللف على الدائرة، وكانت هناك قرية تُدعى كفر فرج جرجس رغم صغرها لكن لها أهمية، وأصواتها لها تأثيرها فى العملية الانتخابية، وانتبه سيد مرعى أنه يُعامَل بفتور ولا مبالاة متعمدة من أهل القرية، لدرجة أن رجلًا من الأهالى وقف وقال له: إنت جاى تعمل إيه؟ أدرك مرعى أنه لن ينجح فى تلك الدائرة، وعلم أن الدائرة حدثت فيها لعبة ما بتوسيعها وضم قرى أخرى لها لصالح منافس لم يكن يعلم عنه شيئًا، وكانت المفاجأة أن المنافس لم يكن سوى فكرى أباظة، الذى كان- آنذاك- نجمًا سياسيًا وصحفيًا وإذاعيًا لامعًا، فتوجه سيد مرعى إلى النقراشى- الذى ألح عليه فى ترشيح نفسه- وقابله فى وزارة الخارجية، وهو فى ذروة الغضب وقال له: لماذا طلبتم منى ترشيح نفسى فى الانتخابات؟ ولماذا كان الإصرار على نزولى المعركة فى دائرة العزيزية عن السعديين ثم تفتتون أصوات الدائرة من وراء ظهرى، فقال النقراشى: عندك الحق، كان المفروض ألا يحدث ذلك حتى لا يؤثر على الأصوات فى دائرتك، لكن ماذا أفعل مع أحمد ماهر رئيس الحكومة فهو الذى قرر ذلك، اذهب إليه وقل له ما قلت لى، وذهب مرعى غاضبًا وقابل مدير مكتب أحمد ماهر رئيس الوزراء، كان مدير المكتب رجلًا طيب القلب وراح يطيب خاطر سيد مرعى، وأدخله مدير المكتب إلى أحمد ماهر الذى لم يرحب به، وكانت مقابلة أحمد ماهر باشا جافة وغير ودودة على العكس من مقابلة النقراشى باشا، استمع أحمد ماهر فى هدوء إلى مرعى الغاضب، وسرعان ما تحول هدوء أحمد ماهر إلى غضب واستياء وقال لمرعى: من أنت؟ أنا لا أعرفك، فقال مرعى بثقة واعتزاز: أنا سيد مرعى، رد عليه ماهر باشا قائلًا فى غضب منفعلًا: كيف تقارن نفسك برجل مثل فكرى أباظة صاحب القلم والخبرة السياسية العريضة، أنت ما زلت صغيرًا وإن فكرت أن تستمر فى الحياة السياسية على هذا الأسلوب الأفضل لك أن تعتزل السياسة، فقال مرعى: إن ذلك يؤثر على موقفى فى الدائرة، فرد ماهر باشا: انسحب من الانتخابات، إذا لم تكن قادرًا على خوضها، إما أن تكون سياسيًا واثقًا من نفسك وإما دع مجال وميدان السياسة.

يذكر مرعى أنه لم ينسحب وقاتل وكافح ونجح فى الانتخابات وأصبح من الهيئة البرلمانية للسعديين، ومما يُذكر لمرعى انشغاله الكبير إلى أهمية العدل الاجتماعى فى الملكية الزراعية، فقد كان يعيش بين الفلاحين ويعمل معهم، وقرر وهو نائب فى البرلمان أن يطرح أفكاره حول إصلاح زراعى لصالح الفلاح، استجمع مرعى شجاعته فقدم للمجلس مشروعًا للإصلاح الزراعى، يحدد الحد الأقصى للملكية الزراعية بمائتى فدان، ويحسن من العلاقة الإيجارية بين المالك والفلاح المستأجر، وثار المجلس عليه ووقف أحد النواب واتهم مرعى بـ«الشيوعية» ورفض المشروع.

وقامت ثورة يوليو، وخلعوا الملك وأجبروه على التنازل عن عرشه للأمير أحمد فؤاد، وبدأت العلاقة تتوتر بين الثورة والأحزاب، وكان النحاس باشا وسراج الدين خارج البلاد، فعادا على الفور، وقابلا مجلس قيادة الثورة، وكان مجلس قيادة الثورة وقائدهم عبدالناصر لديهم نية مبيتة تجاه الأحزاب، فبعد أن تخلصوا من الملك، جاء الدور على الأحزاب، ولم تتعاون الثورة إلا مع الحزب الوطنى، ووقع الاختيار على فتحى رضوان وزيرًا للإرشاد القومى ونورالدين طراف، وبدأت عملية القضاء على الأحزاب عندما رفع مجلس قيادة الثورة شعار «التطهير»، وطلب المجلس من الأحزاب أن «تطهر نفسها»، وكان نداء التطهير هو السلاح السرى الذى خطط له ناصر بمهارة واستخدمه لضرب الأحزاب من الداخل وتصفيتها وشق صفوفها وتشتيت قواها، تمهيدًا للاستيلاء على السلطة، ووقع السعديون والوفد فى هذا الفخ، أما الأحرار الدستوريون فقد كانوا أكثر حرصًا وطلبوا أن يكون التطهير بواسطة القضاء، وهناك أحزاب بحكم الزمن وتآكل الثورية، قد دب فيها الفساد، وفى رائعة نجيب محفوظ «السمان والخريف» يرصد أديبنا الكبير الفساد الذى تسلل إلى الوفد من ١٩١٩ حتى ١٩٥٠، ففى عام ١٩ كان عيسى الدباغ ثوريًا مناضلًا ودارت الأيام ونراه عام ١٩٥٠- والحكومة وفدية- مديرًا لمكتب وكيل الداخلية، وقفز الدباغ قفزة طبقية كانت علاماتها واضحة، فقد انتقل من شبرا إلى شقة أنيقة فى الزمالك وبات يتلقى الهدايا والرشاوى مقابل تعيين العُمد. يحدد مرعى فى مذكراته أن شباب الأحزاب تصوروا أن نداء التطهير المقصود منه التخلص من أسماء بعينها من القيادات القديمة، ورأوا- شباب الأحزاب- أنها فرصة ذهبية للقفز إلى الصدارة، وتحول الأمر- والرواية ما زالت لسيد مرعى- إلى مهزلة كبرى. وهكذا فتح شعار «طهروا أنفسكم» الباب أمام الأطماع الخاصة وأوقع الجميع فى بعضهم، وأخذ كل فريق يتربص بالآخر وتبادلوا الاتهامات.

وفى أواخر أغسطس، عقدت الهيئة السعدية اجتماعها الحاسم بشأن دعوة التطهير، وقررت الهيئة أن يتوجه وفد من الحزب ويتقابل مع الضباط الأحرار ومن يمثلهم، وأن يستفسر الوفد الحزبى عن المطلوب وكيف يطهرون أنفسهم، فهل يريدون انسحاب القيادات الكبيرة كلها؟ وهل يرضيهم التخلص من الطاقم القديم وأن يحل محلهم من رجال الصف الثانى؟ وتقرر تكوين وفد من الهيئة السعدية لمقابلة اللواء نجيب فى مقر القيادة بكوبرى القبة. كان وفد السعديين مكونًا من خمس شخصيات منهم سيد مرعى، ونترك سيد مرعى يتحدث عن اللقاء فيقول «كنت أرتدى بدلة شركسكين بيضاء وطربوشًا أحمر أملته على رأسى بطريقة معينة وفى جيب الجاكيت وضعت منديلًا حريريًا فاخرًا، ولا بد من تحديد ذلك فإن مظهرى هذا حدد علاقتى بعبدالناصر لسنوات طويلة، واستقبلنا اللواء نجيب استقبالًا طيبًا وكان بشوشًا، واستمع إلينا بهدوء وبقلب مفتوح، لكننى لاحظت ضابطًا شابًا طويل القامة نافذ النظرات لم يتكلم وظل يراقب طيلة الجلسة بانتباه شديد، وتكلم أحد أعضاء السعديين وتطرق فى حديثه إلى مصالح خاصة به، وتطلب الأمر أن يتدخل مرعى فيقاطعه، ويكمل مرعى: فقلت موجهًا كلامى للواء نجيب: إن الهيئة السعدية تريد أن تعرف الأسماء التى تريدون حذفها، ولم يرد اللواء نجيب لكن الضابط الواقف انبرى وقاطعنى فى حدة: طهروا أنفسكم أولًا..

ولم تعجبنى طريقة الرد وحدته، فقلت له: كيف نطهر أنفسنا؟.. وما هو المقصود بذلك التعبير الواسع؟ 

وعاد الضابط الطويل يقاطعنى مركزًا نظراته الحادة على المنديل والطربوش، وقال: زى ما قلنا طهروا نفسكم وبعدين نتكلم. كنت جالسًا على المقعد واضعًا رجلًا على رجل، والظاهر أن جرأتى لم تعجب هذا الضابط، لأننى استرسلت فى الكلام وقلت: ونريد من القائد العام أن يحدد لنا ما هو التطهير المطلوب، ثم إننى محمل برسالة معينة من زعماء الحزب وأريد إجابة عنها، وطال الحوار دون جدوى وهنا أنهى الضابط المقابلة، وقال: يجتمعوا برة القاعة ولما يتفقوا على رأى يدخلوا يقولوه علشان ما يضيعوش وقتنا. لقد خرجوا شبه مطرودين لغضب ناصر على مرعى لسبب ما.

وفى سبتمبر، قرر مجلس قيادة الثورة وضع قانون الإصلاح الزراعى، وتشكلت لجنة برئاسة صلاح سالم وضمت سيد مرعى، فقد كان معروفًا باهتمامه وسبق له محاولات فى الإصلاح الزراعى، وعندما عرضت أسماء اللجنة على عبدالناصر اعترض وقال: «سيد مرعى اللى كان لابس بدلة شركسكين وعاوج الطربوش على راسه ومدلدلى منديل حرير، دا لا ينفع فى لجنة الزراعة ولا ينفع فى أى حاجة»، وحاولوا مع ناصر فرفض بشدة، رفض ناصر هذا «المعجبانى».

وجرت مياه كثيرة فى النهر، وأخيرًا وثق عبدالناصر فى مرعى، وتفاتحا فى الخناقة القديمة بينهما، وتوطدت بينهما الصداقة والحديث ما زال لسيد مرعى، وكان ناصر كلما تذكر تلك الواقعة يقول له: «حاطط لى رجل على رجل ونفختك وعوجتك للطربوش خلتنى لا أستريح لك ولا أستخف دمك وقتها»، يرد عليه مرعى قائلًا: «إنت كنت كل شوية تقاطعنى»، فيقول ناصر: «أنا لو كنت أطول أرميك من الشباك كنت رميتك».

استمر مرعى وزيرًا للزراعة، وبعد أن مات ناصر كان صاحب حظوة عند أنور السادات، وفى ١٥ مايو نشأ الصراع على السلطة بين السادات من ناحية ومراكز القوى من ناحية أخرى، وكان مرعى مناصرًا للسادات، وفى ليلة الحسم، ليلة الخامس عشر من مايو، لم يكن أحد يعلم بنتيجة الصراع، ويذكر سيد مرعى بوضوح فى مذكراته، أنه كان فى غاية الإرهاق، ومن شدة التعب رفع فيشة التليفون حتى ينام بدون إزعاج! وفى الصباح أعاد الفيشة وبارك للسادات على نجاحه فى ثورة التصحيح.