جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

آنى إرنو والأدب المتين

استقبل العرب فوز الفرنسية آنى إرنو بجائزة نوبل بحفاوة كبيرة، ليس بسبب دعمها القضايا العربية، ولكن لأنه لأول مرة منذ سنوات طويلة يفوز صوت تُرجم معظم أعماله إلى العربية، وبالطبع كما يحدث كل عام يتساءل الصحفيون: مَن يستحقها من العرب؟، ويتبارى رواد مواقع التواصل الاجتماعى فى ترشيح الأسماء التى تستحق، ويشكر الذين تم ترشيحهم الذين رشحوهم.. بالطبع أنا لا أقلل من شأن أحد، وأعتقد أن الثقافة العربية تستحق أكثر من جائزة، وأعتقد أيضًا أن الغرب غير مهتم بما ننتج، وإذا اهتم فهو يهتم بظواهر تسعى لتعرية مجتمعاتنا، بحيث نظل فى مخيلته مجتمعات بدائية تقهر النساء وتؤمن بالخرافات ولا تتقبل الآخرين. 

آنى إرنو أحببناها لأن الدكتورة العظيمة أمينة رشيد، رحمة الله عليها، تحمست لها مطلع التسعينيات وترجمت روايتها «المكان» مع زوجها الراحل سيد البحراوى، ونشرتها فى دار شرقيات، وتمت دعوتها والتقت عددًا من المثقفين ودارسى الفرنسية فى مسرح الهناجر بدار الأوبرا، وبعدها تصدت هدى حسين ونورا أمين لأربعة أعمال أخرى، هذا فى مصر، كما ترجم لها الشاعر اللبنانى إسكندر حبش روايتها «الاحتلال»، وترجمت لها لينا بدر «انظر إلى الأضواء يا حبيبى»، وترجمت لها دلال نصر الله رواية «امرأة»، ونالت الزميلة دينا قابيل رسالة الماجستير فى الأدب المقارن حول روايتها «المكان» ورواية عبدالحكيم قاسم الفاتنة «أيام الإنسان السبعة». 

جاء فى حيثيات القائمين على الجائزة أنها حصلت عليها «للشجاعة والحدة التى اكتشفت بها الأصول والاغتراب والابتعاد عن القيود الجماعية للذاكرة الشخصية»، وهى جملة من وجهة نظرى لا تعنى شيئًا، ومن الممكن وصف أى كاتب على وجه الأرض بهذه الكلمات. 

ولدت إرنو عام ١٩٤٠ ونشأت فى بلدة يفيتوت الصغيرة فى نورماندى، كان والدها يمتلك مقهى صغيرًا.. لم تصف نفسها يومًا بأنها كاتبة روائية، لكنها قالت إن أسلوبها يمكن وصفه بأنه «إثنولوجية خاصة بها»، ورغم صدور الرواية الأولى لها «الخزائن الفارغة» عام ١٩٧٤ عن تعرض فتاة جامعية لعملية إجهاض غير قانونية وتجربتها الأليمة، لكن كانت شهرتها الحقيقية فى عام ١٩٨٣ بإصدار روايتها «المكان» التى تسرد النشأة الاجتماعية مع والدها وتأثيره عليها، وربما لهذا السبب أحبتها رشيد المناضلة، والتى تعرفت عليها فى فرنسا فى الستينيات أيام كانت قريبة من الحزب الشيوعى الفرنسى، وأعتقد أن البساطة فى تناول الموضوعات الحياتية، واللغة المتقشفة السلسة، وعدم انشغالها بالشطحات الكونديرية والبابلو كوهيولوية، والبحث عن مناطق فى التاريح لسبك حكاية مدهشة، هو الذى جعلها قريبة إلى القارئ غير المحترف، هى تعبر عن مجتمعها وليس عن الإنسانية، فى روايتها الأولى كتبت عن تجربة الإجهاض عندما كان مجرّمًا فى فرنسا، الروايات العربية التى تتناول مثل هذا الموضوع أو الختان يقبل عليها الغرب، وكتب أحدهم أن النساء يقبلن على قراءتها أكثر، ويحمدن الله أنهن لم يعشن فى مجتمعات مثل مجتمعاتنا. 

كتبت آنى إرنو ٣١ كتابًا ورواية، مادتها الأساسية حياتها الشخصية بتفاصيلها الحقيقية، مما جعل أعمالها قريبة إلى القلب، ففى «المكان» تناولت الصعود الثقافى والطبقى، وكيف ارتقت فى السلم الاجتماعى رغم أنها من أسرة من الطبقة العاملة، ثم أصبحت أستاذة أكاديمية كبيرة ومرموقة، ورغم ذلك لم تنس مكانتها الاجتماعية الأولى، وهى تيمة كلاسيكية اشتغل عليها معظم كتابنا القدامى. 

القائمون على الجائزة قالوا عن أعمالها أيضًا «إنها غير مهادنة»، «صورت فيها حياة تشوبها الفوارق الكبرى فى اللغة والجنس والطبقة».

وقال البروفيسور كارل هنريك هلدن، رئيس لجنة منح الجائزة هذا العام، إن عمل الكاتبة التى تبلغ من العمر ٨٢ عامًا «مثير للإعجاب ومتين»!.. فوز الكاتبة الفرنسية بنوبل هذا العام هو فوز لأوروبا والغرب، فوز لثقافات تعانى من خواء روحى، أما فن الرواية خارج الغرب فهو فى حال أفضل، ولولا معايير الترجمة الظالمة، والتى يحركها رأس المال الغشيم، والذى يؤمن بتفوق الغرب على شعوب الأرض، لكان الفائز هذا العام وفى الأعوام الكثيرة الماضية.. أحد المشغولين بالإنسان.. بصرف النظر عن جنسيته.