جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

التعليم طريق المستقبل

عندما استطاع الاتحاد السوفيتى الصعود إلى الفضاء قبل أمريكا، اعتبرت أمريكا أن هذا تقدم يجعلها فى خطر، وأن هذا الخطر نتيجة لتخلف التعليم.. هنا قامت كل مراكز الأبحاث وفى كل الاتجاهات بإعداد تقرير تاريخى تحت اسم «أمة فى خطر»، وكان هذا طبيعيا، حيث إن التعليم هو القاطرة الأولى لأى تقدم وتحضر وبناء دولة تساير هذا التقدم العالمى الذى تخطى كل الحدود.. 

هنا: ما حكاية التعليم لدينا؟ لا شك أن التعليم لدينا كان هو البوتقة التى تنصهر فيها عوامل تكوين الشخصية المصرية الوطنية المنتمية، وذلك منذ بدايات تطور التعليم منذ أن كان هذا التعليم يعتمد على المدارس الدينية هنا وهناك، وقد ظهر هذا جيدا بعد الاتجاه إلى التعليم العام بجوار التعليم الدينى الذى تبنته الدولة فى إطار الإمكانات المتاحة حين ذاك، وقد تمثل هذا فى تلك البعثات التعليمية إلى الخارج ثم إنشاء جامعة القاهرة ثم الاتجاه إلى مجانية التعليم فى أوائل الستينيات من القرن الماضى. كان التعليم الحكومى هو التعليم الذى يسهم فى تكوين هذه الشخصية المصرية من خلال المناهج الوطنية ودراسة التاريخ الوطنى والاهتمام باللغة العربية والأنشطة فى كل الاتجاهات «رياضية وثقافية وفنية» مما يسهم فى اكتشاف المواهب التى أخذت فرصتها بعد ذلك.. هنا وفى منتصف السبعينيات بدأت مشكلة تأثر التعليم الحكومى بما يوضع له من ميزانية فى الموازنة العامة لا تتناسب مع العدد المتزايد للسكان، الشىء الذى جعل هناك تكدسا فى الفصول ونقصا فى عدد المدارس، كل هذا ساهم فى بداية انحدار دور المدرسة فى القيام بدورها التعليمى والتربوى نتيجة للتخبط فى وضع رؤية تعليمية مستقبلية تساير التقدم العالمى، فوجدنا كل وزير يخرج علينا بمؤتمر تعليمى لا ينتج غير توصيات لا تطبق، أو من يلغى عاما دراسيا بلا مبرر صحيح ثم يتم إرجاع هذا العام الدراسى، وتعود ريما لعادتها القديمة، مما جعل التعليم فى حالة تجارب مستمرة تحدث تخلفا لا تقدما، فغاب أى تطوير للمناهج التى تقادمت فى الاعتماد على عملية الحشو والتلقين والنقل مما خلق عقولا تسليمية لا عقولا نقدية تفعل العقل وتنشط الفك. 

وفى ظل هذا التخبط وانحدار دور المدرسة، وجدنا ظاهرة الدروس الخصوصية التى تخطت كل الحدود التى تتوافق مع ظروفنا التعليمية والاقتصادية، ثم انتشار التعليم الخاص كالنار فى الهشيم.. وجدنا تعليما دينيا وتعليما أجنبيا «بريطانيا، يابانيا، ألمانيا، فرنسيا ..إلخ» والأخطر أن هذا التعليم لا يخضع عمليا للمنهج والرؤية الوطنية التى تسهم فى تكون الشخصية المصرية.. فلا اهتمام بدراسة التاريخ والمواد الوطنية واللغة العربية، بل من الطبيعى أن يتشكل الطالب حسب الهوى والثقافة الأجنبية التى يتعلم بها.. 

هنا، هل يمكن لنا أن نتحدث عن تعليم وطنى تنصهر فيه الشخصية المصرية؟ هنا هل يوجد مكان للانتماء الوطنى؟ هنا هل هناك فرصة للحديث عن الهوية والتراث والشخصية المصرية؟ ولذا لا بد أن تكون النتيجة ذلك التخبط الثقافى والتراثى والهويانى، وهذا مقصود ومرسوم، حيث إن ثقافتنا وهويتنا هما العاملان اللذان حافظا على التماسك المصرى طوال التاريخ، فهل لنا بقرارات سريعة ومجدية لمحاولة إعادة دور المدرسة الذى لا بديل له على الإطلاق حتى مع تواجد الأساليب الحديثة المزمع تطبيقها ولا نعلم كيف حتى الآن؟ هل يمكن أن نعيد دور المدرسة فى التوحد المصرى الحقيقى بعيدا عن الممارسات الدينية التى مكانها المجال الخاص الدينى وليس المدرسة والفصل بين الطلاب على أرضية دينية فى مادة الدين؟ ولماذا لا يتم تدريس مادة تحت أى مسمى تربى فى الطالب الأخلاق والقيم الدينية المشتركة وقبول الآخر، ويكون الجانب العقيدى فى المسجد والمدرسة وهذا هو الطبيعى؟ وأين المناهج التعليمية التى تربى العقل الناقد بعيدا عن التلقين؟ 

التعليم يا سادة هو القاطرة التى تحدد شكل باقى المجالات تقدما أو تخلفا.. أوجدوا طريقا لتطبيق القانون قبل تشريعه حتى نبدأ طريق المصداقية حتى نحمى الوطن الذى نهدف إلى تقدمه ورُقيّه عملا لا قولا، فعلا  لا شعارا.. العبء ثقيل والموقف خطير، ولكن طريق الألف ميل تبدأ بخطوة.. حمى الله مصر وشعبها العظيم.