جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

تاريخ طويل ومشاكل متعددة: البحث عن حل لأزمة السينما ضرورة واجبة «١-٢»

- لا شك أن سطوة مفهوم الترفيه فى الإنتاج السينمائى والتلفازى أثرت سلبًا على محاولات إنتاج أفلام مختلفة فى الرؤية، والسرد الفيلمى، والخيال البصرى خاصة مع قلة الإنتاج

- كانت نقلة صلاح أبوسيف والاتجاهات الجديدة خروجًا نسبيًا عن النزعة الحكائية الفيلمية التقليدية فى نقد الواقع الاجتماعى واختلالاته وصراعاته الطبقية

كانت السينما المصرية إحدى علامات دخول مصر العالم الحديث، مثلها فى ذلك مثل الهندسات القانونية الوضعية الحديثة. القانون المدنى والجنائى والتجارى كانت علامات تنظيم العلاقات الاجتماعية وبناء الدولة الحديثة. كانت السينما والمسرح تعبيرًا عن مواكبة الثقافة المصرية لعالم مختلف، وشبه حداثى ورؤية مختلفة للذات والعالم، وخروج مصر والمصريين من رتابة العالم التقليدى وسكونه ومعه أوضاعه الاجتماعية وقيمه التقليدية. العالم يتغير ويتحول ومعه أدوار ووظائف تتغير وتنتهى، لكن دونما قدرة من بعضنا على المواكبة والتحول وإعادة التكيف والتأهيل لعدم المتابعة والتكوين والتعلم! ما كان حديثًا تحول إلى ما بعد الحداثة ثم ما بعد بعدها فى الفكر والرؤية والفلسفة والأدوات. من ثم ما كان وظيفيًا أداة حداثة ورؤى جديدة وجزءًا من الصناعات الحديثة وثوراتها يترك فى حالة تداعٍ ووهن وتراجع وتخلف، وهذا حال السينما المصرية والجماعة السينمائية؟! والسؤال: هل هناك مخرج؟!

أولًا: المشكلات والتحولات

السينما المصرية والعربية تواجه مشكلة أساسية أنها الفن الأساس الذى يخضع للقيود على حرية التعبير، نظرًا لأن السرديات السينمائية هى الأكثر تأثيرًا على جماعات المشاهدين من كل الفئات الاجتماعية، من حيث المباشرة أو الصمت، أو لغة الصورة وسلطتها، وتأثيرها على عيون وعقول المشاهدين. من هنا تشكل السلطة الرقابية أحد أبرز العوائق على حرية السرد السينمائى، وعوالمه، وتخييلاته الواقعية، وتحولها إلى أحد أنماط السرد السينمائى، لأن السرد السينمائى مغاير للسرد عن الواقع فى الحياة اليومية للجموع الغفيرة، وللأشخاص، والأمكنة، والسلوكيات والقيم المضطربة وهشاشتها وتهتكها وانفجارها كشظايا فى قلب الحياة اليومية المرهقة والمترعه بالأمل والألم. تحول الواقع الحى والمتغير، والساكن، إلى سردية سينمائية، هى عملية تحول، واختلاف، عن سرد الواقع فى ذاته، أو حتى سرد الكتابة الروائية، الذى يتحول إلى سردية بها بعض التغاير، أو التخييل فى سردية السيناريو، والحوار والأداء التمثيلى، والإخراج، والديكور... إلخ!

من هنا كانت، ولا تزال، سلطة الرقابة- فى عصر الدنيا المفتوحة على حرية التعبير الرقمى- أحد أبرز كوابح الخيال، وعمليات التخييل السينمائى. الرقابة سياسية وأمنية ودينية بامتياز، ولديها رهاب الخوف من تأثير السرد السينمائى على جماعات المشاهدين، والأخطر أنها لا تنظر رقابيًا إلى ما قد يُشكل من وجهة نظرها خطرًا أو تهديدًا لسلطات الدولة، واستقرارها، فقط، وإنما ما يهدد خطابها السياسى والأيديولوجى، والدينى، والقيمى، وإنما ما قد يشكل مواجهة مع قيم وأخلاقيات وثقافة الجموع الغفيرة وأنماط تدينها الشعبى، ومعها ما تروجه السلطات الدينية الرسمية، فهى رقابة خائفة من الاختلاف مع السلطة السياسية، والدينية والأخلاقية السائدة، وأيضًا خائفة على تهديد ما استقر فى الوعى الجمعى للجموع الغفيرة من عقائد وسرديات دينية ومفاهيم أخلاقية، أيًا كانت! مهما كانت ازدواجية قيم وسلوك هذه الجموع الغفيرة.

فالعائق الثانى أمام حرية التعبير والتخييل السينمائى يتمثل فى ثقافة الجماعة السينمائية، المصرية والعربية، التى تعتمد على تكوين تعليمى بات تقليديًا نسبيًا وراكدًا مقارنة بمعاهد السينما عالميًا! خاصة فى ظل نقص البعثات الخارجية إلى المعاهد الكبرى فى الدول الغربية- أمريكا وكندا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا... إلخ. ودول شرق أوروبا، كما كان الأمر عند نشأة معهد السينما. غالب الأساتذة من خريجى المعهد، ومن الحاصلين على شهاداتهم ما بعد العليا من معهد السينما بأكاديمية الفنون هم من خريجى المعهد، أى نحن إزاء مخرجات لعملية إعادة إنتاج المعرفة السائدة التى تشكلت فى مراحل تاريخية سابقة. من ثم نحن إزاء تكوين بات تقليديًا فى بناء المعرفة ونقل الخبرات المحلية لدى هؤلاء وتلامذتهم وثمة استثناءات محدودة بين الخريجين والأساتذة، بينما تطورت هذه الدراسات فى المعاهد السينمائية الكبرى فى عالمنا. لا شك أن المعرفة والتعليم المحلى الذى يعاد إنتاجه يشكل حدود الخبرات، والوعى، والخطاب السينمائى التعليمى فى كافة التخصصات، ويجعل الصناعة ذاتها تدور فى حدود النظرات المحلية مع بعض الاستثناءات اللامعة التى كانت تظهر بين الحين والآخر وتحدث فرقًا فى أعمالها!

إحدى أبرز المشكلات تتمثل فى استمرارية غلبة السرد الحكائى على كتابة السردية السينمائية والسيناريو والحوار، والاستثناءات محدودة. لا شك أن هيمنة الحكائية فى السرد السينمائى، هى تعبير عن هدف مخاطبة عيون وعقول ووجدان الجماهير الغفيرة تحقيقًا للرواج فى العمل، إلا أن ذلك يشكل عائقًا إزاء التخييل فى السرد السينمائى، والنزوع إلى التجديد والتجريب، الذى يطور من السرديات السينمائية! صحيح أن دخول السينما مصر فى مرحلة ما بعد عرض الأخوين لوميير فيلمهما الأول فى الإسكندرية والقاهرة- فى الأولى فى ٦ يناير ١٨٩٦، فى مقهى زوانى أو بورصة طوسون بالإسكندرية. فى ٥ نوفمبر ١٨٩٦ ثم فى «حمام شنايدر- شنايدر باث» فى القاهرة- كان تعبيرًا عن الطبيعة الكوزموبوليتانية لكلتا المدينتين، وطابعهما شبه الحداثى ثم بعد ذلك نشأة صناعة السينما، خاصة مع تأسيس استوديو مصر، وتوطين هذا الفن الجديد، الذى ساهم فى تشكيل الثقافة الحداثية فى مصر، وثقافة العيون، لكن ظلت النزعة الحكائية هى عماد الأفلام المصرية، وتطورت مع النزعة الواقعية النقدية- إذا جاز التعبير، مع صلاح أبوسيف - ثم تطورت إلى الاتجاهات السينمائية الجديدة التى تأثرت بهزيمة يونيو ١٩٦٧، ومعها الموجة الجديدة فى فرنسا مع جان لوك جودار، وفرانسوا تريفو، وفى إيطاليا مع الواقعية الإيطالية الجديدة مع جوزيبى دى سانتيس، وألبرتو لاتودى، وفيدريكو فللينى، وسيزار زافانتينى، وسوسو سيسى داميكو، وبرونو كاروسو، والسينما الألمانية الجديدة مع هيرتزوج، وفيم فيندرز، وفاسبندر وآخرين.

كانت نقلة صلاح أبوسيف والاتجاهات الجديدة خروجًا نسبيًا عن النزعة الحكائية الفيلمية التقليدية فى نقد الواقع الاجتماعى واختلالاته وصراعاته الطبقية.

هذه الاتجاهات الجديدة المتأثرة بتطور المدارس السينمائية الغربية، لم تستمر طويلًا من خلال طوفان الأفلام التى أطلق عليها «سينما المقاولات» و«السينما النظيفة» بعد ذلك، وكان وراءها صعود ثقافة النفط، وتأثيرها على الإنتاج السينمائى المصرى، الذى خضع لشروط دول الخليج فى أعتاب حرب أكتوبر ١٩٧٣، وتدهور الفن السينمائى المصرى، وكانت الاستثناءات محدودة، لبعض المخرجين الكبار من أمثال يوسف شاهين، وداود عبدالسيد. وخيرى بشارة، وعلى عبدالخالق، ومحمد خان، وعاطف الطيب، ومجدى أحمد على فى بعض أعمالهم مع آخرين.

كانت موجات سطوة الإسلام السياسى الراديكالى، والإخوان والجماعات السلفية، أثرت سلبًا على فن السينما والتجريب فى إطاره، وأدت إلى رهاب الخوف من المغامرة والتجريب، ومعها رسملة السينما، وخضوعها للرأسمال العربى، وعدم اهتمام الدولة فى عهدى السادات ومبارك بالسينما، واقتصار هذا الاهتمام على مهرجان القاهرة السينمائى السنوى، الذى أسسه كمال الملاخ، والجمعية المصرية لنقاد السينما. لم تهتم الدولة ووزارة الثقافة بالسينما أو دعم بعض الأعمال الجادة تجريبًا، ورؤية!.

فى ظل تحولات رأسمالية الدولة فى عهد ما يسمى الانفتاح الاقتصادى، فى عهد السادات والخصخصة فى عهد مبارك، تراجعت أعداد دور السينما، وتحول غالبها إلى محلات للبيع والشراء أو إلى عمارات للسكنى، من أصحابها، خاصة فى الصعيد، والدلتا، بل وفى القاهرة والإسكندرية!

هذا التراجع دلالة على تراجع الاهتمام بالسينما، نظرًا لشيوع مفهوم الثقافة الترفيهية، وسينما المقاولات والسوق، وظهور استديوهات للسينما، والدراما التلفازية فى دبى وعجمان وتونس!

تراجعت المغامرات السردية السينمائية فى السيناريوهات والإخراج إلّا قليلًا، لصالح الحكايات البسيطة، وصولًا إلى الحالة السينمائية الحالية، وتراجع الإنتاج السنوى من الأفلام من أكثر من مائة وعشرين فيلمًا سنويًا إلى عدد لا يتجاوز عشرين فيلمًا سنويًا فى أوائل عهد مبارك، يرجع ذلك أيضًا إلى ارتفاع أعداد المسلسلات التلفازية، واتساع سوقها العربية فى منطقة الخليج، وانتقال المشاهد من السينما إلى التلفاز ومسلسلاته، ثم منافسة الدراما السورية والخليجية والتركية، والمكسيكية واللاتينية المدبلجة، للدراما التليفزيونية المصرية وإزاحتها نسبيا!

لا شك أن سطوة مفهوم الترفيه فى الإنتاج السينمائى والتلفازى أثرت سلبًا على محاولات إنتاج أفلام مختلفة فى الرؤية، والسرد الفيلمى، والخيال البصرى خاصة مع قلة الإنتاج، وبروز أجيال جديدة، ومنها السينما المستقلة، وتجاربها، والأفلام القصيرة، بل وأفلام ومهرجانات الموبايل. كانت السينما المستقلة أكثر تطورًا من السينما الروائية التى يسيطر عليها بعض المنتجين، وثقافتهم المحدودة التى ركزت على الربح، وصعدت معهم أفلام تركز على العنف والبلطجة والإيحاءات الجنسية المباشرة... إلخ، سينما اعتمدت على قوة ثقافة الجموع الشعبية الغفيرة المهمشة، وعوالمها ونماذج البطولة داخل الأحياء الشعبية، وبناء القوة داخلها. أو بعض الأفلام ومعها الدراما التلفازية، إلى ثقافة الطبقة المفرطة الثراء التى تعيش داخل عوالم، وقصص الخيانات، ومؤامرات رجال الأعمال على بعضهم بعضًا، داخل «الكومباوندات» والفيلات الفاخرة والقصور والعربات الفاخرة. فى عوالم غالبها مصطنع. من هنا تبدو استمرارية نمط السرديات السينمائية الحكائية مسيطرة، وذات الحكايات التقليدية حول العشق، والخيانات الزوجية والعاطفية وصراعات القوة بين الأثرياء وذوى السلطة والنفوذ، وقوة المكانة فوق قوة القانون عمومًا.

ثم هيمنة عالم الأغلبية الشعبية المهمشة خارج النظام الاجتماعى، وعنفها، وتفاصيل حياتها البائسة وصعود بعضهم من خلال حيازة قوة المال، والقوة المادية البدنية، وتحدى بعض الضعفاء لبناء القوة فى الحارات، والشوارع، والأحياء الشعبية، وانتصار القوة الشابة الصاعدة على القوة الأكثر نفوذًا، وعمرًا، وأدوات القوة... إلخ! النساء هنا بعالمهن التقليدى من منظور ذكورى مهيمن، حيث اللؤم والتآمر، والتحريض، والإغراء الجسدى للذكور، والمنافسات بين بعضهن بعضًا، والتحريض ضدهن من بعضهن، وغالبًا ما لا تؤدى إلى النجاح وإنما الفشل بعد الأحن الشخصية، والمشاكل والعنف، فالدم ثم النهايات، سينما باتت تنتصر لنمط البطولة فى الإدراك الشعبى، خارج قانون الدولة، بطولة عبر فرض القوة بالسلاح، وانكسار الخوف. من ثم فرضت ثقافة الجموع الغفيرة فى قاع الحياة نمط تصوراتها، وعوالمها فى السينما، وقضاياها. الاعتبارات الفنية والجمالية والتمثيلية للسرد السينمائى تراجعت فى كافة عناصر الفن السينمائى، بل وفى الرؤية السينمائية، ومغامراتها وتجربتها! لم نعد أمام سينما مختلفة أو جديدة حاملة فلسفة بصرية، وفكرية مغايرة ضد الواقع، أو رؤية العالم، وتحولاته، وأثرها على الواقع الذى تستلهمه السرديات السينمائية السائدة، وترويجها العنف، والبلطجة وقانون القوة، والتفاهة والكراهية، وتمجيد الشر، وسادته، وسطوة الجنس وغوايات الجسد، والصعود اللامشروع لسادة المال وتسليع الجسد الأنثوى... إلخ!

من هنا تراجعت السينما المصرية، ومستويات أعمالها الفيلمية، ولم تعد تستطيع كمًا ونوعًا أن تنافس بفاعلية فى مهرجانات السينما العالمية، ولا توجد أفلام يمكن ترشيحها لبعض هذه المهرجانات كما حدث هذا العام فى عدم ترشيح فيلم مصرى لجائزة أوسكار أهم فيلم أجنبى، وباتت سينما محلية محدودة، بل وتخضع الآن إلى سلطة المال النفطى، واستعراضاته فى بعض البلدان فى شبه الجزيرة العربية، والخليج! وذلك كجزء من مفهوم ثقافة الترفيه التى تنتشر عالميًا منذ عقد التسعينيات من القرن الماضى، وإلى الآن. لكن مستويات ثقافة الترفيه خارج الإقليم العربى تختلف فى مستوياتها ونوعيتها عن ثقافة الرداءة والتفاهة فى هذه المنطقة، حيث تحاصر المغامرات والتجارب الفنية الجديدة فى السينما والموسيقى والفنون على تعددها، وتداخلها، وتمايزها!.

إحدى مشاكل السينما المصرية تتمثل فى النزعة الاقتباسية من بعض الأعمال السينمائية الغربية، وطرحها فى السياق الحكائى وعوالمه المصرية الواقعية دونما إبداع أو تجديد فى هذه الأعمال المقتبسة أو المنقولة عن الأفلام الأجنبية الأمريكية والغربية. ظاهرة الاقتباس، والنقل للسرديات الحكائية الفيلمية ليست جديدة، ولكنها قديمة، بل إن بعض الأفلام المهمة لبعض المخرجين البارزين، تمت استعارتها بما فيها بعض المشاهد، واللقطات البصرية والمشهدية! الاقتباس والاستعارة من المتن السينمائى الغربى، كان من الممكن قبولهما فى بعض مراحل تاريخ السينما المصرية إلا أنهام الآن وبعد هذا التراكم التاريخى يعدان دلالة عجز وأحد مظاهر الأزمة المستمرة والمتفاقمة للسينما المصرية!

من مشاكلنا السينمائية، النقد السينمائى ذو المستويات البسيطة، والساذجة فى تقييمه للأعمال السينمائية، وذلك لعديد الأسباب وعلى رأسها:

أ- عدم التكوين العلمى لمنتجى خطاب النقد، نظريًا وتطبيقيًا، وهو ما أدى إلى نقد حكائى للفيلم وتقييمات انطباعية سطحية والاستثناءات محدودة لبعض من جيلى الستينيات والسبعينيات، وبعض من الأجيال الجديدة الشابة على قلتهم.

ب- الدور السلبى لمحررى الصفحات الفنية فى الصحف والمجلات الورقية، فى عروضهم للأفلام، والسطحية الغالبة لحواراتهم مع الممثلين والممثلات والمخرجين! وهو سمت غالب فى زمن الصحافة الورقية. بعض المواقع الرقمية باتت أفضل فى بعض مقالاتها عن السينما، وخاصة من بعض من الأجيال الشابة من النقاد والسينيمائيين.

ج- الكتب السردية البسيطة تحليليًا ونقديًا الصادرة عن بعض السينمائيين، لا سيما من كان يطلق عليهم «نجوم» السينما المصرية، تاريخيًا، وهى كتابات باتت منتشرة، ويفتقر غالبها إلى المنهجية والرصد الدقيق للمعلومات عن هذه الشخصيات، وأيضًا ضعف التحليل الفنى والنقدى، وهو ما يمثل إعاقة للنقد السينمائى.

د- محدودية الترجمات عن فن السينما، ومدارسه وتطوراته غربيًا، وعالميًا، وهو ما أثر فى تكوين منتجى الخطاب النقدى، الحكائى السائد ومروجيه، والاستثناءات محدودة جدًا فى هذا الصدد.

هـ- سطوة خطاب الترويج للأفلام فى الصحف والتلفازات الفضائية للأفلام والفنانين وهو خطاب استهلاكى تافه، يلعب دوره بمقابل فى الغالب، وجزء من لعبة ووظائف العصب والشلل السينمائية.

من مشاكلنا أيضًا تحول المواقع الرقمية للصحف، وبعض المواقع الأخرى إلى لعبة الترويج لتفاهات، ولغو وسذاجة الفنانات والفنانين من كبار السن، أو الشباب حول بعض الوقائع الساذجة، وآرائهم الكاشفة عن الضحالة، وغياب الحد الأدنى من المعرفة أو تراكم الخبرة فى الحياة والوعى الاجتماعى لغالب هؤلاء، والاستثناءات محدودة. هذا النمط من المتابعات لهؤلاء الممثلين والممثلات بمن فيهم العجائز، يمثل ثقافة التفاهة اللامعة فى أيامنا، والتى تجد سندًا لها فى ضحالة الوعى الاجتماعى للمجموع الغفيرة الرقمية والفعلية، وتدنى مستويات تعليمها، وفشو أنماط الأمية الثقافية لدى غالبها من المتعلمين، أيًا كانت مستويات تعليمهم.

ساهمت المنصات الرقمية السينمائية فى إضعاف الإنتاج السينمائى، وجماعة المنتجين، وباتت تستقطب بعض الجماعة السينمائية للعمل فى إطار أفلامها، أو مسلسلاتها، وتطرح قضايا تتسم بالجرأة والخروج عن مألوف الرقابات الدينية والسياسية والأخلاقية السائدة مصريًا وعربيًا مثل المثلية الجنسية وحقوق المرأة والأقليات الدينية والعرقية وإسرائيل والتطبيع، مما يعد من المحظورات الرقابية فى مصر، وغالب الدول العربية!. لا شك أن هذه المنصات- نيتفلكس وشاهد وغيرهما- ستؤثر على نحو كبير على صناعة السينما، والأخطر على نمط استهلاكها، وعلى دور السينما الباقية، من خلال العرض على الألواح الرقمية، وأجهزة المحمول... إلخ! سيؤدى ذلك إلى تغير فى نمط استهلاك الأفلام، ونوعية السرديات السينمائية، ومن ثم على مفهوم النجومية فى السينما، وسرعة استهلاك المشاهدين بعض هؤلاء النجوم لمدد زمنية وجيزة، قد لا تتجاوز سنوات محدودة، من ثم انتهت ظاهرة النجوم- رجالًا ونساءً- لمراحل تاريخية طويلة كما كان يحدث فى تاريخ السينما المصرية، وهى ظاهرة عالمية فى السينما الأمريكية وغيرها، وستشغل هذه المدد أربع سنوات مثلًا فى عالم المنصات السينمائية الرقمية.

من المرجح أن تؤدى الرقمنة، وأنماط استهلاكها السريعة للمنشورات والتغريدات، والفيديو الطلقة إلى التأثير على نمط المشاهدة التقليدية للأفلام وسيؤثر مستقبلًا على السرديات السينمائية، من الطول إلى الإيجاز الشديد، من ثم ستلعب الأفلام القصيرة والمتوسطة دورًا بارزًا فى المستقبل.

من مشكلات الجماعة السينمائية، ضعف الثقافة التشكيلية لدى غالب العاملين فى الجماعة السينمائية، على الرغم من أهميتها القصوى فى إثراء الثقافة البصرية للمخرجين والمصورين وكتاب السيناريو من حيث التشكيل والإضاءة والديكورات، وخاصة فى التحرر من نمط الصور الواقعية للبيوت والشوارع والمزارع والجبال، والازدحام والبحر والنهر وغيرها من المشاهد العادية الناقلة للواقع فى السرد السينمائى. غياب الثقافة التشكيلية يجعل العمل الفنى ينطوى على التطويل والثرثرة، وضعف البناء السينمائى للعمل لأن ثقافة التشكيل ومدارسه تعطى للمخرج والمصور والمونتير... إلخ.. طاقة تخييل مختلفة، والكثافة فى العمل، والألماع دون اللغو، وأيضًا الحساسية فى إيقاع العمل. ثمة قلة من المخرجين والمصورين ممن لديهم هذه الثقافة التشكيلية وهو ما يظهر بوضوح فى أعمالهم، لكن التسطيح فى الرؤية البصرية يبدو واضحًا فى أعمال الغالبية، مع قلة أخرى من المخرجين والمصورين خارج هذا النمط الأغلب السائد، لدى قلة قليلة من الأجيال الشابة العاملة فى السينما المستقلة، لديها هذه الثقافة التشكيلية المصرية، أو العالمية.

الجزء الثانى الأسبوع المقبل