جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

فى ذكرى مولده الكريم.. نبرأ من الذين كذبوا على النبى ﷺ

(1)

(من كذب علىّ عامدا متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)..هذا الحديث يتصدر كتب الأحاديث المتواترة عن النبى (ص)، وهى فئة الأحاديث التى تحظى بأعلى نسبة توثيق ويعتبرها علماء الحديث لا تقبل الشك فى نسبتها للنبى (ص)، ولذلك لا يتجاوز عددها فى بعض المصادر مائة وعشرة حديث!

وهذا الحديث تحديدا يحظى بأكثر عدد من الرواة فى طبقاته الثلاث (الصحابة والتابعين وتابعى التابعين). مما يعنى أن النبى(ص) كان حريصا على تكرار التحذير للمسلمين من الكذب عليه بدرجة أكثر من تحذيره من مثالبٍ أخرى كان متوقعا أن يسقط فيها المسلمون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. 

وهذا دليلٌ قاطع على خطورة الفعلة وما يترتب عليها من نتائج تخص المسلمين دينا ودنيا! 

ويتفق علماء اللغة تقريبا على أن معنى (كذب علىّ عامدا) هو (ادعى علىّ ما لم أقله أو أفعله.) 

فهل التزم المسلمون– بشكل جمعى- بذلك وحصّنوا أنفسهم من الوقوع فى أغلظ الآثام؟! 

(2)

فى أكثر من أربعة عشر قرنا، ومن خلال ما وصل إلينا عبر كتب الحديث والفقه المترتب عليها، ومن خلال ما تم توثيقه من أحداث تاريخية سياسية يمكن القول بكل أسف إن المسلمين لم يعملوا– بشكل جمعى– بتحذير النبى(ص)، فقد كذبوا عليه، ثم توارثت هذا الكذب الأجيالُ المتعاقبة حتى أصبح حلم تخليص ما نسب للنبى من أقوال وأفعال من هذا الكذب بعيدَ التحقيق!

يمكن لأى راغبٍ أن يتتبع رحلة الكذب هذه منذ العقود الأولى بعد وفاة النبى (ص) حين ظهرت طائفة تسمى (الوضّاع)، وهم الذين أتوا بعباراتٍ من عندهم عن أفضال بعض سور القرآن الكريم ثم نسبوها للنبى (ص) فى عملية كذب صريحة مقتنعين أنهم بذلك يؤثرون فى المسلمين ويحضونهم على العودة للقرآن بعد أن رأوا انصراف بعض المسلمين عن قراءته وتدارسه كما كان يحدث ذلك فى فترة النبوة!

أحيانا تم افتئاتُ أحاديث لجعل المسلمين يلتزمون ببعض أوامر الحكام فيما يخص تفاصيل الحياة العادية، حيث كان ذلك أسهل الطرق لإخضاع الشعوب بغمس الأوامر الحكومية بصبغة دينية مستمدة من أقوال منسوبة للنبى (ص) بدلا من الاستغراق فى محاولات إقناع عقلية لتلك الشعوب!

كما لعبت السياسة منذ نهايات فترة الخلفاء الراشدين دور البطولة فى الكذب على النبى(ص) بنسبة بعض الأقوال إليه تكريما لبعض أصحابه رضوان الله عليهم وترجيحا لبيوتٍ بعينها على البعض الآخر بحثا عن شرعية دينية لتولى الحكم!

وكان ذلك سببا رئيسيا فى الانقسام الأول للمسلمين انقساما سياسيا، ثم استمر الكذب بعد ذلك بشكل رسمى أكاديمى ليقنع زعماء كل مذهب أتباعهم بالشرعية الدينية للمذهب!

(3)

يمكن القول إنه منذ بدء هذا الانقسام وتحول المسلمين لفرق سياسية أولا، ثم مذاهب دينية مؤسسة على الانقسام السياسى ثانيا، فقد بدأ عصرٌ جديد من تكريس ما حذر منه النبى(ص). 

فى هذا العصر المذهبى الجديد بعد أن انقسم المسلمون، تم تدشين مدارس فقهية لكل مذهب وتصدى لذلك مئات العلماء والدارسين. وقامت تلك المذاهب على تفسيرات علمائها للقرآن الكريم والمختلفة عن تفسيرات علماء المذاهب الأخرى، وعلى ما نسب للنبى(ص) قولا وفعلا. 

وتم تأسيس علوم دينية جديدة لمحاولة رتق العيوب العلمية والموضوعية التى ألقت بظلالها على مصداقية ما كان يُنسب صدقا أو كذبا للنبى(ص). أسست تلك العلوم لما اعتبره هؤلاء درة الفكر الدينى الإسلامى رغم تهافت الفكرة ذاتها موضوعيا وعقليا، وخطورتها..

وأقصد بذلك فكرة منح المصداقية لأى قول منسوب للنبى(ص) إذا ما وافقت سلسلة الرواة واتفقت مع المقاييس التى وضعها زعماء وعلماء كل مذهب، وبغض النظر عن المتن ذاته، واتفاقه أو اختلافه مع القرآن الكريم أو مع أخلاق وسمات النبوة الواردة فى القرآن الكريم أو حتى مع سمات الإسلام ذاته!

هذه المرحلة التاريخية الفاصلة ما بين القرنين الثالث والخامس الهجريين ألقت بظلالها القاتمة على جميع ما لحقها من فترات وأجيال فيما يخص فكرة الكذب على النبى(ص). 

لأن علماء ومنظرى كل مذهب قد تركوا إرثا ضخما لأتباعهم مثقلا بآلاف الأقوال المنسوبة جميعها للنبى(ص). وكان على علماء كل مذهب من الأجيال التالية والأحدث أن يتمسكوا بهذا الإرث حتى اكتسب ما يمكن أن نسميه حصانة جماهيرية. 

نبعت تلك الحصانة الجماهيرية من خلال الاحتفاء الكبير بذلك الإرث من جانب علماء كل عصرٍ لاحق، وعدم محاولة المساس به مما غرس فى عقول تلك الجماهير فكرة قداسة هذه الأقوال، والرفض الفورى القوى والمتشنج لأى احتمال بإثبات عدم علاقة بعضها من قريب أو بعيد بالنبى(ص). ويمكن القول إننا وصلنا بتراكم الأجيال إلى منتجٍ من الكذب يعتقد الناس أنه مقدس!

(4)

إن المأساة التى حذرنا منها النبى(ص) قد وقعت بالفعل، حيث إن تلك الأكاذيب كان لها أحيانا الكلمة العليا فى مواقف سياسية، وبعضها كان سببا فى سفك الدماء، سواء دماء المسلمين أو غيرهم من رعايا الدول الإسلامية المتعاقبة!

يمكننا فقط أن نتخيل كم من الأنفس التى قُتلت عبر العصور بناءً على حكم فقهى استند على كذبة نُسبت للنبى(ص) اسمها حد الردة! وكم من الخلفاء والولاة قد استعملوا علماءً بعينهم للحكم بردة هذا أو ذاك لاستباحة دمه!

وكم من الأنفس التى قُتلت، وكم من الممارسات الدموية قد اُرتكبت متدثرة كذبا وبهتانا بكذبة نسبت للنبى (ص) (لقد أتيتكم بالذبح)!

وكم من الفنون– موسيقى ونحت- التى تم حرمان المسلمين منها بناءً على أكاذيب أخرى مشابهة، فتم وسم المسلمين بالغلظة والتخلف!

وكم من العلوم التى حُرم المسلمون منها قرونا طويلة بناءً على أكاذيب ثالثة، حتى فى العصور الحديثة لم تشق تلك العلوم طريقها فى المجتمعات الإسلامية إلا بقوة الحكام!

قطعا كان هناك مَن قاوم هذا الكذب ودفع ثمن مقاومته، وسأكتفى هنا بمثالٍ واحد وهو ما تم فعله بالإمام الطبرى حين رفض حديثا منسوبا للنبى(ص) بأن الله سوف يجلس النبى (ص) على العرش معه!

فقد تم الاعتداء على الرجل المسن ولم يستطع مغادرة منزله بسبب حصاره، حتى إن وفاته وقصة دفنه كانت مآساة خالصة!

(5)

لا يمكن إنكار جهود بعض علماء الحديث عبر الفترات التاريخية المتراكمة فى محاولات تصويب ما تم إنتاجه بالفعل فى التدشين الأول (للكذب المذهبى)، ولقد أثمرت تلك الجهود ما يمكن أن نقول إنه توثيقٌ وإثباتٌ لما يردده دعاة التنوير اليوم وما ورد فى الفقرات السابقة من هذا المقال!

فلقد أثمرت تلك الجهود تصنيفا لآلاف الأقوال المنسوبة للنبى(ص) يؤكد بشكل يقينى أن هناك مَن كذبوا عليه عامدين متعمدين، وأن أكاذيبهم قد شقت طريقها عبر العصور بين المسلمين حتى وصلت إلينا ثم كشف كذبَها ذلك التصنيفُ!

جهود علماء الحديث وتصنيفهم - وإن كان لم يمنع تلك المآسى من الوقوع فى القرون الأولى - إلا أنها منحتنا – نحن المسلمين المعاصرين – وثيقة إدانة دامغة لفئةٍ جديدة معاصرة من الذين يكذبون على النبى (ص) عامدين متعمدين!

حين يصلى أحدنا الجمعة، فيصعد أحدهم المنبر ويشرع فى حديثه بادئا بجملة قطعية (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قبل أن يبدأ فى سرد ما يريد من أقوالٍ وعبارات دون أن يقترب من قريبٍ أو بعيد من إخبار المسلمين المستمعين عن أن ما يقوله إنما رواية منسوبة للنبى(ص) قد تكون صوابا وقد تكون خطأ!

ثم تتنحى حسن النوايا جانبا وتماما، حين يكون تصنيف أى مقولة تأتى بعد الجملة الافتتاحية قال رسول الله(ص) أى تصنيف غير التواتر اليقينى والذى لا ينطبق إلا على حوالى المائة حديث وعشرة!

لأن عدم ذكر الحقيقة كاملة فى هذا الموضع ومن فوق المنبر، والبدء بجملة قطعية مثل تلك، يعنى تماما الكذب العمدى على النبى(ص) وخداع العوام الذين لا حظ لكثيرٍ منهم فى أى بحث موضوعى!

وينقلب الموقف إلى خداع حقيقى حين يصرخ أحدهم قائلا (فى حديثٍ صحيحٍ يقول رسول الله.....)! هو يقصد يقينا خداع المسلمين بأن ما سوف ينطق به ثبت نسبته للنبى(ص) بشكل (صحيح)، وهو يعلم بحكم وظيفته أن كلمة (صحيح) هنا ليست سوى مصطلح أكاديمى وضعه يوما بعض علماء الحديث، ولم يتفقوا جميعا فى تصنيف جميع الأحاديث، ف(الصحيح) عند بعضهم (حسنٌ) عند آخرين وهكذا!

ثم ننتقل من مرحلة الخداع والمراوغة إلى مرحلة الجريمة الكاملة حين يكون تصنيف العبارة المذكورة فوق المنبر ضعيفة أو موضوعة، حيث يعنى ذلك أن الرسول(ص) وبشكل يقينى لم يقل هذا الكلام!

فى هذا الموضع لا يمكن قبول أى مبررات فقهية أو سفسطة كلامية يدّعيها أى شخصٍ من عينة أنه لا ضرر إذا ما كانت (المقولة المكذوبة على النبى) تدعو للخير أو لطيب الأعمال! 

لأن ذلك من جهة يعود بنا إلى البدايات الأولى مع طائفة الوضاع الأولى. ومن جهة أخرى فإن وصف الشىء أو الغاية بالطيب أو بالخبيث لم يعد محسوما متفقا عليه بين مواطنى أى مجتمع! فمثلا عمل أى شىء للوصول لفكرة الخلافة الوهمية من وجهة نظر البعض شىءٌ طيب ربما يستحق الكذب! 

لا مبرر أو دفاع يمكنه تبرير الكذب على النبى(ص)، ودفعنا لقبول الجريمة!

من أهم الأمثلة على الثمن الذى دفعته ومازالت تدفعه الأمم المسلمة المعاصرة نتيجة لما تقوم به تلك الفئة من الكذابين على النبى (ص)، هو ما حدث فى مصر فى العقود الأخيرة. 

انفجار سكانى سببه اعتقاد المصريين بتحريم تنظيم الأسرة لقيام تلك الفئة بغرس مقولة منسوبة للنبى(ص)، والكذب فى نسبتها أولا، ثم فى تفسيرها الذى لا يعنى سوى الحض على السنن المؤكدة من زواج وإنجاب وليس الكثرة العددية!

اغتيال سياسيين ومفكرين وعلماء دين أحيانا استنادا لما يسمى بـ(أحاديث الردة).

حرمان المرأة من تولى كثير من المناصب لقيام نفس الفئة بغرس مقولة (لا يفلح قومٌ تولت أمرهم امرأة)!

الأمثلة أكثر من أن تُحصر عددا، وأخطر من أن يمكن حصر تأثيرها أوالخراب والتخلف وسفك الدماء الذى خلفته فى كثيرٍ من أوطان المسلمين!

(6)

فى ذكرى مولده عليه الصلاة والسلام، فإننا نبرأ مِن كل مَن كذب عليه عامدا متعمدا، فأضل المسلمين وتسبب فى إزهاق أرواحٍ أو تخلف أمم أو تصدير أفكار غير حقيقية عن الإسلام ذاته بين الأمم الأخرى.

إننى أؤمن يقينا بأن محمدا (ص) هو رحمة أرسلها الله للبشر كافة، وأنه كان فى سلوكه الفعلى مثالا لتجسيد كل معانى التسامح والرحمة مع جميع الكائنات وجميع أطياف البشر بغض النظر عن ديانتهم.

إننى أؤمن بأن محمدا (ص) برىءٌ تماما من كل ما نسبه إليه بعض المسلمين قولا أو فعلا مما لا يتفق مع السماحة والرحمة واللين..وأنه لم يأتِ للناس بالذبح والقتل وإنما بالرحمة والعفو..

إننى أؤمن بأن كل من نسب للنبى (ص) عمدا حرفا لم يقله أو حركة لم يتحركها، هو– ومهما كانت شخصيته أو بلغ علمه الآفاق- مجرمٌ اقترف جريمة ضد النبى(ص) وضد الإسلام وضد المسلمين كافة.

إن التبرؤ وحده ممن كذبوا على النبى(ص) ليس كافيا إطلاقا، وإنما نحن– المسلمين المعاصرين– مطالبون بالقيام بثورة عقلية حقيقية تلفظ تماما كل ما يثبت تهافته أمام الشكك والتشكيك الأكاديمى من أقوالٍ نسبت للنبى (ص) فى القرون الأولى ثم تم تقديسها فيما بعد.

علينا فعل ذلك، حتى لو بلغت نسبة ما يثبت تزويره ودسه أو الشك فى مصداقيته تسعة وتسعون بالمائة من تلك الأقوال، فساعتها يكفينا موردا ننهل منه ما يثبت نزاهته تماما عن أى شك، حتى لو كان واحد فى المائة فقط مما تكتظ به المجلدات العتيقة!

إن كان النبى (ص) يحذر هؤلاء الكذابين ويتوعدهم بمقعدٍ من النار، فإننا يجب أن نتقرب إليه عبر تمزيق الأستار التى تتخفى خلفها تلك الأكاذيب المفتراة عليه.

إننا يجب أن نعيد صياغة مضمون العبارة التى طالما تاجر بها كثيرٌ من الكذابين والأفاقين (إلا رسول الله)!

كانوا يرفعونها، ثم يحرضون الناس على الكراهية والعنف وأحيانا سفك الدماء! كانوا يرفعونها ثم يكذبون عليه كما يشاءون..!

فيجب أن يعاد صياغة مضمون هذه العبارة بألا نقبل استمرار الكذب على النبى (ص)، فهكذا يمكننا أن نقول (إلا رسول الله)، وهكذا ندافع عنه وعن سيرته دفاعا صحيحا بتنقيتها مما ألصقه المسلمون بها، وأن نبرز الصفات التى وصف الله بها نبيّه فى القرآن الكريم..