جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

بعد قرارات موسكو بضم 4 مناطق

الجولة الجديدة بين روسيا وأوكرانيا.. توجه للسلام أم هدوء يسبق العاصفة النووية؟

روسيا وأوكرانيا
روسيا وأوكرانيا

- 3 سيناريوهات ترسم ملامح تطور الأزمة خلال الفترة المقبلة

- الدعم الأمريكي والغربي لكييف يحدد التوجه للهدوء أو تصعيد المواجهات بشكل غير مسبوق

- الطاقة والاقتصاد والقلاقل المجتمعية والسياسية في أوروبا أبرز رهانات روسيا

- موسكو حققت أهدافها من العملية العسكرية بتحييد قدرات أوكرانيا عسكريًا واقتصاديًا

- المناطق الأربع تضيف لروسيا 70% من ثروات كييف الطبيعية وتعزز قدراتها الجيوسياسية

 

تتعلق الأنظار منذ يوم الجمعة الماضي بالعاصمة الروسية موسكو، بعد أن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن ضم 4 مناطق من أوكرانيا هي «دونتيسك ولوجانسك وخيرسون وزابوريجيا» إلى الاتحاد الروسي، لتبدأ مرحلة جديدة في عمر الأزمة الروسية الأوكرانية بعد أكثر من 7 أشهر على بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وتوالت التساؤلات عن الاستراتيجية التي تتبعها موسكو وكيف ستكون خطواتها المقبلة وهل ستكتفي بما حققته في أوكرانيا حاليًا أم هناك المزيد في جعبتها، وكيف يمكن أن ترد أمريكا والغرب على هذه القرارات خاصة في ظل  تصريح المسئولين الروس وعلى رأسهم «بوتين» باستخدام الأسلحة  النووية، وهو ما ظهر جليًا بعد تصريحه في 21 سبتمبر الماضي والذي قال فيه إنه لا يخادع عندما قال إنه مستعد للجوء لأسلحة نووية للدفاع عن بلاده؟.

- موسكو تسبق بخطوة.. وتحتفي بانتصار الضم باستراتيجية «بيان على المعلم»

جاء ظهور «بوتين» في الاحتفال الكبير الذي أقيم في قصر الكرملين للإعلان عن قرارات الضم استمرارًا للرؤية الروسية والتي تؤكد على ضرورة أن تسبق دائمًا بخطوة أو خطوتين تصرفات أمريكا والغرب وحلف شمال الأطلسي «الناتو»، وأكد «بوتين» خلال الاحتفال أنه لا تراجع عن قرارات الضم بعد أن تم عمل استفتاءات في المناطق الأربع، وأن سكانها أصبحوا مواطنين روسًا إلى الأبد وأن روسيا لا يمكن أن تخون هذا الاختيار أبدًا، مشددًا على أن النصر سيكون حليف موسكو، داعيًا كييف إلى وقف إطلاق النار والعودة للمفاوضات.

وأكد أنه لن تكون هناك أي مفاوضات مع أوكرانيا، فيما يتعلق بالمناطق التي تم ضمها، مستشهدًا بالاستفتاءات التي جرت في تلك المناطق، وأظهر الرئيس الروسي قراراته وكأنها إعلان للانتصار ولو بشكل جزئي مع الحفلة الموسيقية التي أقيمت مساء إعلان قرارات الضم والتي أقيمت في الساحة الحمراء بوسط موسكو احتفالًا بضم أربع مناطق أوكرانية، وأعاد خلالها التأكيد على أن روسيا ستحقق النصر في النزاع مع أوكرانيا، وقال بوتين أمام آلاف من المواطنين الروس الذين حضروا هذه الحفلة «النصر سيكون لنا»، وخاطب سكان المناطق التي تم ضمها، «أهلًا بكم في الوطن، معتبرًا أنهم عادوا لوطنهم التاريخي»، كما أن قرار الضم تعتبره موسكو جزءًا من تكتيك «بيان على المعلم» المعروف لدى العسكريين لتشير من خلاله إلى أن هذا سيكون مصير أي دولة تتجاوب مع دعوات ورغبات أمريكا وحلف «الناتو» في تهديد أمنها القومي.

- رفض أوكراني وتنديد غربي ودعم أمريكي لكييف

في الجهة المقابلة عقب الإعلان الروسي توالت ردود الفعل الأوكرانية والغربية الرافضة والمنددة بالخطوة الروسية، وأعلنت أوكرانيا عن رفضها لقرارات ضم المناطق الأربع، مؤكدة أنه احتلال وأنها ستستمر في القتال لتحرير هذه المناطق مع بقية الأماكن التي تتواجد فيها القوات الروسية.

وأعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن أنه اجتمع بقادة الجيش، يوم الجمعة، لمناقشة خط تحرير الأراضي الأوكرانية التي تحتلها روسيا، وقال إنه ناقش هو وقادة الجيش أيضًا إمدادات الأسلحة، فضلًا عن الخطط الأخرى المحتملة لروسيا بعد غزوها لأوكرانيا.

وكذلك وفي أول رد رسمي على دعوة الرئيس الروسي لسلطات كييف بوقف إطلاق النار والعودة للمفاوضات، وافق «زيلينسكي»، الثلاثاء، على قرار مجلس الأمن القومي والدفاع في بلاده، بشأن استحالة إجراء مفاوضات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتشكل هذه التصريحات للرئيس الأوكراني موقف كييف من دعوات «بوتين» بوقف القتال والعودة للمفاوضات.

موقف كييف جاء استنادًا إلى حالة التنديد الغربية التي أدانت القرار، بعد أن أكد الاتحاد الأوروبي عدم اعترافه بالخطوة الروسية، بالإضافة إلى تأكيد واشنطن أنها لن تعترف بقرارات الضم وأنها ستفرض عقوبات جديدة على روسيا وستزيد من دعمها لأوكرانيا، وهو ما ترجمته بشكل فعلي إلى مساعدات جديدة بقيمة 625 مليون دولار أمريكي، وهو ما يرفع الدعم الأمريكي لأوكرانيا إلى أكثر من  17.5 مليار دولار منذ  مجيء إدارة بايدن للسلطة.

اقرأ أيضًا.. حسابات الخسائر والمكاسب وتوازن القوى.. كيف تأثرت دول الجوار بالأزمة «الروسية -الأوكرانية»؟

 

- ماذا جنت موسكو من أهداف عبر العملية العسكرية؟

خطوة العقوبات والمساعدات الأمريكية لم تشكل أي انزعاج لموسكو، والتي بدا أنها تتصرف بشكل هادئ تمامًا بعد أن حققت الجزء الأكبر من أهدافها في العملية العسكرية الخاصة على أوكرانيا، فقد استطاعت روسيا أن تضم فعليًا وعلى الأرض المناطق الأربع التي أعلنت عنها.

كما تمكنت روسيا من خلال هذه العملية العسكرية من تحييد حوالي نصف قوات الجيش الأوكراني العامل، وفقًا لتصريحات وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو في 21 سبتمبر الماضي، والذي قال في المرحلة الأولية، بلغت القوات المسلحة الأوكرانية نحو 201 ألف إلى 202 ألف شخص، وبلغ عدد القتلى من الجيش الأوكراني 61207 قتلى، والجرحى 49368 جريحًا، وهو ما يعني أن روسيا حققت هدفها بتحييد قدر كبير من القوة العسكرية لكييف سواء في العنصر البشري أو البنية التحتية والمعدات، وأنه لولا المساعدات العسكرية الأمريكية والأوروبية وعدم رغبة موسكو في تطوير العمليات العسكرية لربما كانت معظم الأراضي الأوكرانية تحت سيطرة  الجيش الروسي.

كما أن روسيا حققت هدفًا استراتيجيًا مهمًا بضمان وجود اتصال دائم ومستمر مع شبه جزيرة القرم التي أعلنت عن ضمها في عام 2014، وكذلك تعزيز وجودها وإطلالتها على البحر الأسود من خلال شواطئ منطقة خيرسون فيما أصبح بحر آزوف بالكامل بحيرة روسية بالموانئ الموجودة عليه، وهو متفرع من البحر الأسود في جزئه الشمالي، ويتصل به عن طريق مضيق كيرتش.

ويطل بحر «آزوف» على أوكرانيا من شماله، وعلى روسيا من جهة الشرق، وشبه جزيرة القرم التي تسيطر عليها موسكو منذ عام 2014، من الغرب، ومع اكتمال السيطرة الروسية على ضفاف بحر آزوف، فإن موسكو ستتمكن من إدخال أسلحتها لقواتها في المناطق الأربع برًا وبحرًا، ويسهل ذلك من عملية انتقال القوات الروسية إلى الحدود الجديدة بعد الضم، وربما تجعل سفنها الحربية أو الغواصات النووية تتمركز فيه، لتدفع بميزان القوى في صالحها أكثر وبما يؤمن شبه جزيرة القرم بشكل أكبر وأفضل، كما أنه يحرم أوكرانيا من قدراتها التصديرية والاستراتيجية، حيث لم يتبق لها إلا منفذ صغير على البحر الأسود.

- 70 % من ثروات أوكرانيا الطبيعية أصبحت تحت يد موسكو

من جهة أخرى أضاف قرار ضم المناطق الأربع مجموعة من المكاسب المميزة إلى روسيا، وتبرز أهمية دونيتسك ولوجانسك على الصعيد الاقتصادي بشكل كبير ومتميز، إذ تضم المنطقة أكبر مناجم الفحم الحجري والحديد والصلب في أوكرانيا، كما أن مدينة ماريوبول الاستراتيجية التي تعد بين أهم موانئ التصدير في البلاد تقع ضمن الحدود الإدارية لدونيتسك.

وتشير الإحصاءات الأوكرانية في فترة ما قبل الحرب إلى أن نحو 70% من ثروات البلاد تتركز في هذا الجزء من البلاد، فضلًا عن أنها تعد عقدة مهمة لشبكة المواصلات البرية والبحرية التي تعبرها صادرات البلاد باتجاه البحر الأسود ومناطق الشرق الأوسط وغيرها.

 ومع سريان قرار الضم بعد اعتماد من مجلس الدوما الروسي، وتصديق فلاديمير بوتين عليه  أمس الأربعاء، تضاف إلى مساحة الاتحاد الروسي 26.52 ألف كيلومتر هي مساحة دونيتسك، و26.68 ألف كيلو مربع هي مساحة لوجانسك، و 27.18 ألف كيلومتر مربع هي مساحة منطقة زابوريجيا، وأخيرًا 28.46 ألف كيلومتر مربع هي مساحة منطقة خيرسون أي موسكو قد اقتطعت 108 آلاف كيلو متر مربع من مساحة أوكرانيا البالغة 603.55 ألف كيلو متر مربع بنسبة قدرها حوالي 18%.

- على ماذا تراهن روسيا في مقابل أوراق أمريكا والغرب؟

تراهن روسيا في المرحلة الجديدة من عمر الأزمة الروسية - الأوكرانية على وجود حالة رفض من قبل المجتمعات والمواطنين في عدة دول منها إسبانيا وإيطاليا وألمانيا وحتى ولو على استحياء في دول أخرى لتضررهم من تداعيات هذه الحرب اقتصاديًا وعلى مستوى توفر الخدمات، خاصة بعد نزول تظاهرات في كل من ألمانيا والنمسا ومطالبتهم بعدم دعم أوكرانيا والحصول على الغاز الروسي، وهو ما تتوقع موسكو أنه سيتزايد كثيرا في الشتاء الذي اقترب كثيرًا.

وكذلك صعود نجم اليمين القومي في عدد من الدول أبرزها إيطاليا، وهو الاتجاه السياسي الذي لا يتفق مع قرارات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، ويرى أن  الدول الأوروبية ما كان يجب أن تتدخل بكل هذا القدر من المباشرة والدعم لأوكرانيا ضد روسيا، ما جعلها تتضرر اقتصاديًا بشكل كبير.

الأمر الآخر الذي تراهن عليه روسيا في عمر المرحلة المقبلة من الأزمة هو عنصرا الطاقة والضغط الاقتصادي على أوروبا، فمع نقص إمدادات الطاقة من الغاز والنفط الروسيين إلى أوروبا ظهرت الخلافات بين دول الاتحاد الأوروبي حول الاستغناء عن إمدادات الغاز الروسي في البداية تطور الأمر أيضًا مع مطالبة موسكو للدول الراغبة في استيراد الغاز بالدفع بالروبل، وهو ما شكل عامل ضغط آخر على أوروبا، وحاليًا ما زالت الخلافات مستمرة حول تحديد سقف لسعر الغاز الروسي فيما رفضت سابقًا عدة دول طلب الاستغناء عن الغاز الروسي، مؤكدة أنها لا يمكنها التجاوب مع هذا الطلب كدولة المجر.

الأمور السابقة جعلت موسكو لا تتعجل في قراراتها ضد الدول الأوروبية بقطع الغاز نهائيًا عنها، ولكن تركت دائمًا منفذًا يوصل القدر الأدنى من احتياجات الدول الأوروبية، ليكون الضغط اقتصاديًا وشعبيًا وسياسيًا على عواصم أوروبا وليس موسكو، وكذلك رهانها على عدم استطاعة الحلف الأوروبي الأمريكي على الصمود كثيرًا، خاصة في ظل الأداء الاقتصادي السيئ لليورو أمام الدولار.

اقرأ أيضًا.. مسارات الحرب الأوكرانية.. ما بين «نووي روسي» وتفاهمات مع أمريكا وأوروبا

 

- سيناريوهات تطور الأزمة خلال الفترة المقبلة

توجد 3 سيناريوهات متوقعة لمسار الأزمة الروسية - الأوكرانية، بعد قرارات الضم والتي ما زالت تحتاج إلى وقت ليتم تنفيذها بشكل كامل على الأرض خاصة رسم حدود المناطق الأربع وتحديدها بشكل نهائي.

أول هذه السيناريوهات، هو أن تتراجع كييف عن رفضها لفكرة المفاوضات وتستجيب لدعوة الرئيس الروسي بوتين بالعودة إلى المفاوضات التي قد تمتد لفترة وتسفر عن عودة الاستقرار وتوقف القتال، ولكن هذا السيناريو مرهون بضعف أو توقف الدعم الأمريكي أو الغربي لكييف، والتي قد تلجأ إليه مضطرة بعد أن تجد نفسها وحيدة في مواجهة روسيا.

السيناريو الثاني، هو أن تتطور الأزمة إثر قيام أوكرانيا بمهاجمة المناطق الأربع والقوات الروسية فيها، مع تكثيف الدعم العسكري والمادي لكييف من أمريكا وأوروبا، ولكن من خلال أسلحة هجومية تقليدية وليست متطورة بما يغير من موازين القوة، فترد روسيا على هذا الهجوم والدعم بعملية عسكرية دفاعية على مستوى أكبر مما دار خلال الأشهر السبعة الفائتة، وتستمر رحى الحرب دائرة بين الطرفين حتى يتمكن الأقوى من إخضاع الآخر بشكل كامل وهنا ترجح كفة روسيا على كفة أوكرانيا رغم الدعم المقدم لها.

السيناريو الثالث هو سيناريو مدمر ومخيف لا يريد أحد الوصول إليه، في هذا السيناريو يكون استخدام الأسلحة النووية أمرًا مرشحًا وبقوة، خاصة إذا ما تحققت تكهنات مراقبين بوصول أسلحة هجومية متقدمة جدًا أو نووية تكتيكية إلى كييف، لتقوم باستخدامها ضد روسيا سواء في المناطق الأربع أو في مناطق روسية، أو قيام حلف «الناتو» بقبول عضوية أوكرانيا أو دول مثل فنلندا أو السويد من الدول المحيطة بروسيا، ووضع قواعد له  في هذه الدول تضم أسلحة أو صواريخ هجومية، وفي هذه الحالة ستنفذ روسيا تهديداتها باستخدام الأسلحة النووية والتي تتراوح ما بين الأسلحة التكتيكية التي قد تزيل مدينة واحدة من الوجود، أو استخدام الأسلحة الاستراتيجية، وفي هذه الحالة قد يكون العالم قد أصبح رسميًا في خضم حرب عالمية جديدة.